صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى ( وإذا كان السفر مسيرة ثلاثة أيام فالقصر أفضل من الإتمام لما روى عمران بن الحصين قال : " { حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يصلي ركعتين ركعتين وسافرت مع أبي بكر فكان يصلي ركعتين حتى ذهب ، وسافرت مع عمر فكان يصلي ركعتين حتى ذهب وسافرت مع عثمان فصلى ركعتين ست سنين ثم أتم بمنى } فكان الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل ، فإن ترك القصر وأتم جاز لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : { خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان فأفطر وصمت ، وقصر وأتممت ، فقلت : يا رسول الله أفطرت وصمت ، وقصرت وأتممت ، فقال أحسنت يا عائشة } ولأنه تخفيف أبيح للمسافر فجاز تركه كالمسح على الخفين ثلاثا ) .


( الشرح ) حديث عمران صحيح رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، ورواه البخاري ومسلم من رواية ابن مسعود وابن عمر بمعناه .

وأما حديث عائشة فرواه النسائي والدارقطني والبيهقي بإسناد حسن أو صحيح .

قال البيهقي في السنن الكبير : قال الدارقطني : إسناده حسن .

وقال في معرفة السنن والآثار : هو إسناد صحيح لكن لم يقع في رواية النسائي عمرة رمضان ، والمشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر إلا أربع عمر ليس منهن شيء في رمضان ، بل كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته فكان أحرامها في ذي القعدة ، وفعلها في ذي الحجة .

هذا هو المعروف في الصحيحين وغيرهما والله أعلم .

وقوله " لأنه تخفيف أبيح للسفر " قال القلعي : احترز بقوله : تخفيف عن الجمعة : فإن نقصانها عن أربع ليس للتخفيف .

قال وقوله أبيح للسفر [ ص: 219 ] احتراز مما عفى عنه عن القصاص على الدية ، فإنه تخفيف ولا يجوز له تركه وبذل القصاص منه ، هكذا قاله القلعي ، والأظهر أنه احتراز من أكل الميتة فإنه تخفيف ولا يجوز له تركه لأنه ليس للسفر ، ويصلح أن يكون احترازا ممن غص بلقمة فلم يجد ما يسيغها به إلا خمرا فإنه يجب إساغتها ، وهو تخفيف لا للسفر .

( أما حكم المسألة ) فمذهبنا جواز القصر والإتمام ، فإن كان سفره دون ثلاثة أيام فالأفضل الإتمام للخروج من خلاف أبي حنيفة وموافقيه كما سبق ، وكذا إن كان يديم السفر بأهله في البحر فله القصر والأفضل الإتمام وإن بلغ سفره مراحل وقد سبقت المسألة ، وقد نص الشافعي في الأم على أن الأفضل ترك القصر للخروج من خلاف العلماء ولأنه لا وطن له غيره ، واتفق أصحابنا على هذا .

قال أصحابنا : ويستثنى أيضا من وجد من نفسه كراهة القصر لا رغبة عن السنة أو شكا في جوازه .

قال الشافعي والأصحاب : القصر لهذا أفضل بلا خلاف ، بل يكره له الإتمام حتى تزول هذه الكراهة ; وهكذا الحكم في جميع الرخص في هذه الحالة ، وإن كان سفره ثلاثة أيام فصاعدا ، ولم يكن مدمن سفر البحر وغيره ولا يترك القصر رغبة عنه ، فهل الأفضل الإتمام أم القصر ؟ فيه ثلاث طرق ( أصحها ) وبه قطع المصنف وجمهور العراقيين : القصر أفضل .

( والثاني ) : حكاه جماعات من الخراسانيين ، وحكاه من العراقيين القاضي أبو الطيب والماوردي وابن الصباغ وغيرهم فيه قولان ، وحكاهما الماوردي وجهين : ( أصحهما ) القصر أفضل ( والثاني ) : الإتمام أفضل ، وهو قول المزني قال الماوردي : وهو قول كثيرين من أصحابنا .

قال القاضي أبو الطيب : نص عليه الشافعي في الجامع الكبير للمزني .

( والطريق الثالث ) أنهما سواء في الفضيلة حكاه جماعة منهم الحناطي وصاحب البيان وغيرهما ، وسنوضح دليل المسألة في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى .

وأما صوم رمضان في السفر لمن لا يتضرر به ففيه طريقان قطع العراقيون والجمهور بأنه أفضل من الإفطار لأنه يحصل براءة الذمة .

[ ص: 220 ] وحكى جماعة من الخراسانيين فيه قولين ( أصحهما ) هذا ( والثاني ) : الفطر أفضل ، وسنوضح المسألة في كتاب الصيام إن شاء الله - تعالى .

( فرع ) ( في بيان أقسام الرخص الشرعية ) هي أقسام ( أحدها ) : رخصة واجبة ولها صور ، منها من غص بلقمة ولم يجد ما يسيغها به إلا خمرا وجبت إساغتها به وهي رخصة نص الشافعي على وجوبه ، واتفق الأصحاب عليه .

ومنها أكل الميتة للمضطر رخصة واجبة على الصحيح ، وفيه وجه حكاه المصنف وغيره في بابه أنه لا يجب ( الثاني ) رخصة تركها أفضل وهو المسح على الخف ، اتفق أصحابنا على أن غسل الرجل أفضل منه ، وسبقت المسألة بدليلها في بابه ، وكذلك ترك الجمع بين الصلاتين أفضل بالاتفاق .

كما سنوضحه في آخر هذا الباب إن شاء الله - تعالى ، ومثله التيمم في حق من لم يجد الماء إلا بأكثر من ثمن المثل وهو واجد له يندب له أن يشتريه ويتوضأ ويترك رخصة التيمم ، وكذا الصوم في السفر لمن لا يتضرر به أفضل من الفطر على المذهب كما سبق ، وكذا إتيان الجمعة والجماعة لمن سقطت عنه بعذر سفر ونحوه ( الثالث ) رخصة يندب فعلها وذلك صور منها القصر والإبراد بالظهر في شدة الحر على المذهب فيهما .

( فرع ) في مذاهب العلماء في القصر والإتمام قد ذكرنا أن مذهبنا أن القصر والإتمام جائزان وأن القصر أفضل من الإتمام وبهذا قال عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وعائشة وآخرون ، وحكاه العبدري عن هؤلاء ، وعن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس والحسن البصري ومالك وأحمد وأبي ثور وداود وهو مذهب أكثر العلماء ورواه البيهقي عن سلمان الفارسي في اثني عشر من الصحابة ، وعن أنس والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود وابن المسيب وأبي قلابة .

وقال أبو حنيفة والثوري وآخرون : القصر واجب .

قال البغوي وهذا قول أكثر العلماء ، وليس كما قال .

وحكى ابن المنذر وجوب القصر عن ابن عمر وابن عباس وجابر وعمر بن عبد العزيز ورواية عن مالك وأحمد ، قال أبو حنيفة : فإن صلى أربعا وقعد بعد الركعتين قدر التشهد صحت صلاته لأن السلام ليس بواجب عنده وتقع الأخيرتان نفلا وإن لم يقعد هذا القدر بعد الركعتين فصلاته باطلة .

[ ص: 221 ] واحتج لمن أوجب القصر بأنه المشهور من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحديث عائشة قالت " فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر قال الزهري قلت لعروة فما بال عائشة تتم ؟ قال تأولت ما تأول عثمان " رواه البخاري ومسلم .

وعن عبد الرحمن بن يزيد قال { صلى بنا عثمان بمنى أربع ركعات : فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع ثم قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ، ثم صليت مع أبي بكر بمنى ركعتين ، وصليت مع عمر بمنى ركعتين ، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان } رواه البخاري ومسلم وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال { صلاة الجمعة ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة السفر ركعتان ، تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم } رواه أحمد بن حنبل في مسنده والنسائي وابن ماجه ، ولأنها صلاة يسقط فرضها بركعتين فلم يجز فيها الزيادة كالجمعة والصبح واحتج أصحابنا بقول الله تعالى - : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } قال الشافعي ولا يستعمل لا جناح إلا في المباح كقوله تعالى - : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } وقوله تعالى - : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء } - { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء } - { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا } .

فإن قالوا هذه اللفظة تستعمل في الواجب أيضا قال الله - تعالى - : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } ومعلوم أن السعي بينهما ركن من أركان الحج .

فالجواب ما أجابت به عائشة رضي الله عنها وهو ثابت عنها في الصحيحين قالت " أنزلت الآية في الأنصار كانوا قبل الإسلام يطوفون بين الصفا والمروة ، فلما أسلموا شكوا في جواز الطواف بينهما لأنه كان شعار الجاهلية ، فأنزل الله - تعالى - الآية جوابا لهم .

[ ص: 222 ] واحتجوا من السنة بحديث عائشة المذكور في الكتاب ، وهو حديث حسن كما سبق وعنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم } رواه الدارقطني والبيهقي وغيرهما .

قال البيهقي : قال الدارقطني : إسناده صحيح واحتجوا بحديث عبد الرحمن بن يزيد المتقدم في إتمام عثمان ، ولو كان القصر واجبا لما وافقوه على تركه ، وعن نافع عن ابن عمر قال { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وأبو بكر بعده وعمر بعد أبي بكر وعثمان صدرا من خلافته ، ثم إن عثمان صلى بعد أربعا . قال : فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعا وإذا صلاها وحده صلى ركعتين } رواه مسلم .

قال أصحابنا : ولأن العلماء أجمعوا على أن المسافر إذا اقتدى بمقيم لزمه الإتمام ، ولو كان الواجب ركعتين حتما لما جاز فعلها أربعا خلف مسافر ولا حاضر كالصبح .

فإن قالوا : الصبح لا يصح فعلها خلف الظهر عندنا ، قلنا فكذا ينبغي لكم أن لا تصححوا الظهر في المسافر خلف متم ، ولأنه تخفيف أبيح للسفر فجاز تركه كالفطر والمسح ثلاثا وسائر الرخص .

وأجاب أصحابنا عن قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ثبت عنه القصر والإتمام كما ذكرنا من فعله ومن إقراره لعائشة ، فدل على جوازهما ، لكن القصر كان أكثر فدل على فضيلته ، ونحن نقول بها ، والجواب عن حديث " فرضت الصلاة ركعتين " أن معناه لمن أراد الاقتصار عليهما ويتعين المصير إلى هذا التأويل جمعا بين الأدلة ويؤيده أن عائشة روته وأتمت وتأولت ما تأول عثمان ، وتأويلهما أنهما رأياه جائزا هذا هو الصحيح عند العلماء في تأويله ، وقد قيل فيه غير ذلك مما لا يصح ، وقد أوضحت فساده في شرح صحيح مسلم ، ولأن المخالفين أضمروا فيه : أقرت صلاة السفر إذا لم يقتد بمقيم ، وأضمرنا فيه : إذا أراد القصر ، وليس أضمارهم بأولى من إضمارنا ، ومما يوجب تأويله أن ظاهره أن الركعتين في السفر أصل لا مقصورة ، وإنما صلاة الحضر زائدة ، وهذا مخالف لنص القرآن وإجماع المسلمين في تسميتها مقصورة ، ومتى خالف خبر الآحاد نص القرآن أو إجماعا وجب ترك ظاهره .

وأما الجواب عن حديث عمر رضي الله عنه " صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر " فهو أن معناه صلاة السفر ركعتان لمن أراد الاقتصار عليهما بخلاف [ ص: 223 ] الحضر وقوله " تمام غير قصر " معناه تامة الأجر ، هذا إذا سلمنا صحة الحديث وهو المختار ، وإلا فقد أشار النسائي إلى تضعيفه فقال : لم يسمعه ابن أبي ليلى من عمر ولكن قد رواه البيهقي عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عن عمر بإسناد صحيح لكن ليس في هذه الرواية : قوله " على لسان نبيكم " وهو ثابت في باقي الروايات .

وأما الجواب عن قياسهم على الجمعة والصبح فالفرق أن الجمعة والصبح شرعتا ركعتين من أصلهما لا يقبلان تغييرا بخلاف صلاة السفر فإنها تقبل الزيادة ، بدليل أنه لو اقتدى بمقيم لزمه أربع ، وليس كذلك الجمعة والصبح ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية