صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( وإذا أراد الصلاة لم يخل : إما أن يكون العدو في جهة القبلة أو في غيرها ، فإن كان في غيرها ، ولم يأمنوا وفي المسلمين كثرة جعل الإمام الناس طائفتين طائفة في وجه العدو ، وطائفة يصلي معهم ، ويجوز أن يصلي بالطائفة التي معه جميع الصلاة ، ثم تخرج إلى وجه العدو [ ثم ] تجيء الطائفة الأخرى فتصلي معه ، فيكون متنفلا بالثانية وهم مفترضون ، والدليل عليه ما روى أبو بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم { صلى صلاة الخوف بالذين معه ركعتين وبالذين جاءوا ركعتين فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربعا وللذين جاءوا ركعتين } ويجوز أن يصلي بإحدى الطائفتين بعض الصلاة وبالأخرى البعض ، وهو أفضل من أن يصلي بكل واحدة منهما جميع الصلاة ; لأنه أخف ، فإن كانت الصلاة ركعتين صلى بالطائفة التي معه ركعة وثبت قائما وأتمت الطائفة لأنفسهم .

وتنصرف إلى وجه العدو ، وتجيء الطائفة الأخرى فيصلي معهم الركعة التي بقيت من صلاته ; وثبت جالسا وأتمت الطائفة [ الأخرى ] لأنفسهم ثم يسلم بهم ، والدليل عليه ما روى صالح بن خوات { عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف فذكر مثل ما قلنا } ) .


[ ص: 291 ] الشرح ) حديث أبي بكرة صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح كما هو في المهذب ، ورواه البخاري ومسلم من رواية جابر بمعناه ورواه مسلم في باب صلاة الخوف .

ورواه البخاري في كتاب المغازي ، وإنما ذكرت موضعه لأني رأيت إمامين كبيرين أضافاه إلى رواية مسلم خاصة فأوهما أن البخاري لم يروه وغلطا في ذلك ، وأما حديث صالح بن خوات فرواه البخاري ومسلم كما في المهذب عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم .

( قوله ) عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم هو سهل بن أبي خيثمة كذا جاء مبينا في الصحيحين ، وخوات - بخاء معجمة مفتوحة وواو مشددة ثم ألف ثم تاء مثناة فوق - وصالح تابعي وأبو خوات صحابي ، وهو خوات بن جبير الأنصاري وذات الرقاع بكسر الراء - موضع قبل نجد من أرض غطفان ، اختلف في سبب تسميتها فالصحيح ما ثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري أنه قال فيها : { نقبت أقدامنا ، فكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع ; لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق } وقوله : نقبت - بضم النون وفتحها - أي تقرحت وتقطعت جلودها ، وقيل : باسم شجرة كانت هناك ، وقيل : اسم جبل فيه بياض وحمرة وسواد ، ويقال له : الرقاع ، وقيل لأرض كانت ملونة وقيل لرقاع كانت في ألويتهم ( قوله ) وفي المسلمين كثرة - هي بفتح الكاف - على المشهور ، وفي لغة ضعيفة كسرها .

( أما الأحكام ) فقال العلماء : جاءت صلاة الخوف عن النبي صلى الله عليه وسلم على ستة عشر نوعا ، وهي مفصلة ، في صحيح مسلم بعضها ، ومعظمها في سنن أبي داود ، واختار الشافعي - رحمه الله منها ثلاثة أنواع ( أحدها ) : صلاته صلى الله عليه وسلم ببطن نخل ( والثاني ) : صلاته صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع ( والثالث ) : صلاته صلى الله عليه وسلم بعسفان ، وكلها صحيحة ثابتة في الصحيحين ، ولصلاة الخوف نوع رابع جاء به القرآن ، وذكره الشافعي ، وهو صلاة شدة الخوف قال الله - تعالى - : { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } وهذه الأنواع ذكرها المصنف في الكتاب على الترتيب الذي [ ص: 292 ] ذكرته ، قال أهل الحديث والسير : أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم للخوف صلاة ذات الرقاع .

( واعلم ) أن بطن نخل موضع من أرض نجد من أرض غطفان فهي وذات الرقاع من أرض غطفان لكنهما صلاتان في وقتين مختلفين ، وفي كتاب المغازي من صحيح البخاري عن جابر قال : { خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذات الرقاع من نخل فلقي جمعا من غطفان } ( واعلم ) أن نخل هذا غير نخلة الذي جاء إليها وفد الجن ، تلك عند مكة وبدأ المصنف بصلاة بطن نخل ، وهي أن يجعل الإمام الناس طائفتين ( إحداهما ) في وجه العدو ( والأخرى ) يصلي بها جميع الصلاة ويسلم ، سواء كانت ركعتين أو ثلاثا أو أربعا فإذا سلم ذهبوا إلى وجه العدو وجاء الآخرون فصلى بهم تلك الصلاة مرة ثانية تكون له نافلة ولهم فريضة .

قال أصحابنا : وإنما تستحب هذه الصلاة بثلاثة شروط أن يكون العدو في غير القبلة ، وأن يكون في المسلمين كثرة ، والعدو قليل ، وأن يخاف هجومهم على المسلمين في الصلاة ، قال أصحابنا : فهذه الأمور ليست شرطا لصحتها ، فإن الصلاة على هذا الوجه صحيحة عندنا من غير خوف ففي الخوف أولى ، وإنما المراد : أنها لا تندب على هذه الهيئة إلا بهذه الشروط الثلاثة ، والله أعلم .

( وأما النوع الثاني ) فهو صلاة ذات الرقاع فمعظم مسائل الباب فيها فتكون ثلاثة ، تارة ركعتين صبحا أو مقصورة ، وتارة ثلاثا وهي المغرب .

وتارة أربعا إذا لم تقصر ، فإن كانت ركعتين فرق الإمام الناس فرقتين ، فرقة تقف في مقابلة العدو ; وفرقة ينحدر بها الإمام إلى حيث لا يلحقهم سهام العدو ، فيحرم بهم ويصلي ركعة ; وهذا القدر اتفقت عليه روايات الحديث ونصوص الشافعي والأصحاب ، وفيما يفعل بعد ذلك روايتان في الأحاديث الصحيحة . ( إحداهما ) : أنه إذا قام الإمام إلى الركعة الثانية نوى المقتدي الخروج من متابعته وصلوا لأنفسهم الركعة الثانية وتشهدوا وسلموا وذهبوا إلى وجه العدو وجاء الآخرون فأحرموا خلفه في الركعة الثانية ، وأطالها حتى يلحقوه [ ص: 293 ] ويقرءوا الفاتحة ، ثم يركع بهم ويسجد ، فإذا جلس للتشهد قاموا فصلوا ثانيتهم وانتظرهم فإذا لحقوه سلم بهم ، هذه رواية سهل بن أبي خيثمة المذكور في الكتاب عن صالح بن خوات ، وهي في صحيحي البخاري ومسلم .

( والثانية ) : أن الإمام إذا قام إلى الثانية لا يتم المقتدون به الصلاة ، بل يذهبون إلى مكان إخوانهم فيقفون قبالة العدو وهم في الصلاة ، ويقفون سكوتا وتجيء الطائفة الأخرى فيصلي بهم الإمام ركعته الثانية ، فإذا سلم ذهبوا إلى وجه العدو وجاء الأولون إلى مكان صلاة الإمام فصلوا الركعة الباقية عليهم .

ثم ذهبوا إلى وجه العدو وجاء الآخرون إلى مكان الصلاة فصلوا ركعتهم الباقية وسلموا .

وهذه رواية ابن عمر عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا حكاه أصحابنا عن رواية ابن عمر ، وهي في الصحيحين عن ابن عمر لكن لفظ رواية البخاري " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركع بمن معه وسجد سجدتين ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل ، فجاءوا فركع النبي صلى الله عليه وسلم بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم ، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين " ولفظ رواية مسلم { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة ثم انصرفوا فقاموا مقام أصحابهم وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي ركعة ثم سلم ، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة } واختار الشافعي والأصحاب الرواية الأولى رواية سهل ; لأنها أحوط لأمر الحرب ، ولأنها أقل مخالفة لقاعدة الصلاة ، وهل تصح الصلاة على وفق رواية ابن عمر ؟ فيه قولان حكاهما الشيخ أبو حامد والبندنيجي وجماعات من الخراسانيين .

( أحدهما ) : لا تصح لكثرة الأفعال فيها بلا ضرورة احترازا من صلاة شدة الخوف ، وزعم المحتج بهذا القول أن رواية ابن عمر منسوخة .

( القول الثاني ) وهو الصحيح المشهور : صحة الصلاة لصحة الحديث وعدم معارضته ، فإن رواية سهل لا تعارضه فكانت هذه في يوم وتلك في يوم آخر ، ودعوى الأول النسخ باطلة ; لأنه محتاج إلى معرفة التاريخ ، وتعذر الجمع بين الروايتين ، وليس هنا واحد منهما ، وهذا القول نص عليه الشافعي في الجديد في كتاب الرسالة ، وأما قول الغزالي : قاله بعض أصحابنا ، وهو بعيد فغلط في [ ص: 294 ] شيئين : ( أحدهما ) : نسبته إلى بعض الأصحاب ( والثاني ) : تضعيفه ، والصواب أنه قول الشافعي الجديد الصحيح ، واختار أبو حنيفة رواية ابن عمر .

قال أصحابنا : وفعل الصلاة على هذا الوجه على اختلاف الروايتين ليس واجبا ، بل مندوب ، فلو صلى الإمام ببعضهم كل الصلاة وبالباقين غيره أو صلى بعضهم أو كلهم منفردين جاز بلا خلاف ، لكن كانت الصحابة رضي الله عنهم لا يسمحون بترك الجماعة لعظم فضلها فسنت لهم هذه الصفة ليحصل لكل طائفة حظ من الجماعة ، والوقوف قبالة العدو ، وتختص الأولى بفضيلة إدراك تكبيرة الإحرام ، والثانية بفضيلة السلام معه .

قال أصحابنا : وإنما تستحب هذه الصلاة إذا كان العدو في غير جهة القبلة أو فيها وبين المسلمين حائل يمنعهم لو هجموا .

التالي السابق


الخدمات العلمية