صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ومن صلى منفردا ثم أدرك جماعة يصلون استحب له أن يصلي معهم ، وحكى أبو إسحاق عن بعض أصحابنا أنه قال : إن كان صبحا أو عصرا لم يستحب ; لأنه منهي عن الصلاة بعدهما ، والمذهب الأول ; لما روى يزيد بن الأسود العامري { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الغداة في مسجد الخيف فرأى في آخر القوم رجلين لم يصليا معه فقال : ما منعكما أن تصليا معنا ؟ قالا : يا رسول الله ، قد صلينا في رحالنا ، قال : فلا تفعلا ، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة } فإن صلى في جماعة ثم أدرك جماعة أخرى ففيه وجهان ( أحدهما ) : يعيد للخبر ( والثاني ) : لا يعيد ; لأنه قد حاز فضيلة الجماعة ، وإذا صلى ثم أعاد مع الجماعة فالفرض هو الأول في قوله الجديد للخبر ، ولأنه أسقط الفرض بالأولى فوجب أن تكون الثانية نفلا .

وقال في القديم : يحتسب الله أيتهما شاء ، وليس بشيء ) .


( الشرح ) حديث يزيد رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح وقوله ( صلاة الغداة ) دليل على أنه لا بأس بتسمية الصبح غداة ، وقد كثر ذلك من استعمال الصحابة في الصحيحين وغيرهما ، وقد أوضحت ذلك ، ونبهت عليه في مواضع من شرح صحيح مسلم ، وقد سبق في المهذب في باب مواقيت الصلاة بيان المسألة واضحا ، والرحال : المنازل من مدر أو وبر وشعر وغير ذلك .

( أما حكم المسألة ) فإذا صلى الإنسان الفريضة منفردا ثم أدرك جماعة يصلونها في الوقت استحب له أن يعيدها معهم وفي وجه شاذ يعيد الظهر والعشاء فقط ولا يعيد الصبح والعصر ; لأن الثانية نافلة ، والنافلة بعدهما مكروهة ، ولا المغرب ; لأنه لو أعادها لصارت شفعا .

هكذا عللوه ، وينبغي أن تعلل بأنها يفوت وقتها تفريعا على الجديد وهذا الوجه غلط ، وإن كان مشهورا عند الخراسانيين ، وحكي وجه ثالث : يعيد الظهر والعصر والمغرب ، وهو ضعيف أيضا أما إذا صلى جماعة ثم أدرك جماعة أخرى ففيه أربعة أوجه : ( الصحيح ) منها عند جماهير الأصحاب يستحب إعادتها للحديث [ ص: 121 ] المذكور ، والحديث السابق في المسألة قبلها { من يتصدق على هذا ؟ } وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة .

( والثاني ) : لا يستحب لحصول الجماعة .

قالوا : فعلى هذا تكره إعادة الصبح والعصر ; لما ذكرناه .

ولا يكره غيرهما ( والثالث ) : يستحب إعادة ما سوى الصبح والعصر ( والرابع ) : إن كان في الجماعة الثانية زيادة فضيلة لكون الإمام أعلم أو أورع أو الجمع أكثر أو المكان أشرف استحب الإعادة وإلا فلا ، والمذهب استحباب الإعادة مطلقا ، وممن صرح بتصحيحه الشيخ أبو حامد ، ونقل أنه ظاهر نصه في الجديد والقديم وصححه أيضا القاضي أبو الطيب والبندنيجي والماوردي والمحاملي وابن الصباغ والبغوي وخلائق كثيرون لا يحصون ، ونقله الرافعي عن الجمهور .

وإذا استحببنا الإعادة لمن صلى منفردا أو في جماعة فأعاد ففي فرضه قولان ووجهان ( الصحيح ) من القولين وهو الجديد فرضه الأول لسقوط الخطاب بها ، ولقوله صلى الله عليه وسلم " فإنها لكما نافلة " يعني الثانية ، وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأئمة الذين يؤخرون الصلاة قال : { صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة } رواه مسلم من طرق ، والقول الثاني ، وهو القديم أن فرضه إحداها لا بعينها ، ويحتسب الله بما شاء منهما وعبر بعض أصحابنا عن هذا القول بأن الفرض أكملهما ، وأحد الوجهين كلاهما فرض ، حكاه الخراسانيون وهو مذهب الأوزاعي ، ووجهه أن كلا منهما مأمور بها والأولى مسقطة للحرج لا مانعة من وقوع الثانية فرضا ، وهذا كما قال أصحابنا في صلاة الجنازة إذا صلتها طائفة سقط الحرج عن الباقين .

فلو صلت طائفة أخرى وقعت الثانية فرضا أيضا ، وتكون الأولى مسقطة للحرج عن الباقين لا مانعة من وقوع فعلها فرضا .

وهكذا الحكم في جميع فروض الكفايات ، وقد سبق بيان هذا في مقدمة هذا الشرح .

( والوجه الثاني ) : الفرض أكملهما ، وأما كيفية النية في المرة الثانية فإن قلنا بغير الجديد نوى بالثانية الفريضة أيضا وإن قلنا بالجديد فوجهان ( أصحهما ) عند الأصحاب ، وبه قال الأكثرون : ينوي بها الفرض أيضا ، [ ص: 122 ] قالوا : ولا يمتنع أن ينوي الفرض ، وإن كانت نفلا هكذا صححه الأكثرون ، ونقل الرافعي تصحيحه عن الأكثرين .

( والثاني ) ينوي الظهر أو العصر مثلا ، ولا يتعرض للفرض ، وهذا هو الذي اختاره إمام الحرمين ، وهو المختار الذي تقتضيه القواعد والأدلة ، فعلى هذا إن كانت الصلاة مغربا فوجهان حكاهما الخراسانيون ( الصحيح ) منهما أنه يعيدها كالمرة الأولى ( والثاني ) يستحب إذا سلم الإمام أن يقوم بلا سلام فيأتي بركعة أخرى ثم يسلم لتصير هذه الصلاة مع التي قبلها وترا .

كما إذا صلى المغرب وترا ، وهذا الوجه غلط صريح ، ولولا خوف الاغترار به لما حكيته ، والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء في ذلك قد ذكرنا أن الصحيح عند أصحابنا : استحباب إعادة جميع الصلوات في جماعة سواء صلى الأولى جماعة أم منفردا ، وهو قول سعيد بن المسيب وابن جبير والزهري ، ومثله عن علي بن أبي طالب ، وحذيفة وأنس رضي الله عنهم ، ولكنهم قالوا في المغرب : يضيف إليها أخرى ، وبه قال أحمد ، وعندنا لا يضيف ، وقال ابن مسعود ومالك والأوزاعي والثوري : يعيد الجميع إلا المغرب لئلا تصير شفعا ، وقال الحسن البصري : يعيد الجميع إلا الصبح والعصر ، وقال أبو حنيفة : يعيد الظهر والعشاء فقط ، وقال النخعي : يعيدها كلها إلا الصبح والمغرب ، وهذه المذاهب ضعيفة لمخالفتها الأحاديث ، ودليلنا عموم الأحاديث الصحيحة السابقة ، والله أعلم . .

التالي السابق


الخدمات العلمية