صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( ولا تصح الجمعة إلا بأربعين نفسا ; لما روى جابر رضي الله عنه قال { مضت السنة أن في كل ثلاثة إماما ، وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة وأضحى وفطرا } ومن شرط العدد أن يكونوا رجالا أحرارا [ عقلاء ] مقيمين في الموضع ، فأما النساء والعبيد والمسافرون فلا تنعقد بهم الجمعة ; لأنه لا تجب عليهم الجمعة ، فلا تنعقد بهم كالصبيان ، وهل تنعقد بمقيمين غير مستوطنين ؟ فيه وجهان ، قال أبو علي بن أبي هريرة : تنعقد بهم ; لأنه تلزمهم الجمعة فانعقدت بهم كالمستوطنين ، وقال أبو إسحاق : لا تنعقد ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم { خرج إلى عرفات ومعه أهل مكة ، وهم في ذلك الموضع مقيمون غير مستوطنين } فلو انعقدت بهم الجمعة لأقامها ) .


( الشرح ) حديث جابر ضعيف رواه البيهقي وغيره بإسناد ضعيف وضعفوه ، قال البيهقي : هو حديث لا يحتج بمثله وقول المصنف ( أن يكونوا رجالا ) يعني بالغين عقلاء .

واحتجاجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة بعرفات لا يصح ; لأنها ليست محل استيطان ، بل هو [ ص: 369 ] قضاء لا ينافيه ، ولأن الحاضرين هناك كلهم ليسوا مقيمين هناك ، والجمعة تسقط بالسفر القصير بالاتفاق ، وإنما التعليل الصحيح أنه ليس مستوطنا ، والاستيطان شرط هكذا نقل القاضي أبو الطيب أن أبا إسحاق صاحب هذا الوجه علله بهذا .

( أما حكم الفصل ) فلا تصح الجمعة إلا بأربعين رجلا بالغين عقلاء أحرارا مستوطنين القرية أو البلدة التي يصلى فيها الجمعة لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفا إلا سفر حاجة ، فإن انتقلوا عنه شتاء وسكنوه صيفا أو عكسه فليسوا مستوطنين ولا تنعقد بهم بالاتفاق ، وهذا الذي ذكرناه من اشتراط أربعين هو المعروف من مذهب الشافعي والمنصوص في كتبه ، وقطع به جمهور الأصحاب ، ومعناه أربعون بالإمام فيكونون تسعة وثلاثين مأموما .

ونقل ابن القاص في التلخيص قولا للشافعي قديما : أنها تنعقد بثلاثة : إمام ومأمومين ، هكذا حكاه عن الأصحاب ، والذي هو موجود في التلخيص ثلاثة مع الإمام ، ثم إن هذا القول الذي حكاه غريب أنكره جمهور الأصحاب وغلطوه فيه .

قال القفال في شرح التلخيص : هذا القول غلط لم يذكره الشافعي قط ولا أعرفه ، وإنما هو مذهب أبي حنيفة .

وقال الشيخ أبو علي السنجي في شرح التلخيص : أنكر عامة أصحابنا هذا القول وقالوا : لا يعرف هذا للشافعي .

قال : ومنهم من سلم نقله ، وحكى أصحابنا الخراسانيون وجها ضعيفا أنه يشترط أن يكون الإمام زائدا على الأربعين ، حكاه جماعة من العراقيين أيضا ، منهم صاحب الحاوي والدارمي والشاشي .

قال صاحب الحاوي : هو قول أبي علي ابن أبي هريرة حكاه الروياني قولا قديما .

وأما قول المصنف ( هل تنعقد بمقيمين غير مستوطنين ؟ ) فيه وجهان مشهوران : أصحهما : لا تنعقد ، اتفقوا على تصحيحه ، ممن صححه المحاملي وإمام الحرمين والبغوي والمتولي وآخرون ، وسيأتي إن شاء الله - تعالى - في الفرع الآتي بيان محل الوجهين .

( فرع ) قال أصحابنا : الناس في الجمعة ستة أقسام : ( أحدها ) : من تلزمه وتنعقد به ; وهو الذكر الحر البالغ العاقل المستوطن الذي لا عذر له ( الثاني ) : من تنعقد به ولا تلزمه ، وهو المريض والممرض ، ومن في طريقه [ ص: 370 ] مطر ونحوهم من المعذورين .

ولنا قول شاذ ضعيف جدا : أنها لا تنعقد بالمريض حكاه الرافعي ( الثالث ) : من لا تلزمه ولا تنعقد به ولا تصح منه ، وهو المجنون والمغمى عليه .

( الرابع ) : من تلزمه ولا تنعقد به وتصح منه وهو المميز والعبد والمسافر والمرأة والخنثى .

( الخامس ) : من تلزمه ولا تصح منه وهو المرتد .

( السادس ) من تلزمه وتصح منه ، وفي انعقادها به خلاف ، وهو المقيم غير المستوطن ففيه الوجهان المذكوران في الكتاب ( أصحهما ) : لا تنعقد به .

ثم أطلق جماعة الوجهين في كل مقيم لا يترخص ، وصرح جماعة بأن الوجهين جاريان في المسافر الذي نوى إقامة أربعة أيام ، وهو ظاهر كلام المصنف وغيره ، قال الرافعي : هما جاريان فيمن نوى إقامة يخرج بها عن كونه مسافرا قصيرة كانت أو طويلة وشذ البغوي فقال : الوجهان فيمن طال مقامه وفي عزمه الرجوع إلى وطنه كالمتفقه والتاجر ، قال : فإن نوى إقامة أربعة أيام يعني ونحوها من الإقامة القليلة لم تنعقد به وجها واحدا ، والمشهور : طرد الخلاف في الجميع ، وأما أهل " الخيام والقرى الذين يبلغهم نداء البلد وينقصون عن أربعين فقطع البغوي بأنها لا تنعقد بهم ; لأنهم ليسوا مقيمين في بلد الجمعة بخلاف المقيم بنية الرجوع إلى وطنه ، وطرد المتولي فيهم الوجهين والأول أظهر .

( فرع ) في مذاهب العلماء في العدد الذي يشترط لانعقاد الجمعة قد ذكرنا أن مذهبنا اشتراط أربعين ، وبه قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وأحمد وإسحاق ، وهو رواية عن عمر بن عبد العزيز وعنه رواية باشتراط خمسين ، وقال ربيعة : تنعقد باثني عشر ، وقال أبو حنيفة والثوري والليث ومحمد : تنعقد بأربعة أحدهم الإمام - وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وأبي ثور واختاره .

وحكى غيره عن الأوزاعي وأبي يوسف انعقادها بثلاثة أحدهم الإمام .

وقال الحسن بن صالح وداود : تنعقد باثنين أحدهما الإمام ، وهو معنى ما حكاه ابن المنذر عن مكحول ، وقال مالك : لا يشترط عدد معين ، بل يشترط جماعة تسكن بهم قرية ، ويقع بينهم البيع [ ص: 371 ] والشراء ، ولا يحصل بثلاثة وأربعة ونحوهم ، وحكى الدارمي عن القاشاني أنها تنعقد بواحد منفرد ، والقاشاني لا يعتد به في الإجماع ، وقد نقلوا الإجماع أنه لا بد من عدد واختلفوا في قدره كما ذكرنا .

واحتج لربيعة بحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يخطب قائما يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا } واحتج للباقين بحديث عن أم عبد الله الدوسية قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الجمعة واجبة على كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربعة } رواه الدارقطني وضعف طرقه كلها ، وبأنهم جماعة فأشبه الأربعين .

واحتج لمن شرط خمسين بحديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { في الخمسين جمعة } .

وليس فيما دون ذلك ، رواه الدارقطني بإسناد فيه ضعيفان " .

واحتج أصحابنا بحديث جابر المذكور في الكتاب ولكنه ضعيف كما سبق ، وبأحاديث بمعناه لكنها ضعيفة وأقرب ما يحتج به ما احتج البيهقي والأصحاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال { أول من جمع بنا في المدينة سعد بن زرارة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في نقيع الخضمات قلت : كم كنتم ؟ قال : أربعون رجلا } حديث حسن رواه أبو داود والبيهقي وغيرهما بأسانيد صحيحة قال البيهقي وغيره : وهو [ ص: 372 ] صحيح ، النقيع هنا بالنون ذكره الخطابي والحازمي وغيرهما ، والخضمات - بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين - قال الشيخ أبو حامد في تعليقه : قال أحمد بن حنبل : نقيع الخضمات قرية لبني بياضة بقرب المدينة على ميل من منازل بني سلمة وقال أصحابنا : وجه الدلالة منه أن يقال : أجمعت الأمة على اشتراط العدد ، والأصل الظهر فلا تصح الجمعة إلا بعدد ثبت فيه التوقيف ، وقد ثبت جوازها بأربعين ، فلا يجوز بأقل منه إلا بدليل صريح ، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { صلوا كما رأيتموني أصلي } ولم تثبت صلاته لها بأقل من أربعين .

وأما حديث انفضاضهم فلم يبق إلا اثنا عشر وليس فيه أنه ابتدأ الصلاة باثني عشر بل يحتمل أنهم عادوا هم أو غيرهم فحضروا أركان الخطبة والصلاة وجاء في روايات مسلم " انفضوا في الخطبة " وفي رواية للبخاري .

انفضوا في الصلاة ، وهي محمولة على الخطبة جمعا بين الروايات .

ويكون المراد بالصلاة الخطبة ; لأن منتظر الصلاة في صلاة .

وقد جاء في رواية للدارقطني والبيهقي أنهم انفضوا فلم يبق إلا أربعون رجلا والمشهور في الروايات اثنا عشر .

( فرع ) إذا كان في القرية أربعون من أهل الكمال صحت جمعتهم في قريتهم ولزمتهم سواء كان فيها سوق ونهر أم لا - وبه - قال مالك وأحمد وإسحاق وجمهور العلماء ، وحكاه الشيخ أبو حامد عن عمر وابنه ، وابن عباس رضي الله عنهم وقال أبو حنيفة والثوري : لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع .

وحكى ابن المنذر نحوه عن علي بن أبي طالب والحسن البصري وابن سيرين والنخعي واحتج لهم بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم { لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر } واحتج أصحابنا بحديث ابن عباس قال { إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين } رواه البخاري .

وبحديث عبد الرحمن [ ص: 373 ] بن كعب بن مالك المذكور في الفرع قبله ، وأما الحديث الذي احتجوا به فضعيف متفق على ضعفه ، وهو موقوف على علي رضي الله عنه بإسناد ضعيف منقطع .

( فرع ) لا تصح الجمعة عندنا إلا في أبنية يستوطنها من تنعقد بهم الجمعة ، ولا تصح في الصحراء ، وبه قال مالك وآخرون ، وقال أبو حنيفة وأحمد : يجوز إقامتها لأهل المصر في الصحراء كالعيد .

واحتج أصحابنا بما احتج به المصنف أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يفعلوها في الصحراء مع تطاول الأزمان وتكرر فعلها بخلاف العيد .

وقد قال صلى الله عليه وسلم { صلوا كما رأيتموني أصلي } .

( فرع ) لا تنعقد الجمعة عندنا بالعبيد ولا المسافرين ، وبه قال الجمهور ، وقال أبو حنيفة : تنعقد .

التالي السابق


الخدمات العلمية