صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( ولا يجوز القصر حتى يكون جميع الصلاة في السفر ، فأما إذا أحرم بالصلاة في سفينة في البلد ثم سارت السفينة وحصلت في السفر فلا يجوز له القصر ، وكذا إن أحرم بها في سفينة في السفر ثم اتصلت السفينة بموضع الإقامة أو نوى الإقامة لزمه الإتمام لأنه اجتمع في صلاته ما يقتضي القصر والإتمام فغلب الإتمام ، ولا يجوز القصر حتى ينوي القصر في الإحرام ، لأن الأصل الإتمام ، فإذا لم ينو القصر انعقد إحرامه على الإتمام فلم يجز القصر كالمقيم ) .


( الشرح ) هذه المسائل كما ذكرها باتفاق الأصحاب .

قال أصحابنا : وإذا صار مقيما أتم صلاته أربعا ولا يلزمه نية الإتمام ، وإن كان لم ينو إلا ركعتين لأن الإقامة قطعت حكم الرخصة بتعيين الإتمام لأنه الأصل قال إمام الحرمين : والإتمام مندرج في نية القصر ، فكأنه قال : نويت القصر ما لم يعرض ما يوجب الإتمام قال أصحابنا .

ولو شك هل نوى القصر أم لا ؟ ثم تذكر على قرب أنه نوى القصر لزمه الإتمام بالاتفاق لأنه مضى جزء من صلاته على حكم الإتمام ، وكذا لو دخل في أثناء صلاته في سفينة بلده أو شك هل هو بلده أم لا ؟ لزمه الإتمام وإن بان أنه ليس بلده لما ذكرناه .

واعلم أنه يستشكل ذكر مسألة الإحرام بالصلاة في البلد في سفينة ، لأنه [ ص: 231 ] إن نوى الصلاة تامة أو أطلق النية انعقدت صلاته تامة ، ولم يجز القصر لفوات شرط القصر وهو نية القصر عند الإحرام .

وإن نوى القصر لم تنعقد صلاته لأن من نوى الظهر ركعتين وهو في البلد فصلاته باطلة فلا فائدة حينئذ في ذكر هذه المسألة ، وقد ذكرها الشافعي والأصحاب كما ذكرها المصنف ، ويكفي في أشكالها أن إمام الحرمين مع جلالته استشكلها فقال : ليس في ذكر هذه المسألة كثيرة فائدة .

ثم بسط القول على نحو ما ذكرته ، وذكر احتمالين في صحة صلاة المقيم بنية القصر ثم قال بعد كلام طويل .

ليس عندي في ذلك نقل ، قال : والذي أراه أن المقيم لو نوى الظهر ركعتين جزما ولم ينو الترخص لم تنعقد صلاته ، وإن نوى الترخص بالقصر ففيه احتمال .

هذا كلامه .

وجزم غيره من الأصحاب ببطلان صلاة المقيم الذي نوى الظهر ركعتين ; وهو الصواب .

( والجواب ) عن الإشكال المذكور أن يقال صورة المسألة أن ينوي الظهر مطلقا في سفينة في البلد ثم يسير ويفارق البلد في أثنائها فيجب الإتمام لعلتين ( إحداهما ) فقد نية القصر عند الإحرام ( والثانية ) اجتماع الحضر والسفر فيها ، فبينوا أن اجتماع الحضر والسفر في العبادة يوجب تغليب حكم الحضر ، ويستدل به حينئذ في مسألة الخف ، وهي إذا مسحه في الحضر ثم سافر فعندنا يتم مسح مقيم .

وقال أبو حنيفة : يمسح مسح مسافر ; فيقول : اجتمع الحضر والسفر واجتماعهما يوجب تغليب الحضر ، وقد وافق أبو حنيفة على مسألة الصلاة ; بل نقل الشيخ أبو حامد وغيره إجماع المسلمين على هذا وهذا القياس هو الذي اعتمده أصحابنا في مسألة الخف والله أعلم .

( فرع ) قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يجوز القصر حتى ينويه عند الإحرام ، قال العبدري وبه قال أكثر الفقهاء ، وقال المزني : لو نواه في أثناء الصلاة ولو قبل السلام جاز القصر ، وقال أبو حنيفة : لا تجب نية القصر لأن الأصل عنده القصر ، وحكى الشيخ أبو حامد وصاحب البيان عن المزني أنه لو نوى الإتمام ثم نوى في أثنائها أن يقصر كان له أن يقصر ، ودليلنا على أبي حنيفة أن الأصل الإتمام لما سبق ، وعلى الآخرين أن الأصل الإتمام عندنا وعندهما ، فمتى وجد جزء منها بغير نية القصر وجب إتمامها تغليبا للأصل .

[ ص: 232 ] فرع ) قال أصحابنا : يشترط لصحة القصر العلم بجوازه ، فلو جهل جوازه فقصر لم تصح صلاته بلا خلاف .

نص عليه الشافعي في الأم ، واتفق الأصحاب عليه وذكر إمام الحرمين فيه احتمالا وليس بشيء لأنه متلاعب ، وكأن إمام الحرمين لم ير نصه في الأم ، واتفاق العراقيين وغيرهم على التصريح بالمسألة .

ثم إن كان نوى الظهر مطلقا وسلم من ركعتين عمدا لزمه استئنافها أربعا ، لالتزامه الإتمام فإن صلاته انعقدت تامة ، وإن كان نوى الظهر ركعتين وهو جاهل القصر فهو متلاعب ، وإذا أعادها فله القصر إذا علم جوازه لعدم شروعه فيها ، وإنما يجب الإتمام في الإعادة على من لا يعقد صلاته تامة ثم فسدت ، وهنا لم تنعقد صلاته بخلاف الصورة التي قبلها .

( فرع ) قال أصحابنا : نية القصر شرط عند الإحرام ولا يجب استدامة ذكرها لكن يشترط الانفكاك عن مخالفة الجزم بها ، فلو نوى القصر في الإحرام ثم تردد في القصر والإتمام أو شك فيه ثم جزم به أو تذكره لزمه الإتمام ، ولو اقتدى بمسافر علم أو ظن أنه نوى القصر فصلى ركعتين ثم قام إلى ثالثة ، فإن علم أنه نوى الإتمام لزم المأموم الإتمام .

وإن علم أنه ساه بأن كان حنفيا لا يرى الإتمام لم يلزم المأموم الإتمام ، بل يخير إن شاء نوى مفارقته وسجد للسهو وسلم ، وإن شاء انتظره حتى يعود ويسلم معه .

وإنما قالوا : يسجد للسهو لأن بقيام الإمام ساهيا توجه السجود عليهما ، فلو أراد المأموم الإتمام أتم ، لكن لا يجوز أن يقتدي بالإمام في سهوه لأنه غير محسوب له ، ولا يجوز الاقتداء بمن علمنا أن ما هو فيه غير محسوب له ، كالمسبوق إذا أدرك من آخر الصلاة ركعة ، ثم قام الإمام بعدها إلى ركعة زائدة لم يكن للمسبوق أن يتابعه في تدارك ما عليه ، ولو شك هل قام إمامه ساهيا أو متما ؟ لزمه الإتمام لتردده .

ولو نوى المنفرد القصر فصلى ركعتين ثم قام إلى ثالثة - فإن كان حدث ما يقتضي الإتمام كنية الإمام أو الإقامة أو حصوله بدار الإقامة في سفينة فقام لذلك - فقد فعل واجبه ، وإن لم يحدث شيء من ذلك وقام عمدا بطلت صلاته بلا خلاف ، لأنه زاد في صلاته عمدا ، كما لو قام المقيم إلى خامسة ، وكما لو قام المتنفل إلى ركعة زائدة قبل تغيير النية .

وإن قام سهوا ثم ذكر [ ص: 233 ] لزمه أن يعود ويسجد للسهو ويسلم ، فلو أراد الإتمام بعد التذكر لزمه أن يعود إلى القعود ثم ينهض متما ، وفيه وجه ضعيف أن له أن يمضي في قيامه ، والمذهب الأول لأن النهوض إلى الركعة الثالثة واجب ونهوضه كان لاغيا لسهوه ، ولو صلى ثالثة ورابعة سهوا وجلس للتشهد فتذكر سجد للسهو وسلم ووقعت صلاته مقصورة ، وتكون الركعتان الزائدتان لاغيتين ولا تبطل بهما الصلاة للسهو ، فلو نوى الإتمام قبل السلام والحالة هذه لزمه أن يأتي بركعتين آخرتين ويسجد للسهو لأن الإتمام يقتضي أربع ركعات محسوبات .

( فرع ) قد ذكرنا أنه إذا نوى القصر ثم نوى الإتمام لزمه الإتمام ويبني على صلاته .

قال الشيخ أبو حامد : وقال مالك لا يجوز البناء دليلنا القياس على ما لو أحرم في سفينة في السفر ثم وصلت الوطن فيها ، ولو نوى الإمام الإتمام لزمه والمأمومين الإتمام .

قال أبو حامد : قال مالك : للمأمومين القصر .

التالي السابق


الخدمات العلمية