صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( وينبغي للمأموم أن يتبع الإمام ولا يتقدمه في شيء من الأفعال ; لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا وإذا قال : سمع الله لمن حمده فقولوا : اللهم ربنا لك الحمد ، وإذا سجد فاسجدوا ولا ترفعوا قبله } فإن كبر قبله أو كبر معه للإحرام لم تنعقد صلاته ; لأنه علق صلاته بصلاته قبل أن تنعقد فلم تصح ، وإن سبقه بركن بأن ركع قبله أو سجد قبله لم يجز ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم { أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل صورته صورة حمار } ويلزمه أن يعود إلى متابعته ; لأن ذلك فرض فإن لم يفعل حتى لحقه فيه لم تبطل صلاته ; لأن ذلك مفارقة قليلة ، وإن ركع قبل الإمام فلما أراد الإمام أن يركع رفع فلما أراد الإمام أن يرفع سجد فإن كان عالما بتحريمه بطلت صلاته ; لأن ذلك مفارقة كثيرة ، وإن كان جاهلا بتحريمه لم تبطل صلاته ، ولا يعتد له بهذه الركعة ; لأنه لم يتابع الإمام في معظمها ، وإن ركع قبله فلما ركع الإمام رفع ، ووقف حتى رفع الإمام واجتمع معه في القيام - لم تبطل صلاته ; لأنه تقدم بركن واحد ، وذلك قدر يسير ، وإن سجد الإمام سجدتين وهو قائم ففيه وجهان : ( أحدهما ) : تبطل صلاته ; لأنه تأخر عنه بسجدتين وجلسة بينهما ، وقال أبو إسحاق : لا تبطل ; لأنه تأخر بركن واحد وهو السجود ) .


( الشرح ) الحديثان المذكوران رواهما البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة باللفظ الذي ذكرته هنا ، وفيه بعض مخالفة في الحروف للفظه في المهذب وقوله : ( واجتمع معه ) هذه اللفظة قد أنكرها الحريري في كتابه درة الغواص وقال : لا يقال اجتمع فلان مع فلان ، وإنما يقال اجتمع فلان وفلان ، وجوزها غيره .

( أما أحكام الفصل ) فقد اختصرها المصنف وحذف معظم مقاصدها وأنا أذكرها إن شاء الله - تعالى - مستوفاة الأحكام مختصرة الألفاظ والدلائل قال [ ص: 130 ] أصحابنا - رحمهم الله - : يجب على المأموم متابعة الإمام ، ويحرم عليه أن يتقدمه بشيء من الأفعال للحديث المذكور ، وقد نص الشافعي على تحريم سبقه بركن ، ونقل الشيخ أبو حامد نصه وقرره ، وكذلك غيره من الأصحاب قالوا : والمتابعة أن يجري على أثر الإمام بحيث يكون ابتداؤه لكل فعل متأخرا عن ابتداء المأموم ، ومقدما على فراغه منه ، وكذلك يتابعه في الأقوال فيتأخر ابتداؤه عن أول ابتداء الإمام إلا في التأمين فإنه يستحب مقارنته كما أوضحناه في موضعه .

فلو خالفه في المتابعة فله أحوال : ( أحدها ) : أن يقارنه فإن قارنه في تكبيرة الإحرام ، أو شك في مقارنته أو ظن أنه تأخر فبان مقارنته لم تنعقد صلاته باتفاق أصحابنا مع نصوص الشافعي وبه قال مالك وأبو يوسف وأحمد وداود وقال الثوري وأبو حنيفة وزفر ومحمد : تنعقد كما لو قارنه في الركوع .

دليلنا الحديث المذكور ، ويخالف الركوع ; لأن الإمام هناك داخل في الصلاة بخلاف مسألتنا .

قال أصحابنا : ويشترط تأخر جميع تكبيرة المأموم عن جميع تكبيرة الإمام ، وإن قارنه في السلام فوجهان مشهوران للخراسانيين : ( أصحهما ) : يكره ولا تبطل صلاته ( والثاني ) : تبطل .

وإن قارنه فيما سوى ذلك لم تبطل صلاته بالاتفاق ولكن يكره ، قال الرافعي : وتفوت به فضيلة الجماعة .

( الحال الثاني ) : أن يتخلف عن الإمام ، فإن تخلف بغير عذر نظرت فإن تخلف بركن واحد لم تبطل صلاته على الصحيح المشهور ، وفيه وجه للخراسانيين أنها تبطل ، وإن تخلف بركنين بطلت بالاتفاق لمنافاته للمتابعة قال أصحابنا : ومن التخلف بلا عذر أن يركع الإمام فيشتغل المأموم بإتمام قراءة السورة قالوا : وكذا لو اشتغل بإطالة تسبيح الركوع والسجود ، وأما بيان صورة التخلف بركن فيحتاج إلى معرفة الركن الطويل والقصير ، فالقصير الاعتدال عن الركوع ، وكذا الجلوس بين السجدتين على أصح الوجهين والطويل ما عداهما قال أصحابنا : والطويل مقصود في نفسه .

وفي القصير وجهان للخراسانيين : ( أصحهما ) وبه قال الأكثرون ومال إمام الحرمين إلى الجزم به : أنه مقصود في نفسه .

( والثاني ) : لا بل تابع لغيره ، وبه قطع البغوي .

فإذا ركع الإمام فركع المأموم وأدركه في ركوعه فليس متخلفا [ ص: 131 ] بركن فلا تبطل صلاته قطعا .

فلو اعتدل الإمام والمأموم بعد في القيام ففي بطلان صلاته وجهان : ( أصحهما ) : لا تبطل .

واختلف في مأخذهما فقيل : مبنيان على أن الاعتدال ركن مقصود أم لا ؟ إن قلنا مقصود بطلت ; لأن الإمام فارق ركنا واشتغل بركن آخر مقصود ، وإلا فلا تبطل كما لو أدركه في الركوع .

وقيل مبنيان على أن التخلف بركن يبطل أم لا ؟ إن قلنا يبطل فقد تخلف بركن الركوع تاما فتبطل صلاته .

وإن قلنا لا فما دام في الاعتدال لم يكمل الركن الثاني فلا تبطل فلو هوى إلى السجود ، ولم يبلغه ، والمأموم بعد في القيام فإن قلنا بالمأخذ الأول لم تبطل ; لأنه لم يشرع في ركن مقصود ، وإن قلنا بالثاني بطلت ; لأن ركن الاعتدال قد تم هكذا رتب المسألة إمام الحرمين والغزالي وغيرهما .

قال الرافعي : وقياسه أن يقال : إذا ارتفع عن حد الركوع ، والمأموم بعد في القيام فقد حصل التخلف بركن ، وإن لم يعتدل الإمام فتبطل الصلاة إن قلنا التخلف بركن مبطل أما إذا انتهى الإمام إلى السجود ، والمأموم بعد في القيام فتبطل صلاته بلا خلاف ; لما ذكره المصنف ثم إن اكتفينا بابتداء الهوي من الاعتدال وابتداء الارتفاع عن حد الركوع فالتخلف بركنين هو أن يتم للإمام ركنان ، والمأموم بعد فيما قبلهما .

والتخلف بركن أن يتم الإمام الركن الذي سبق إليه ، والمأموم بعد فيما قبله .

وإن لم نكتف بذلك فللتخلف شرط آخر ، وهو أن يلابس بعد تمامهما أو تمامه ركن آخر ، ومقتضى كلام البغوي ترجيح البطلان فيما إذا تخلف بركن كامل مقصود بأن استمر في الركوع حتى اعتدل الإمام وسجد ، هذا كله في التخلف بلا عذر ، أما الأعذار فأنواع : منها : الخوف .

وسيأتي في باب صلاة الخوف إن شاء الله - تعالى .

ومنها : أن يكون المأموم بطئ القراءة لضعف لسانه ونحوه لا لوسوسة ، والإمام سريعها ، فيركع قبل أن يتم المأموم الفاتحة فوجهان : حكاهما جماعة من الخراسانيين منهم الرافعي .

أحدهما : يتابعه ويسقط عن المأموم باقيها فعلى هذا إن اشتغل بإتمامها كان متخلفا بلا عذر .

والصحيح الذي قطع به البغوي والأكثرون لا يسقط باقيها بل يلزمه أن يتمها ويسعى خلف الإمام على نظم صلاة نفسه ما لم يسبقه بأكثر من ثلاثة أركان مقصودة .

[ ص: 132 ] فإن زاد على الثلاثة فوجهان : ( أحدهما ) : يجب أن يخرج نفسه عن المتابعة لتعذر الموافقة ( وأصحهما ) : له الدوام على متابعته ، وعلى هذا وجهان : ( أحدهما ) : يراعي نظم صلاته ، ويجري على أثره .

وبهذا أفتى القفال ( وأصحهما ) : يوافقه فيما هو فيه .

ثم يتدارك ما فاته بعد سلام الإمام ، وهما كالقولين في مسألة الزحام المذكورة في باب الجمعة ، ومنها أخذوا التقدير بثلاثة أركان مقصودة ; لأن القولين في مسألة الزحام إنما هما إذا ركع الإمام في الثانية ، وقبل ذلك لا يوافقه .

وإنما يكون التخلف قبله بالسجدتين والقيام ، ولم يعتبر الجلوس بين السجدتين على قول من قال : إنه غير مقصود ولا يجعل التخلف بغير المقصود مؤثرا .

وأما من لا يفرق بين المقصود وغيره أو يفرق ويجعل الجلوس مقصودا أو ركنا طويلا ; فالقياس على أصله ; التقدير بأربعة أركان أخذا من مسألة الزحام ، ولو اشتغل المأموم بدعاء الاستفتاح فركع الإمام قبل فراغه من الفاتحة أتمها كبطيء القراءة ، هذا كله في المأموم الموافق أما المسبوق إذا قرأ بعض الفاتحة فركع الإمام فقد سبق في ركوعه وإتمامه الفاتحة ثلاثة أوجه :

ومنها الزحام ، وسيأتي في الجمعة إن شاء الله - تعالى .

ومنها النسيان ، فلو ركع مع الإمام ثم تذكر أنه نسي الفاتحة أو شك في قراءتها لم يجز أن يعود لقراءتها لفوات محلها ووجوب متابعة الإمام ، فإذا سلم الإمام لزمه أن يأتي بركعة ، ولو تذكر ترك الفاتحة أو شك فيه ، وقد ركع الإمام ، ولم يكن هو ركع ; لم تسقط القراءة بالنسيان ، وفي واجبه وجهان : ( أحدهما ) : يركع معه فإذا سلم الإمام لزمه أن يأتي بركعة ( وأصحهما ) : تجب قراءتها ، وبه أفتى القفال ، وعلى هذا تخلفه تخلف معذور على أصح الوجهين : ( والثاني ) : أنه غير معذور لتقصيره بالنسيان .

( الحال الثالث ) : أن يتقدم المأموم على الإمام بركوع أو غيره من الأفعال فقد ذكرنا أنه يحرم التقدم ثم ينظر إن لم يسبق بركن كامل بأن ركع قبل الإمام فلم يرفع حتى ركع الإمام ; لم تبطل صلاته عمدا كان أو سهوا ; لأنه مخالفة يسيرة هذا هو المذهب ، وبه قطع المصنف والجمهور ، وحكى أبو علي الطبري والقاضي أبو الطيب والرافعي وجها أنه إن تعمد بطلت صلاته .

وهو شاذ ضعيف .

وإذا قلنا : لا تبطل فهل يعود ؟ فيه ثلاثة أوجه :

[ ص: 133 ] الصحيح الذي قطع به جماهير العراقيين وجماعات من غيرهم : يستحب أن يعود إلى القيام ويركع معه .

ولا يلزم ذلك ، ونقل القاضي أبو الطيب وغيره هذا عن نص الشافعي ( والثاني ) : يلزمه العود إلى القيام ، وبه قطع المصنف والشيخ أبو حامد هنا ، ونقله أبو حامد عن نص الشافعي في القديم ، وقال في باب صفة الصلاة : يستحب له العود ، ونقل عن نصه في الأم أنه قال : عليه أن يعود فإن لم يفعل أجزأه .

قال أبو حامد : وسواء تعمد السبق أم سها ( والثالث ) : وبه قطع إمام الحرمين والبغوي : يحرم العود فإن عاد عمدا بطلت صلاته ، وعلى هذا الوجه لو كان تقدمه سهوا فوجهان : ( أصحهما ) : يتخير بين العود والدوام في الركوع حتى يركع الإمام ( والثاني ) : يجب العود فإن لم يعد بطلت صلاته وإن سبق بركنين بطلت صلاته إن كان عامدا عالما بتحريمه ، وإن كان ساهيا أو جاهلا بتحريمه لم تبطل لكن لا يعيد تلك الركعة ; لأنه لم يتابع الإمام في معظمها فيلزمه أن يأتي بركعة بعد سلام الإمام ، ولا تخفى صورة التقدم بركنين من قياس ما سبق في التخلف ، ومثل المصنف وغيره من العراقيين ذلك بما إذا ركع قبل الإمام فلما أراد الإمام أن يركع رفع هو فلما أراد الإمام أن يرفع سجد قال الرافعي : وهذا يخالف ذلك القياس قال : فيجوز أن يقدر مثله في التخلف ، ويجوز أن يخص هذا بالتقديم ; لأن المخالفة فيه أفحش ، وإن سبق بركن مقصود بأن ركع قبل الإمام ، ورفع والإمام في القيام ثم وقف حتى رفع الإمام واجتمعا في الاعتدال فوجهان : ( أحدهما ) : تبطل صلاته قاله الصيدلاني وجماعة قالوا : فإن سبق بركن غير مقصود فإن اعتدل وسجد ، والإمام بعد في الركوع أو سبق بالجلوس بين السجدتين بأن رفع رأسه من السجدة الأولى وجلس وسجد الثانية ، والإمام بعد في السجدة الأولى فوجهان : والوجه الثاني من الأصل أن التقدم بركن لا يبطل كالتخلف به ، وبهذا قطع المصنف وسائر العراقيين وجماعات من غيرهم ، وهو الصحيح المنصوص ، هذا كله في التقدم في الأفعال ، وأما السبق بالأقوال فإن كان بتكبيرة الإحرام فقد ذكرنا حكمه في أول الفصل .

وإن فرغ من الفاتحة أو التشهد قبل شروع الإمام فيها فثلاثة أوجه : ( الصحيح ) لا يضر بل يجزيان ; لأنه لا يظهر فيه المخالفة ( والثاني ) : [ ص: 134 ] تبطل به الصلاة ( والثالث ) : لا تبطل لكن لا تجزئ بل يجب قراءتهما مع قراءة الإمام أو بعدها والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية