صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( وفعلها للرجال في المسجد أفضل ; لأنه أكثر جمعا ، وفي المساجد التي يكثر فيها الناس أفضل ; لما روى أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله - تعالى - } فإن كان في جواره مسجد مختل ففعلها في مسجد الجوار أفضل من فعلها في المسجد الذي يكثر الناس فيه ; لأنه إذا صلى في مسجد الجوار حصلت الجماعة في موضعين ، وأما النساء فجماعتهن في البيوت أفضل لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن } " فإن أرادت المرأة حضور المساجد مع الرجال فإن كانت شابة أو كبيرة تشتهى كره لها الحضور ، وإن كانت عجوزا لا تشتهى لم يكره ; لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى النساء عن الخروج إلا عجوزا في منقليها } ) .


( الشرح ) حديث أبي رواه أبو داود بإسناد فيه رجل لم يبينوا ، ولم يضعفه أبو داود ، وأشار علي بن المديني والبيهقي وغيرهما إلى صحته ، وحديث ابن عمر صحيح رواه أبو داود بلفظه هذا بإسناد صحيح على شرط البخاري ، وحديث العجوز في منقليها غريب ، ورواه البيهقي بإسناد ضعيف موقوفا على ابن مسعود قال : { ما صلت امرأة صلاة أفضل من صلاة في بيتها [ ص: 93 ] إلا مسجدي مكة والمدينة إلا عجوزا في منقليها } والمنقلان الخفان ، هذا هو الصحيح المعروف عند أهل اللغة ، وذكر إمام الحرمين أنهما الخفان الخلقان ، وهما بفتح الميم وكسرها ، لغتان والفتح أشهر ، وقد أوضحتها في التهذيب .

( أما الأحكام ) ففيه مسائل : ( إحداها ) : قال الشافعي في المختصر والأصحاب : فعل الجماعة للرجل في المسجد أفضل من فعلها في البيت والسوق وغيرهما ; لما ذكرناه من الأحاديث في فضل المشي إلى المسجد ، ولأنه أشرف ، ولأن فيه إظهار شعار الجماعة ، فإن كان هناك مساجد فذهابه إلى أكثرها جماعة أفضل للحديث المذكور ، فلو كان بجواره مسجد قليل الجمع وبالبعد منه مسجد أكثر جمعا فالمسجد البعيد أولى إلا في حالين : ( أحدهما ) أن تتعطل جماعة القريب لعدوله عنه لكونه إماما ، أو يحضر الناس بحضوره ، فحينئذ يكون القريب أفضل ( الثاني ) : أن يكون إمام البعيد مبتدعا كالمعتزلي وغيره أو فاسقا أو لا يعتقد وجوب بعض الأركان فالقريب أفضل .

وحكى الخراسانيون وجها : أن مسجد الجوار أفضل بكل حال ، والصحيح الذي قطع به الجمهور هو الأول ، فإن كان مسجد الجوار لا جماعة فيه ، ولو حضر هذا الإنسان فيه لم يحصل جماعة ، ولم يحضر غيره فالذهاب إلى مسجد الجماعة أفضل بالاتفاق

( المسألة الثانية ) يسن الجماعة للنساء بلا خلاف عندنا ، لكن هل تتأكد في حقهن كتأكدها في حق الرجال ؟ فيه الوجهان السابقان : ( أصحهما ) : المنع ، وإمامة الرجل بهن أفضل من إمامة امرأة ; لأنه أعرف بالصلاة ، ويجهر بالقراءة بكل حال ، لكن لا يجوز أن يخلو واحد بامرأة إن لم يكن محرما كما سنوضحه مبسوطا بدليله في باب صفة الأئمة حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى

( الثالثة ) : جماعة النساء في البيوت أفضل من حضورهن المساجد للحديث المذكور .

قال أصحابنا : وصلاتها فيما كان من بيتها أستر أفضل لها لحديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها ، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها } " رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم .

[ ص: 94 ] وإن أرادت المرأة حضور المسجد للصلاة قال أصحابنا : إن كانت شابة أو كبيرة تشتهى كره لها وكره لزوجها ووليها تمكينها منه .

وإن كانت عجوزا لا تشتهى لم يكره ، وقد جاءت أحاديث صحيحة تقتضي هذا التفصيل .

منها ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها } " رواه البخاري ومسلم ولفظه لمسلم ، وفي رواية لهما : { إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن } " وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تمنعوا إماء الله مساجد الله } رواه مسلم .

وعن عائشة قالت : { لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل } " رواه البخاري ومسلم .

( فرع ) يستحب للزوج أن يأذن لها إذا استأذنته إلى المسجد للصلاة إذا كانت عجوزا لا تشتهى وأمن المفسدة عليها وعلى غيرها للأحاديث المذكورة ، فإن منعها لم يحرم عليه ، هذا مذهبنا .

قال البيهقي : وبه قال عامة العلماء ، ويجاب عن حديث " { لا تمنعوا إماء الله مساجد الله } " بأنه نهي تنزيه لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب فلا تتركه للفضيلة

( فرع ) إذا أرادت المرأة حضور المسجد كره لها أن تمس طيبا ، وكره أيضا الثياب الفاخرة لحديث زينب الثقفية امرأة ابن مسعود رضي الله عنه وعنها قالت : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا } " رواه مسلم وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ، ولكن ليخرجن وهن تفلات } رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وتفلات بفتح التاء المثناة فوق وكسر الفاء أي تاركات الطيب

( فرع ) في مذاهب العلماء في الجماعة للنساء قد ذكرنا أن مذهبنا استحبابها لهن .

قال الشيخ أبو حامد : كل صلاة استحب للرجال الجماعة فيها استحب الجماعة فيها للنساء فريضة كانت أو [ ص: 95 ] نافلة ، وحكاه ابن المنذر عن عائشة وأم سلمة وعطاء والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، قال : وقال سليمان بن يسار والحسن البصري ومالك : لا تؤم المرأة أحدا في فرض ، ولا نفل قال : وقال أصحاب الرأي : يكره ويجزيهن ، قال : وقال الشعبي والنخعي وقتادة : تؤمهن في النفل دون الفرض ، واحتج أصحابنا بحديث أم ورقة { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تؤم أهل دارها } " رواه أبو داود ، ولم يضعفه وعن ريطة الحنفية قالت : " أمتنا عائشة فقامت بينهن في الصلاة المكتوبة " وعن حجيرة قالت : " أمتنا أم سلمة في صلاة العصر فقامت بيننا " رواهما الدارقطني والبيهقي بإسنادين صحيحين

( فرع ) في مذاهبهم في حضور العجوز التي لا تشتهى المسجد للصلاة .

قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يكره ذلك في شيء من الصلاة ، قال العبدري : وبه قال أكثر الفقهاء .

وقال أبو حنيفة : يكره إلا في الفجر والعشاء والعيد ، دليلنا عموم الأحاديث الصحيحة في النهي عن منعهن المساجد

التالي السابق


الخدمات العلمية