صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ولا تصح الجماعة حتى ينوي المأموم الجماعة ; لأنه يريد أن يتبع غيره فلا بد من نية الاتباع ، فإن رأى رجلين يصليان على الانفراد فنوى الائتمام بهما لم تصح صلاته ; لأنه لا يمكنه أن يقتدي بهما في وقت واحد ، وإن نوى الاقتداء بأحدهما بغير عينه لم تصح صلاته .

لأنه إذا لم يعين لا يمكنه الاقتداء ، وإن كان أحدهما يصلي بالآخر فنوى الاقتداء بالمأموم لم تصح صلاته ; لأنه تابع لغيره فلا يجوز أن يتبعه غيره ، وإن صلى رجلان فنوى كل واحد منهما أنه هو الإمام لم تبطل صلاته ; لأن كل واحد منهما يصلي لنفسه ، ، وإن نوى كل واحد منهما أنه مؤتم بالآخر لم تصح صلاته ; لأن كل واحد منهما ائتم بمن ليس بإمام ) .


( الشرح ) اتفق نص الشافعي والأصحاب على أنه يشترط لصحة الجماعة أن ينوي المأموم الجماعة والاقتداء والائتمام ، قالوا : وتكون هذه النية مقرونة بتكبيرة الإحرام كسائر ما ينويه ، فإن لم ينو في الابتداء ، وأحرم منفردا ثم نوى الاقتداء في أثناء صلاته ففيه خلاف ذكره المصنف بعد هذا ، وإذا ترك نية الاقتداء والانفراد وأحرم مطلقا انعقدت صلاته منفردا ، فإن [ ص: 96 ] تابع الإمام في أفعاله من غير تجديد نية فوجهان : حكاهما القاضي حسين في تعليقه والمتولي وآخرون ( أصحهما ) وأشهرهما : تبطل صلاته ; لأنه ارتبط بمن ليس بإمام له فأشبه الارتباط بغير المصلي ، وبهذا قطع البغوي وآخرون .

( والثاني ) : لا تبطل ; لأنه أتى بالأركان على وجهها ، وبهذا قطع الأكثرون ، فإن قلنا : لا تبطل صلاته كان منفردا ، ولا يحصل له فضيلة الجماعة بلا خلاف ، صرح به المتولي وغيره .

وإن قلنا : تبطل صلاته فإنما تبطل إذا انتظر ركوعه وسجوده وغيرهما ليركع ويسجد معه وطال انتظاره ، فأما إذا اتفق انقضاء فعله مع انقضاء فعله أو انتظره يسيرا جدا فلا تبطل بلا خلاف ، ولو شك في أثناء صلاته في نية الاقتداء لم تجز له متابعته إلا أن ينوي الآن المتابعة ، وحيث قلنا بجواز الاقتداء في أثناء الصلاة ; لأن الأصل عدم النية ، فإن تذكر أنه كان نوى قال القاضي حسين والمتولي وغيرهما : حكمه حكم من شك في نية أصل الصلاة فإن تذكر قبل أن يفعل فعلا على خلاف متابعة الإمام ، وهو شاك لم يضره .

وإن تذكر بعد أن فعل فعلا على متابعته في الشك بطلت صلاته إذا قلنا بالأصح : إن المنفرد تبطل صلاته بالمتابعة ; لأنه في حال شكه له حكم المنفرد ، وليس له المتابعة حتى قال أصحابنا : لو عرض له هذا الشك في التشهد الأخير لا يجوز أن يقف سلامه على سلام الإمام .

أما إذا اقتدى بإمام فسلم من صلاته ثم شك هل كان نوى الاقتداء ؟ فلا شيء عليه ، وصلاته ماضية على الصحة هذا هو المذهب ، وذكر القاضي حسين في تعليقه أن فيه الخلاف السابق فيمن شك بعد فراغه من الصلاة ، هل ترك ركنا من صلاته أم لا ؟ وهذا ضعيف ، والله أعلم .

أما إذا نوى الاقتداء بمأموم أو نوى الاقتداء باثنين منفردين أو بأحدهما لا بعينه فصلاته باطلة ; لما ذكره المصنف ، ولو صلى رجلان كل واحد منهما نوى أنه مأموم فصلاتهما باطلة .

وإن نوى كل واحد منهما أنه إمام صحت صلاتهما ; لما ذكره المصنف ولو شك كل واحد منهما في أثناء الصلاة أو بعد فراغهما في أنه إمام أم مأموم ، فصلاتاهما باطلتان بالاتفاق ذكره البندنيجي والقاضي حسين وصاحب البيان وغيرهم لاحتمال أن كل واحد نوى الاقتداء بالآخر ، ولو شك أحدهما أنه إمام أو مأموم ، وعلم الآخر أنه إمام أو منفرد [ ص: 97 ] فصلاة الأول باطلة ، وصلاة الثاني صحيحة ، وإن ظن الثاني أنه مقتد بالأول فصلاته باطلة أيضا ، والله أعلم

ولو اقتدى بمأموم وظنه إماما بأن رأى رجلين يصليان ، وقد خالفا سنة الوقوف فوقف المأموم عن يسار الإمام فطريقان : ( المشهور ) منهما الجزم ببطلان صلاته ، وبهذا قطع البندنيجي وصاحب البيان وآخرون ( والثاني ) قاله القاضي حسين : يخرج على الوجهين فيما لو تابع من لم ينو الاقتداء به ; لأنه وقف أفعاله على أفعاله .

قال : ، وهو مشكل لأن من صلى خلف محدث لم يعلم حدثه صحت صلاته ، وإن كان قد وقف فعله على فعله ( قلت : ) الأصح هنا أنه يلزمه الإعادة ; لأنه مفرط بخلاف من صلى خلف المحدث .

( فرع ) قد ذكرنا أنه لا يصح الاقتداء بالمأموم ، وهذا مجمع عليه نقل الأصحاب فيه الإجماع ، وحكى صاحب البيان عن أصحابنا أنهم نقلوا الإجماع على أنه لا يصح ، قال أصحابنا : وأما ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم " صلى في مرضه وكان أبو بكر يقتدي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يقتدون بصلاة أبي بكر ، فمعناه الجميع كانوا مقتدين بالنبي صلى الله عليه وسلم ولكن أبا بكر يسمعهم التكبير ، وقد جاء هذا اللفظ مصرحا به في روايتين في صحيح مسلم قال : وأبو بكر يسمعهم التكبير

( فرع ) في اشتراط نية الاقتداء في صلاة الجمعة وجهان حكاهما الرافعي ( الصحيح ) المشهور : الاشتراط كغيرها ( والثاني ) لا يشترط ; لأنها لا تصح إلا في جماعة فلم يحتج إلى نيتها .

( فرع ) لا يجب على المأموم تعيين الإمام في نيته ، بل يكفيه نية الاقتداء بالإمام الحاضر ، أو إمام هذه الجماعة ، فلو عين وأخطأ نظر إن لم يشر إلى الإمام بأن نوى الاقتداء بزيد ، وهو يظن الإمام زيدا فبان عمرا لم تصح صلاته ; لأنه اقتدى بغائب ، وهو كمن عين الميت في صلاة الجنازة ، وأخطأ لا تصح صلاته ، وكمن نوى العتق عن كفارة ظهاره فكان الذي عليه كفارة قتل لا تجزئه ، وإن نوى الاقتداء بزيد هذا الإمام فكان عمرا ففي صحة اقتدائه به وجهان لتعارض إشارته وتسميته والأصح : صحة الاقتداء ، ونظيره لو قال بعتك هذه الفرس فكان بغلا ، وفيه خلاف مشهور ، والله أعلم .

[ ص: 98 ] فرع ) ينبغي للإمام أن ينوي الإمامة فإن لم ينوها صحت صلاته وصلاة المأمومين .

وفي وجه غريب حكاه الرافعي عن حكاية أبي الحسن العبادي عن أبي حفص البابشامي والقفال أنهما قالا : يجب على الإمام نية الإمامة وأشعر كلام العبادي بأنهما يشترطانها في صحة الاقتداء ، والصواب : أن نية الإمامة لا تجب ، ولا تشترط لصحة الاقتداء وبه قطع جماهير أصحابنا ، وسواء اقتدى به رجال أم نساء ، لكن يحصل فضيلة الجماعة للمأمومين ، وفي حصولها للإمام ثلاثة أوجه : ( أصحها ) وأشهرها : لا تحصل ، وبه قطع الشيخ أبو محمد الجويني والفوراني وآخرون ، لأن الأعمال بالنيات ( والثاني ) : تحصل ; لأنها حاصلة لمتابعيه فوجب أن تحصل له ( والثالث ) : قاله القاضي حسين إن علمهم ، ولم ينو الإمامة لم تحصل ، وإن كان منفردا ثم اقتدوا به ، ولم يعلم اقتداءهم حصل له ثواب الجماعة قال الرافعي : ومن فوائد الخلاف أنه إذا لم ينو الإمامة في صلاة الجمعة هل تصح جمعته ؟ فالأصح أنها لا تصح ، ولو نوى الإمامة وعين المقتدي فبان خلافه لم يضر ، لأن غلطه لا يزيد على ترك النية ، ولأنه لا يربط صلاته بصلاته ، والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء في نية الإمامة ذكرنا أن المشهور من مذهبنا أنه لا يشترط لصحة الجماعة ، وبه قال مالك وآخرون ، وقال الأوزاعي والثوري وإسحاق : تجب ، وعن أحمد روايتان كالمذهبين ، وقال أبو حنيفة وصاحباه : إن صلى برجل لم تجب ، وإن صلى بامرأة أو نساء وجبت

التالي السابق


الخدمات العلمية