صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( وإن نوى المأموم مفارقة الإمام وأتم لنفسه فإن كان لعذر لم تبطل صلاته " { ; لأن معاذا رضي الله عنه أطال القراءة فانفرد عنه أعرابي وذكر ذلك [ ص: 142 ] للنبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه } وإن كان لغير عذر ففيه قولان : ( أحدهما ) : تبطل ; لأنهما صلاتان مختلفتان في الحكم فلا يجوز أن ينتقل من إحداهما إلى الأخرى كالظهر والعصر ( والثاني ) : يجوز وهو الأصح ; لأن الجماعة فضيلة فكان له تركها كما لو صلى بعض صلاة النفل قائما ثم قعد ) .


( الشرح ) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم من رواية جابر ، ثم في روايات البخاري ومسلم وغيرهما أن هذه القصة كانت في صلاة العشاء وفي رواية لأبي داود والنسائي كانت في المغرب وفي رواية الصحيحين وغيرهما أن معاذا افتتح سورة البقرة ، وفي رواية للإمام أحمد من رواية بريدة أنه في صلاة العشاء فقرأ ( { اقتربت الساعة } ) فيجمع بين الروايات بأن يحمل على أنهما قضيتان لشخصين ، فقد اختلف في اسم هذا الرجل كما سنوضحه إن شاء الله - تعالى ، ولعل ذلك كان في ليلة واحدة فإن معاذا لا يفعله بعد النهي ، ويبعد أنه نسي النهي ، وأشار البيهقي إلى ترجيح رواية العشاء ورد الرواية الأخرى فقال : روايات العشاء أصح ، وهو كما قال ، لكن الجمع بين الروايات أولى ، وجمع بعض العلماء بين رواية القراءة بالبقرة والقراءة ب ( اقتربت ) بأنه قرأ هذه في ركعة وهذه في ركعة وأما قول المصنف فانفرد عنه أعرابي فليس بمقبول ، بل الصواب : انصرف عنه أنصاري صاحب ناضج ونخل .

هكذا جاء مبينا في الصحيحين ، واختلف في اسمه ففي رواية لأبي داود اسمه حزم بن أبي كعب ، وقيل اسمه حازم ، وقيل سليم ، والأصح أنه حرام بالراء بن ملحان خال أنس بن مالك ولم يذكر الخطيب البغدادي في المهمات غيره .

واتفق الشافعي والأصحاب على الاستدلال بهذا الحديث في هذه المسألة ، وهي مفارقة الإمام والبناء على ما صلى معه .

لكن احتج به الشافعي في الأم والشيخ أبو حامد وآخرون على المفارقة بغير عذر ، قالوا : وتطويل القراءة ليس بعذر ، واحتج المصنف وآخرون على المفارقة بعذر وجعلوا طول القراءة عذرا ، وعلى التقديرين في الاستدلال به إشكال ; لأنه ليس فيه تصريح بأنه فارقه ، وبنى على صلاته بل ثبت في صحيح مسلم في رواية أنه استأنف الصلاة ، [ ص: 143 ] ولفظ روايته قال " { افتتح معاذ بسورة البقرة فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف } وهذا لفظه بحروفه ، وفيه تصريح بأنه لم يبن بل قطع الصلاة ثم استأنفها فلا يحصل منه دلالة للمفارقة والبناء .

وقد أشار البيهقي إلى الجواب عن هذا الإشكال فقال : لا أدري هل حفظت هذه الزيادة التي في مسلم لكثرة من روى هذا الحديث عن سفيان دون هذه الزيادة ، وإنما انفرد بها محمد بن عباد عن سفيان .

وهذا الجواب فيه نظر ; لأنه قد تقرر وعلم أن المذهب الصحيح الذي عليه الجمهور من أصحاب الحديث والفقه والأصول قبول زيادة الثقة ، لكن يعتضد قول البيهقي بما قررناه في علوم الحديث أن أكثر المحدثين يجعلون مثل هذه الزيادة شاذا ضعيفا مردودا ، فالشاذ عندهم أن يروى ما لا يرويه سائر الثقات ، سواء خالفهم أم لا ، ومذهب الشافعي وطائفة من علماء الحجاز أن الشاذ ما يخالف الثقات أما ما لا يخالفه فليس بشاذ ، بل يحتج به ، وهذا هو الصحيح وقول المحققين . فعلى قول أكثر المحدثين هذه اللفظة شاذة لا يحتج بها ، كما أشار إليه البيهقي ويؤيده أن في رواية الإمام أحمد بن حنبل في مسنده في هذا الحديث من رواية أنس { أن هذا الرجل دخل المسجد مع القوم فلما رأى معاذا طول تجوز في صلاته ، ولحق بنخله يسقيه ، فلما قضى معاذ الصلاة قيل له ذلك ، قال : إنه لمنافق تعجل عن الصلاة من أجل سقي نخله } .

وأما قول المصنف ( لأنهما صلاتان مختلفتان في الحكم ) فاحتراز ممن نوى القصر ثم الإتمام فإنه تصح صلاته ; لأنهما صلاتان ليستا مختلفتين في الحكم ، وإن كانتا مختلفتين في العدد ( أما حكم المسألة ) فقال أصحابنا : إذا أخرج المأموم نفسه عن متابعة الإمام نظر إن فارقه ، ولم ينو المفارقة وقطع القدوة بطلت صلاته بالإجماع ، وممن نقل الإجماع فيه الشيخ أبو حامد ، وإن نوى مفارقته ، وأتم صلاته منفردا بانيا على ما صلى مع الإمام فالمذهب وهو نصه في الجديد صحت صلاته مع الكراهة ، وفيه قول ثان أنها لا تبطل مطلقا حكاه [ ص: 144 ] الخراسانيون ، وقول ثالث قديم : تبطل إن لم يكن له عذر وإلا فلا قال إمام الحرمين : والأعذار كثيرة وأقرب معتبر أن كل ما جوز ترك الجماعة ابتداء جوز المفارقة ، وألحقوا به ما إذا ترك الإمام سنة مقصودة كالتشهد الأول والقنوت ، وأما إذا لم يصبر على طول القراءة لضعف أو شغل فهل هو عذر ؟ فيه وجهان : ( أصحهما ) أنه عذر ، وبه قطع المصنف ; لأنه حمل حديث معاذ عليه ( والثاني ) : لا وبه قطع الشيخ أبو حامد .

هذا كله إذا قطع المأموم القدوة ، والإمام بعد في صلاة صحيحة في غير صلاة الخوف .

فأما إذا بطلت صلاة الإمام بحدث ونحوه أو قام إلى خامسة أو أتى بمناف غير ذلك فإنه يفارقه ولا يضر المأموم هذه المفارقة بلا خلاف ، أما إذا فارقوا الإمام في صلاة الخوف ففيه تفصيل مذكور في بابه ، ولو نوى الصبح خلف مصلي الظهر وتمت صلاة المأموم فإن شاء انتظر في التشهد حتى يفرغ الإمام ، ويسلم معه ، وهذا أفضل ، وإن شاء نوى مفارقته وسلم ، وتبطل صلاته هنا بالمفارقة بلا خلاف لتعذر المتابعة ، وكذا فيما أشبهها من الصور ، ولا فرق في جميع ذلك بين أن ينوي المفارقة في صلاة فرض أو نفل ، ومذهب مالك وأبي حنيفة بطلان صلاة المفارق وعن أحمد روايتان كالقولين .

التالي السابق


الخدمات العلمية