صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( وتفارق الطائفة الأولى الإمام حكما وفعلا ، فإن لحقها سهو بعد المفارقة لها يتحمل عنهم الإمام وإن سها الإمام لم يلزمهم سهوه ، وهل يقرأ الإمام في حال انتظاره ؟ قال في موضع ( إذا جاءت الطائفة الثانية قرأ ) وقال في موضع ( يطيل القراءة حتى تدركه الطائفة الثانية ) فمن أصحابنا من قال : فيه قولان : ( أحدهما ) : لا يقرأ حتى تجيء الطائفة الثانية فيقرأ معها ; لأنه قرأ مع الطائفة الأولى قراءة تامة فيجب أن يقرأ مع الثانية أيضا قراءة تامة ( والقول الثاني ) : أنه يقرأ ، وهو الأصح ; لأن أفعال الصلاة لا تخلو من ذكر .

والقيام لا يصلح لذكر غير القراءة ، فوجب أن يقرأ .

ومن أصحابنا من قال : إن أراد أن يقرأ سورة قصيرة لم يقرأ حتى لا يفوت القراءة على الطائفة الثانية ، وإن أراد أن يقرأ سورة طويلة قرأ ; لأنه لا يفوت عليهم القراءة ، وحمل القولين على هذين الحالين .

وأما الطائفة الثانية فإنهم يفارقون الإمام فعلا ، ولا يفارقونه حكما ، فإن سهوا تحمل عنهم الإمام ، وإن سها الإمام لزمهم سهوه ، ومتى يفارقونه ؟ قال الشافعي - رحمه الله : في سجود السهو يفارقونه بعد التشهد ; لأن المسبوق لا يفارق الإمام إلا بعد التشهد .

وقال في الأم : ( يفارقونه عقيب السجود في الثانية ) ، وهو الأصح ; لأن ذلك أخف ، ويفارق المسبوق ; لأن المسبوق لا يفارق حتى يسلم الإمام وهذا يفارق قبل التسليم ، فإذا قلنا بهذا فهل يتشهد الإمام في حال الانتظار ؟ فيه طريقان .

من أصحابنا من قال : فيه قولان كالقراءة ، ومنهم من قال : يتشهد - قولا واحدا - ويخالف القراءة ، فإنه في القراءة قد قرأ مع الطائفة الأولى فلم يقرأ حتى تدركه الطائفة الثانية فيقرأ معها والتشهد لم يفعله مع الطائفة الأولى فلا ينتظر ) .


[ ص: 295 ] الشرح ) قال أصحابنا : إذا قامت الطائفة الأولى مع الإمام من سجدتي الركعة الأولى نووا مفارقين إذا انتصبوا قياما ، ولو فارقوه بعد رفع الرأس من السجدتين جاز ، لكن الأول أفضل ليستمر عليهم حكم الجماعة حالة النهوض ، واتفقوا على أنه لا بد من نية المفارقة ; لأن حكم القدوة مستمر ما لم ينو المفارقة ، ولا يجوز للمقتدي سبق الإمام ، فإذا فارقوه خرجوا عن حكم القدوة في كل شيء فلا يلحقهم سهوه ، ولا يحمل سهوهم ، وقول المصنف والأصحاب : يفارقونه حكما وفعلا أرادوا بقولهم حكما أنه لا يحمل سهوهم ، ولا يلحقهم سهوه ، ولا يسجدون لتلاوته ، ولا غير ذلك مما يلتزمه المأموم ، وأرادوا بقولهم وفعلا أنهم يصلون الركعة الثانية منفردين ، مستقلين بفعلها .

وذكر جماعة من الخراسانيين في الوقت الذي ينقطع به حكم الطائفة الأولى عن حكم الإمام ، ولا يحمل سهوهم ، ولا يلحقهم سهوه وجهين : ( أحدهما ) : إذ انتصب الإمام قائما ( والثاني ) : إذا رفع رأسه من السجدتين ، فعلى هذا لو رفع رأسه من السجود وهم فيه فسهوا فيه لم يحمله ، ونقل الرافعي الوجهين ، ثم قال : ولك أن تقول : قد نصوا على أنهم ينوون المفارقة عند رفع الرأس والانتصاب ، فلا معنى للخلاف في وقت الانقطاع ، بل ينبغي أن يقتصر على وقت نية المفارقة وهذا الذي قاله الرافعي متعين لا يجوز غيره وأما الطائفة الثانية فسهوها في الركعة الأولى لها - التي هي ثانية الإمام - محمول ; لأنهم في قدوة حقيقة ، وفي سهوهم في ركعتهم الثانية التي يأتون بها والإمام ينتظرهم في الجلوس وجهان مشهوران ، حكاهما الشيخ أبو حامد والبندنيجي وغيرهما : ( أحدهما ) : لا يحمله لمفارقتهم له في الفعل ، وهذا قول ابن سريج وأبي علي بن خيران ، فعلى هذا لا يلزمهم سهوه في حال انتظاره لهم ( وأصحهما ) ، وهو قول عامة أصحابنا المتقدمين ، وهو المنصوص ، وبه قطع المصنف والأكثرون : يحمله ويلحقهم سهوه ، ولأنهم في حكم القدوة ، وهو منتظر لهم كسهوهم في سجدة رفع الإمام منها ، ويعبر عن الوجهين بأنهم يفارقونه حكما أم لا ؟ والصحيح أنهم لا يفارقونه حكما .

قالوا : ويجري الوجهان في المزحوم في الجمعة إذا سها في وقت تخلفه ، وأجروهما فيمن صلى منفردا فسها ، ثم نوى الاقتداء في أثنائها وجوزناه [ ص: 296 ] وأتمها مأموما ، واستبعد إمام الحرمين إجراءهما هنا وقال : الوجه القطع بأن حكم السهو لا يرتفع بالقدوة اللاحقة ، وهذا هو الأظهر هنا .

واعلم أن سهو الإمام في الركعة الأولى يلحق الطائفين فتسجد له الطائفة الأولى إذا تمت صلاتها ، فإن سها بعضهم في ركعته الثانية فهل يقتصر على سجدتين أم يسجد أربعا لكونه سها في حال قدوة وفي حال انفراد ؟ فيه الوجهان السابقان في باب سجود السهو ( أصحهما ) : سجدتان .

قال صاحب البيان : فإن قلنا سجدتان فعن ماذا تصحان ؟ فيه الأوجه الثلاثة السابقة في باب سجود السهو ( أحدها ) : تقعان عن سهوه ويكون سهو إمامه تابعا ( والثاني ) : عكسه ( وأصحها ) : يقعان عنهما .

وتظهر فائدة الخلاف فيما لو نوى خلاف ما جعلناه مقصودا .

قال أصحابنا : ثم إذا قام الإمام إلى الثانية هل يقرأ في حال انتظاره فراغ الأولى ومجيء الثانية ؟ فيه نصان للشافعي ، قال في الإملاء : يقرأ ويطيل القراءة فإذا جاءت الطائفة الثانية قرأ معها فاتحة الكتاب وسورة قصيرة .

وقال في الأم : لا يقرأ بل يسبح ويذكر الله تعالى حتى تأتي الطائفة الثانية ، هذان نصان ، وللأصحاب فيهما ثلاث طرق ، أصحها وأشهرها وبه قطع المصنف في التنبيه وآخرون : فيه قولان أصحهما باتفاقهم تستحب القراءة ، فيقرأ الفاتحة وبعدها سورة طويلة حتى تجيء الطائفة الثانية ، فإذا جاءت قرأ من السورة قدر الفاتحة وسورة قصيرة لتحصل لهم قراءة الفاتحة وشيء من زمن السورة ، ودليل هذا القول أن الصلاة مبنية على أن لا سكوت فيها ، فينبغي أن يقرأ ; لأن القيام لا يشرع فيه إلا القراءة ( والقول الثاني ) : يستحب أن لا يقرأ حتى تجيء الطائفة الثانية ; لأنه قرأ مع الأولى الفاتحة ، فينبغي أن يقرأها أيضا مع الثانية ، ولا يشرع غير الفاتحة قبلها .

وعلى هذا القول قال الشافعي والأصحاب : يشتغل بما شاء من الذكر كالتسبيح وغيره .

( والطريق الثاني ) وبه قال أبو إسحاق : إن أراد قراءة سورة قصيرة لم يقرأ لئلا تفوت القراءة على الطائفة الثانية ، وإن أراد سورة طويلة قرأ ; لأنه لا تفوتهم وحمل النصين على هذين الحالين .

( والطريق الثالث ) حكاه الفوراني والإمام وآخرون من الخراسانيين : تستحب القراءة قولا واحدا ، قال أصحابنا : ويستحب للإمام أن يخفف القراءة [ ص: 297 ] في الأولى ; لأنها حالة شغل وحرب ومخاطرة عن خداع العدو ، ويستحب أيضا للطائفتين تخفيف قراءة ركعتهم الثانية لئلا يطول الانتظار .

قال أصحابنا : وسواء قرأ الإمام في حال الانتظار أم لا ، يستحب أن لا يركع حتى تفرغ الطائفة الثانية من الفاتحة ، فلو لم ينتظرهم الإمام فأدركته الطائفة الثانية راكعا أدركوا الركعة بلا خلاف كما في غير حالة الخوف ، كذا قالوه .

ويجيء فيه الوجه الشاذ السابق في باب صلاة الجماعة عن ابن خزيمة من أصحابنا أنه لا تحسب الركعة بإدراك الركوع ، ولا تحسب حتى يدرك شيئا من قيام الإمام ، وأما الطائفة الثانية فإذا صلى بهم الركعة الثانية فارقوه ليتموا الركعة الباقية عليهم ، ولا ينوون مفارقته ; ومتى يفارقونه ؟ فيه طريقان : ( الصحيح ) منهما ، وهو المشهور ، فيه ثلاثة أقوال : ذكر المصنف منها الأول والثاني ، وأحدهما يفارقونه بعد التشهد وقبل السلام ، وهذا نصه في باب سجود السهو من كتب الأم ، فعلى هذا إذا قارب السلام فارقوه ثم انتظرهم ، وطول الدعاء حتى يصلوا ركعتهم ويتشهدوا ، ثم يسلم بهم .

( والقول الثاني ) ، وهو أصحها عند المصنف والأصحاب وأشهرها ، وبه قطع كثيرون ، وهو نصه في الأم والبويطي والإملاء والقديم : يفارقونه عقب السجدة الثانية ; لأن ذلك أخف ويخالف المسبوق ، فإنه لا يفارقه إلا بعد السلام ولأن المسبوق إذا فارق لا ينتظره أحد وهنا ينتظره الإمام ليسلم به ، فكلما طال مكثه طال انتظار الإمام وطالت صلاته ; وهذه الصلاة مبنية على التخفيف .

( والثالث ) : حكاه الخراسانيون عن القديم يفارقه عقب السلام كالمسبوق حقيقة ، والطريق الثاني : حكاه الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والبندنيجي وآخرون أنهم يفارقونه عقب السجود - قولا واحدا - قال هذا القائل ونص الشافعي في سجود السهو على أنه إذا صلى رباعية يتشهد معه ; لأنه موضع تشهد الطائفة الثانية أيضا .

قال القاضي أبو الطيب في المجرد : هذا غلط ; لأن سياق نص الشافعي يرده ، فإذا قلنا بالأصح : إنهم يفارقونه عقب السجود فهل يتشهد في حال انتظارهم ؟ فيه طريقان : ( أصحهما ) : أنه على الطريقين السابقين في القراءة وهما الأول والثالث ، والطريق الثاني يتشهد قولا واحدا .

وفرق المصنف والأصحاب بينه وبين القراءة بأنه إنما لا يقرأ على [ ص: 298 ] قول ليسوي بين الطائفتين في قراءة الفاتحة معهم ، ومقتضى هذا التعليل أن يتشهد لئلا يخص الثانية بالتشهد .

قال أصحابنا : فإن قلنا : لا يتشهد اشتغل في حال انتظاره بالذكر كما قلنا إذا لم يقرأ ، ولا خلاف أنه ينتظرهم حتى يسلم بهم ( فرع ) ذكرنا أن الإمام إذا سها في الأولى لحق الطائفتين سهوه ، فإذا فارقته الأولى قال الشافعي : أشار إليهم إشارة يفهمون بها أنه سها ليسجدوا في آخر صلاتهم .

هذا نصه في الأم والمختصر .

فحكى الشيخ أبو حامد والأصحاب فيه وجهين : ( أصحهما ) وبه قال أبو إسحاق المروزي إنما يشير إليهم إذا كان سهوا يخفى عليهم فإن كان سهوا جليا لا يخفى عليهم لم يشر .

قال الشيخ أبو حامد : وأظن الشافعي أشار إلى هذا التفصيل في الإملاء .

وجزم البندنيجي أن الشافعي نص عليه في الإملاء .

( والثاني ) : يشير إليهم ، وإن كان السهو جليا ; لأن المأموم قد يجهل السجود بعد مفارقة الإمام .

( فرع ) إذا قلنا : الطائفة الثانية تفارقه عقب السجود فكان الإمام قد سها سجدوا معه في آخر صلاة الجميع ، وإن قلنا : يتشهدون معه سجدوا للسهو معهم ثم قاموا إلى ركعتهم .

قال أصحابنا : وفي إعادتهم سجود السهو في آخر صلاتهم القولان في المسبوق في غير صلاة الخوف ( أصحهما ) : يعيدون ، وإن قلنا : يقومون عقب السجود وينتظرهم بالتشهد فتشهد قبل فراغهم فأدركوه في آخر التشهد فسجد للسهو قبل تشهدهم فهل يتابعونه ؟ فيه وجهان حكاهما ابن سريج والبندنيجي وصاحبا الشامل والبيان وغيرهم ( أحدهما ) : لا يتابعونه ، بل يتشهدون ثم يسجدون السهو ثم يسلم بهم ( والثاني ) : يسجدون ; لأنهم تابعون له فعلى هذا يعيدونه بعد تشهدهم ؟ قالوا : فيه القولان ، ينبغي أن يقطع بأنهم لا يعيدونه .

التالي السابق


الخدمات العلمية