صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( فأما إذا دخل [ عليه ] وقت الصلاة وتمكن من فعلها ثم سافر فإن له أن يقصر .

وقال المزني : لا يجوز ووافقه عليه أبو العباس لأن السفر يؤثر في الصلاة كما يؤثر في الحيض ، ثم لو طرأ الحيض بعد الوجوب والقدرة على فعلها لم يؤثر ، فكذا السفر ، والمذهب الأول ، لأن الاعتبار في صفة الصلاة بحال الأداء لا بحال الوجوب .

والدليل عليه أنه لو دخل عليه وقت الظهر وهو عبد فلم يصل حتى عتق صار فرضه الجمعة ، وهذا في حال الأداء مسافر فوجب أن يقصر ، ويخالف الحيض لأنه يؤثر في إسقاط الفرض فلو أثر ما طرأ منه بعد القدرة على الأداء أفضى إلى إسقاط الفرض بعد الوجوب والقدرة ، والسفر يؤثر في العدد فلا يفضي إلى إسقاط الفرض بعد الوجوب ، ولأن الحائض تفعل القضاء ، والقضاء يتعلق بالوجوب والقدرة عليه ، والمسافر يفعل الأداء ، وكيفية الأداء تعتبر بحال الأداء والأداء في حال السفر ، وإن سافر بعدما ضاق وقت [ ص: 247 ] الصلاة جاز له أن يقصر ، وقال أبو الطيب بن سلمة لا يقصر ; لأنه تعين عليه صلاة حضر فلا يجوز له القصر ، والمذهب الأول ; لما ذكرناه مع المزني وأبي العباس وقوله : إنه تعينت عليه صلاة حضر يبطل بالعبد إذا عتق في وقت الظهر ، وإن سافر وقد بقي من الوقت أقل من قدر الصلاة فإن قلنا : إنه مؤد لجميع الصلاة - جاز له القصر ، وإن قلنا : إنه مؤد لما فعله في الوقت قاض لما يفعله بعد الوقت لم يجز القصر ) .


( الشرح ) إذا سافر في أثناء الوقت ، وقد مضى من الوقت ما يمكن فعل الصلاة فيه ، نص الشافعي أن له قصرها ، ونص فيما إذا أدركت من أول الوقت قدر الإمكان ثم حاضت أنه يلزمها القضاء وكذا سائر أصحاب الأعذار ، وللأصحاب طريقان ، قال ابن سريج : في كل واحدة من المسألتين قولان بالنقل والتخريج ( أحدهما ) : يجب الإتمام على المسافر وتجب الصلاة على الحائض ( والثاني ) : لا صلاة عليها وله القصر ، وقال جمهور الأصحاب بظاهر النصين ، فأوجبوا الصلاة عليها وجوزوا القصر ، وفرقوا بما ذكره المصنف وإن سافر بعد ضيق الوقت بحيث بقي قدر الصلاة قصر على المذهب ، وقال ابن سلمة : لا يقصر .

ودليلهما في الكتاب ، وإذا جمعت الصورتان قيل : فيهما ثلاثة أوجه : ( الصحيح ) : القصر ( والثاني ) : الإتمام ( والثالث ) : إن ضاق الوقت أتم وإلا قصر ، وإن سافر وقد بقي دون قدر الصلاة فإن قلنا : كلها أداء قصر وإلا فلا ، ولو مضى من الوقت دون قدر الصلاة ثم سافر قال إمام الحرمين : ينبغي أن يمتنع القصر - إن قلنا : يمتنع لو مضى زمن يسع الصلاة بخلاف ما لو حاضت ، وقد مضى زمن لا يسعها - فإنه لا يلزمها قضاء الصلاة على المذهب ، كما سبق ، قال : والفرق أن عروض السفر لا ينافي إتمام الصلاة ، وعروض الحيض ينافيه .

وهذا الذي ذكره إمام الحرمين شاذ مردود ، فقد اتفق الأصحاب على أنه إذا سافر قبل أن يمضي من الوقت زمن يسع تلك الصلاة جاز له القصر بلا خلاف صرح به الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والأصحاب ، ونقل القاضي أبو الطيب إجماع المسلمين أنه يقصر قالوا : وإنما الخلاف إذا مضى قدر الصلاة قبل أن يسافر والفرق أنه إذا مضى قدرها صار في معنى من فاتته [ ص: 248 ] صلاة في الحضر ولا يوجد هذا المعنى فيمن سافر قبل مضي قدرها بكماله ، والله أعلم .

ومتى سافر وقد بقي من الوقت شيء وقلنا : له القصر فلم يصلها حتى فاتت في السفر فقضاها في السفر أو الحضر بعده فهي فائتة سفر ففي جواز قصرها الخلاف السابق ، صرح به البندنيجي وغيره ، هذا مختصر حكم المسألة ، وفيها إشكال على لفظ المصنف ، فإنه نقل هنا عن المزني أنه قال : لا يجوز القصر ، وذكر قبل هذا عن المزني : إذا فاتته في الحضر فقضاها في السفر قصر ، وهذا تناقض ; لأنه إذا أباح القصر بعد فوات الوقت في الحضر ففي أثنائه أولى ، وجوابه : أن المزني لم يذكر منع القصر هنا مذهبا له ، وإنما ذكره إلزاما للشافعي فقال : قياس قول الشافعي في مسألة الحائض وما عرف من مذهبه أن الصلاة تجب بأول الوقت أنه لا يجوز القصر ، وليس المراد أن المزني يعتقد هذا ، ويدل على صحة هذا الجواب : أن المزني قال في مختصره : قال الشافعي : وإن خرج في آخر وقت الصلاة قصر وإن كان بعد الوقت لم يقصر ، قال المزني : أشبه بقوله أن يتم ; لأنه يقول في المرأة إذا حاضت ، وذكر المسألة فهذا لفظه ، وهو صريح فيما ذكرته .

وأما قول المصنف ووافقه أبو العباس فمراده : أن أبا العباس خرج وجها على وفق إيراد المزني كما ذكرناه من تخريج أبي العباس من الحائض إلى المسافر وعكسه ، وقد أوضح ذلك القاضي أبو الطيب في تعليقه فقال : ذكر أبو العباس في الحائض والمسافر في أثناء الوقت ثلاثة أوجه : ( أحدها ) : له القصر ولا قضاء عليها ( والثاني ) : يلزمه الإتمام ويلزمها القضاء ( والثالث ) : له القصر ، وعليها القضاء وهو المذهب والمنصوص ، وقد ذكر صاحب البيان أن النقل عن أبي العباس متناقض ويندفع تناقضه بما ذكرته وأما قول المصنف : يبطل بالعبد إذا أعتق في وقت الظهر ، فمعناه لو أعتق يوم الجمعة ، وقد بقي من وقت الظهر أربع ركعات ، ولم يكن صلاها وأمكنت الجمعة لزمته ، وإن كان قد تعين عليه فعل الظهر .

وهذا يدل على أن الاعتبار في صفة الصلاة بحال الفعل لا بتعين الفعل ، والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء إذا فاتته صلاة في الحضر فقضاها في السفر لزمه الإتمام عندنا وعند أبي حنيفة ومالك وأحمد والجمهور ، وقال [ ص: 249 ] الحسن البصري والمزني : يقصر ، ولو فاتته في السفر فقضاها في الحضر فالأصح عندنا يلزمه الإتمام كما سبق وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق وداود .

وقال مالك وأبو حنيفة : يقصر ، ولو سافر في أثناء الوقت ، وقد تمكن من تلك الصلاة فله قصرها في السفر عندنا ، وعند أبي حنيفة ومالك والجمهور وفيه التخريج السابق عن المزني وابن سريج ودليل الجميع في الكتاب

التالي السابق


الخدمات العلمية