صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( وإن سها الإمام في صلاته فإن كان في قراءة فتح عليه المأموم ; لما روى أنس قال : " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن بعضهم بعضا في الصلاة " وإن كان في ذكر غيره جهر به المأموم ليسمعه [ الإمام ] فيقوله ، وإن سها في فعل سبح له ليعلمه فإن لم يقع للإمام أنه سها لم يعمل بقول المأموم ; لأن من شك في فعل نفسه لم يرجع فيه إلى قول غيره ، كالحاكم إذا نسي حكما حكم به فشهد شاهدان عليه أنه حكم به وهو لا يذكره ، وأما المأموم فينظر فيه فإن كان سهو الإمام في ترك فرض مثل أن يقعد وفرضه أن يقوم ، أو يقوم وفرضه أن يقعد لم يتابعه ; لأنه إنما يلزمه متابعته في أفعال الصلاة ، وما يأتي به ليس من أفعال الصلاة ، وإن كان سهوه في ترك سنة لزمه متابعته ; لأن المتابعة فرض فلا يجوز أن يشتغل بسنة فإن نسي الإمام التسليمة الثانية أو سجود السهو لم يتركه المأموم ; لأنه يأتي به وقد سقط عنه فرض المتابعة ، فإن نسيا جميعا التشهد الأول ، ونهضا للقيام ، وذكر الإمام قبل أن يستتم القيام ، والمأموم قد استتم القيام ففيه وجهان : ( أحدهما ) : لا يرجع ; لأنه حصل في فرض ( والثاني ) يرجع ، وهو الأصح ; لأن متابعة الإمام آكد ، ألا ترى أنه إذا رفع رأسه من الركوع أو السجود قبل الإمام لزمه العود إلى متابعته ، وإن كان حصل في فرض ) .


( الشرح ) حديث أنس رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد ضعيف ، ورواه الحاكم من طرق بألفاظ ، وقال : هو حديث صحيح بشواهد .

( قوله ) : فتح عليه هو بتخفيف التاء أي : لقنه وفتح القراءة عليه ( وقوله ) : لزمه العود إلى متابعته .

هذا تفريع منه على طريقته ، وقد ذكرنا في المسألة قريبا ثلاثة أوجه : ( أما أحكام الفصل ) ففيه مسائل : ( إحداها ) : إذا ارتج على الإمام ، ووقفت عليه القراءة استحب للمأموم تلقينه ; لما سنذكره في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله - تعالى ، وكذا إذا كان يقرأ في موضع فسها وانتقل إلى غيره يستحب تلقينه ، وكذا إذا سها عن ذكر فأهمله ، أو قال غيره يستحب للمأموم أن يقوله جهرا ليسمعه فيقوله ( الثانية ) إذا سها الإمام في فعل فتركه أو هم بتغييره يستحب [ ص: 135 ] للمأموم أن يسبح ليعلمه الإمام ، وقد سبق بيان دليل التسبيح في هذا في باب ما يفسد الصلاة ، فإن تذكر الإمام عمل بذلك ، وإن لم يقع في قلبه ما نبهه عليه المأموم لم يجز له أن يعمل بقول المأمومين بل يجب عليه العمل بيقين نفسه في الزيادة والنقص ، ولا يقلدهم ، وإن كان عددهم كثيرا ، وكذا لا يقلد غيرهم ممن هو حاضر هناك ، وصرح بلفظه سواء كان المخبرون قليلين أو كثيرين ، هذا هو الصحيح ، وبه قطع المصنف والأكثرون .

وذكر جماعة فيما إذا كان المخبرون كثيرين كثرة ظاهرة بحيث يبعد اجتماعهم على الخطأ وجهين : ( أحدهما ) : لا يرجع إلى قولهم ( والثاني ) : يرجع ، وممن حكاهما المتولي والبغوي وصاحب البيان ، قال في البيان : قال أكثر الأصحاب : لا يرجع إليهم ، وقال أبو علي الطبري : يرجع وصحح المتولي الرجوع لحديث ذي اليدين السابق في باب السهو فإن ظاهره رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول المأمومين الكثيرين ، وأجاب جمهور الأصحاب عن هذا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يرجع إلى قولهم ، بل رجع إلى يقين نفسه .

حين ذكروه فتذكر ، ولو جاز الرجوع إلى قول غير الإنسان لصدقه وترك اليقين لرجوع ذي اليدين إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال " { لم تقصر الصلاة ولم أنس ، فقال ذو اليدين : بل نسيت } والله أعلم .

( الثالثة ) : إذا ترك الإمام فعلا فإن كان فرضا بأن قعد في موضع القيام أو عكسه ، ولم يرجع لم يجز للمأموم متابعته في تركه ; لما ذكره المصنف سواء تركه عمدا أو سهوا ; لأنه إن تركه عمدا فقد بطلت صلاته ، وإن تركه سهوا ففعله غير محسوب بل يفارقه ويتم منفردا .

وإن ترك سنة فإن كان في اشتغال المأموم بها تخلف فاحش كسجود التلاوة والتشهد الأول ; لم يجز للمأموم الإتيان بها .

فإن فعلها بطلت صلاته وله فراقه ليأتي بها ، وإن ترك الإمام سجود السهو أو التسليمة الثانية أتى به المأموم ; لأنه يفعله بعد انقضاء القدوة فإن لم يكن في اشتغال المأموم بها تخلف فاحش بأن ترك الإمام جلسة الاستراحة أتى بها المأموم ، قال أصحابنا : لأن المخالفة فيها يسيرة ، قالوا : ولهذا لو أراد قدرها في غير موضعها لم تبطل صلاته ، وقالوا : لا بأس بتخلفه للقنوت إذا تركه الإمام ولحقه على قرب بأن لحقه في السجدة الأولى [ ص: 136 ] الرابعة ) : إذا قعد الإمام للتشهد الأول وانتصب المأموم قائما سهوا أو نهضا للقيام ساهيين فانتصب المأموم ، وعاد الإمام إلى الجلوس قبل انتصابه ففي المأموم وجهان : مشهوران أطلقهما المصنف والغزالي وطائفة فقالوا : ( أحدهما ) : يرجع ( والثاني ) : لا يرجع ، وقال الشيخ أبو حامد وآخرون من العراقيين : ( أصحهما ) : يجب الرجوع إلى متابعة الإمام ( والثاني ) : لا يجب ، وقطع البغوي بوجوب الرجوع ، وقال إمام الحرمين : ( أحدهما ) : يجوز الرجوع ( والثاني ) : لا يجوز قال : ولم يوجب أحد الرجوع ، وكأنه لم ير نقل العراقيين في الوجوب ، ويحمل كلام المصنف على أن مراده أن الوجهين : في الوجوب ، وفي كلامه إشارة إليه وكلام الغزالي على أنهما في الجواز ; لأنه نقل من كلام الإمام وحاصل الخلاف ثلاثة أوجه : ( أصحهما ) : يجب الرجوع ( والثاني ) : يحرم ( والثالث ) : يجوز ، ولا يجب .

ودليل الأصح : أن متابعة الإمام آكد ، ثم يحصل معها التشهد ، ولا يفوت القيام الذي هو فيه بخلاف عكسه ، وأما قول الأخير أن من تلبس بفرض لا يرجع إلى سنة ، ولا نسلم رجوعه إلى سنة بل إلى متابعة الإمام الواجبة ، وقد سبقت هذه الأوجه مع فروعها في باب سجود السهو والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء في تلقين الإمام : قد ذكرنا أن مذهبنا : استحبابه ، وحكاه ابن المنذر عن عثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب وابن عمر وعطاء والحسن وابن سيرين وابن معقل ( بالقاف ) ونافع بن جبير وأبي أسماء الرحبي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق قال : وكرهه ابن مسعود وشريح والشعبي والثوري ومحمد بن الحسن .

قال ابن المنذر : بالتلقين أقول ، وقد يحتج لمن كرهه بحديث أبي إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا علي { لا تفتح على الإمام في الصلاة } ودليلنا على استحبابه حديث المسور بضم الميم وفتح السين وتشديد الواو بن يزيد المالكي الصحابي رضي الله عنه قال " { شهدت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلوات فترك شيئا لم يقرأه فقال له رجل : يا رسول الله إنه كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلا أذكرتنيها ؟ } رواه أبو داود بإسناد جيد ، ولم يضعفه ، ومذهبه أن ما لم يضعفه فهو حسن عنده .

[ ص: 137 ] وعن ابن عمر رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فقرأ فيها فلبس عليه فلما انصرف قال لأبي أصليت معنا ؟ قال : نعم ، قال ، فما منعك ؟ } رواه أبو داود بإسناد صحيح كامل الصحة ، وهو حديث صحيح ، وأما حديث النهي الذي احتج به الكارهون فضعيف جدا لا يجوز الاحتجاج به ; لأن الحارث الأعور ضعيف باتفاق المحدثين معروف بالكذب ، ولأن أبا داود قال في هذا الحديث : لم يسمع أبو إسحاق من الحارث إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها

التالي السابق


الخدمات العلمية