صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( يجوز الجمع بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء في السفر الذي يقصر فيه الصلاة ; لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء } وروى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يجمع بين الظهر والعصر } وفي السفر الذي لا يقصر فيه الصلاة قولان : ( أحدهما ) : يجوز ; لأنه سفر يجوز فيه التنفل على الراحلة ، فجاز فيه الجمع كالسفر الطويل ( والثاني ) : لا يجوز وهو الصحيح ; لأنه إخراج عبادة عن وقتها فلم يجز في السفر القصير كالفطر في الصوم ) .


( الشرح ) حديث ابن عمر وحديث أنس رواهما البخاري ومسلم " وجد به السير " [ أي ] أسرع ، ومذهبنا : جواز الجمع بين الظهر والعصر في وقت أيتهما شاء وبين المغرب والعشاء في وقت أيتهما شاء ، ولا يجوز جمع الصبح إلى غيرها ، ولا المغرب إلى العصر بالإجماع ، ولا يجوز الجمع في سفر معصية ، ، وقد سبق إيضاحه في أول الباب ، ويجوز الجمع في السفر الذي تقصر فيه الصلاة وفي القصير قولان مشهوران ذكر المصنف دليلهما ( أصحهما ) باتفاق الأصحاب : لا يجوز ، وهو نص الشافعي في كتبه الجديدة .

والقديمة جوازه قال القاضي أبو الطيب في المجرد وغيره من أصحابنا : وقال أبو إسحاق المروزي : لا يجوز قولا واحدا ، ولعله لم يبلغه نصه في القديم ، وقد سبق في هذا الباب ، وفي باب مسح الخف أن رخص السفر ثمان ، منها مختص بالطويل وجائز فيهما ومختلف فيه ، وأما الحجاج من الآفاق ، فيجمعون بين الظهر والعصر بعرفات في وقت الظهر وبين المغرب والعشاء بمزدلفة في وقت العشاء بإجماع ، وفي سبب هذا الجمع وجهان لأصحابنا مشهوران في كتب الخراسانيين الصحيح منهما : أنه بسبب السفر ، وبه قطع معظم العراقيين ( والثاني ) : بسبب النسك وبه قطع الماوردي في كتاب الحج .

[ ص: 250 ] فإن قلنا بالسفر ففي جمع المكي القولان في السفر القصير ، ولا يجمع العرفي بعرفات ، ولا المزدلفي بمزدلفة ; لأنه وطنه وهل يجمع كل واحد بالبقعة الأخرى ؟ فيه القولان كالمكي ، وإن قلنا بالثاني جاز الجمع لكلهم ، وقال بعض الأصحاب عبارة أخرى فقال في جمع المكي قولان ( الجديد ) : منعه ( والقديم ) : جوازه وعلى القديم في العرفي والمزدلفي بموضعه وجهان .

والمذهب منع الجمع في حق جميعهم وحكم البقعتين في الجمع حكم سائر الأسفار فيتخير في التقديم والتأخير لكن الأفضل في عرفات التقديم ، وفي مزدلفة التأخير كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء في الجمع بالسفر - قد ذكرنا أن مذهبنا جوازه في وقت الأولى ، وفي وقت الثانية وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف ; حكاه ابن المنذر عن سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وابن عمر وابن عباس وأبي موسى الأشعري وطاوس ومجاهد وعكرمة ومالك وأحمد وإسحاق وأبي ثور وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن ، وحكاه البيهقي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما ورواه عن زيد بن أسلم وربيعة ومحمد بن المنكدر وأبي الزناد وأمثالهم قال : وهو من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين .

وقال الحسن البصري وابن سيرين ومكحول والنخعي وأبو حنيفة وأصحابه : لا يجوز الجمع بسبب السفر بحال ، وإنما يجوز في عرفات في وقت الظهر ، وفي المزدلفة في وقت العشاء بسبب النسك للحاضر والمسافر ، ولا يجوز غير ذلك ، وحكاه القاضي أبو الطيب وغيره عن المزني واحتج لهم بأحاديث المواقيت ، وبقوله صلى الله عليه وسلم " { ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى } رواه مسلم وسبق في المواقيت ، وعن ابن عمر قال { ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء قط في السفر إلا مرة } رواه أبو داود .

وعن ابن مسعود قال { ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة بغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء وصلى الفجر قبل ميقاتها } رواه البخاري ومسلم يعني الجمع بالمزدلفة وصلاة الصبح وقياسا على جمع المقيم وجمع المريض وجمع المسافر سفرا قصيرا [ ص: 251 ] واحتج أصحابنا بالأحاديث الصحيحة المشهورة في الجمع في أسفار النبي صلى الله عليه وسلم منها حديث ابن عمر قال : { وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جد به السير } رواه البخاري ومسلم .

وعن أنس قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ، ثم نزل فجمع بينهما ، فإذا زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب } رواه البخاري ومسلم وعن أنس قال { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ، ثم يجمع بينهما } رواه مسلم وعن نافع { أن ابن عمر كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق ويقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء } رواه مسلم ، ورواه البخاري بمعناه من رواية سالم بن عبد الله بن عمر وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه إذا عجل عليه السفر يؤخر الظهر إلى وقت العصر ، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق } رواه مسلم .

وعن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر ، وإن ترحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر ، وفي المغرب مثل ذلك إذا غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء ، وإن ترحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء ثم جمع بينهما } رواه أبو دؤاد والترمذي ، وقال حديث حسن ، وقال البيهقي : هو محفوظ صحيح .

وعن أنس قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى العصر والظهر جميعا ثم ارتحل } رواه الإسماعيلي والبيهقي بإسناد صحيح ، قال إمام الحرمين في الأساليب : في إثبات الجمع أخبار صحيحة هي نصوص لا يتطرق إليها تأويل ، ودليله في المعنى الاستنباط من صورة الإجماع ، وهي الجمع بعرفات والمزدلفة ، فإنه لا يخفى أن سببه احتياج الحجاج إليه لاشتغالهم بمناسكهم ، وهذا المعنى موجود في كل الأسفار ، ووجدنا الرخص لا يستدعى ثبوتها نسكا ، ولكنها تثبت في الأسفار المباحة كالقصر والفطر ، ثم لا يلزم الأفراد المترفهين في السفر فإنا لو تتبعنا ذلك عسرت الرخصة ، وضاق محلها [ ص: 252 ] وتطرق إلى كل مترخص إمكان الرفاهية ، فاعتبر الشرع فيه كون السفر مظنة للمشقة ، ولم ينظر إلى أفراد الأشخاص والأحوال ، وبهذا تمت الرخصة واستمرت التوسعة قال : ( فإن قيل ) : الرخصة ثبتت غير معللة والمتبع فيها الشرع ، ولو عللت المشقة لكان المريض أحق برخصة القصر ، ( قلنا ) : المريض يصلي قاعدا أو مضطجعا إذا عجز وهذه الرخصة هي اللائقة بحاله ، فالاكتفاء بالقعود منه ، وهو بلا شغل كالمقيم الذي يصلي قائما ، وأما المسافر فعليه أفعال في غالب الأحوال ، وقد يعسر عليه إتمام الصلاة فخفف له بالقصر والجمع ( فإن قيل ) : المريض أحوج إلى الجمع من المسافر ، وأنتم لا تجوزونه ؟ ( قلنا ) : الإتيان بصلاتين متعاقبتين أفعال كثيرة قد يشق على المريض موالاتها ولعل تفريقها أهون عليه ، والمسافر يشق عليه النزول للصلاة حال سير القوافل ، وقد يؤدي إلى ضرره ، ولا يخفى على منصف أن الجمع أرفق من القصر ; فإن القائم إلى الصلاة لا يشق عليه ركعتان يضمهما إلى ركعتيه ، ورفق الجمع واضح .

وأما الجواب عن احتجاجاتهم بأحاديث المواقيت فهو أنها عامة في الحضر والسفر ، وأحاديث الجمع خاصة بالسفر فقدمت ، وبهذا يجاب أيضا عن حديث " ليس في النوم تفريط " فإنه عام أيضا ( والجواب ) عن حديث أبي داود عن ابن عمر أن أبا داود قال : روي موقوفا عن ابن عمر من فعله ، وقد قدمنا أن الحديث إذا روي مرفوعا وموقوفا هل يحتج به ؟ فيه خلاف مشهور للسلف ، فإن سلمنا الاحتجاج به فجوابه : أن الروايات المشهورة في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر صريحة في إخباره عن جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجب تأويل هذه الرواية وردها ، ويمكن أن يتأول على أنه لم يره يجمع في حال سيره إنما يجمع إذا نزل أو كان نازلا في وقت الأولى .

وأما حديث ابن مسعود فجوابه : أنه نفي ، فالإثبات الذي ذكرناه في الأحاديث الصحيحة مقدم عليه ; لأن مع رواتها زيادة علم ، والجواب عن جمع المقيم : أنه لا يلحقه مشقة .

والجواب عن المريض : سبق في كلام إمام الحرمين ، والجواب عن السفر القصير - إذا سلمنا امتناع الجمع فيه - أنه في معنى الحضر [ ص: 253 ] فإنه لا يعظم المشقة فيه ( فإن قيل ) : فالسفر القصير يبيح التيمم بلا إعادة على الصحيح عندكم ( فجوابه ) : أن مدار التيمم على إعواز الماء ، وهو يعدم في القصير غالبا كالطويل ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية