صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( وسننها أن تكون على منبر ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب على المنبر ، ولأنه أبلغ في الإعلام ، ومن سننها إذا صعد المنبر ثم أقبل على الناس أن يسلم عليهم ; لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان إذا صعد المنبر يوم الجمعة واستقبل الناس بوجهه قال : السلام عليكم } ولأنه استدبر الناس في صعوده فإذا أقبل عليهم سلم .

ومن سننها أن يجلس إذا سلم حتى يؤذن المؤذن ; لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان إذا خرج يوم الجمعة جلس - يعني على المنبر - حتى يسكت المؤذن ثم قام فخطب } ويقف على الدرجة التي تلي المستراح لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف على هذه الدرجة ، ولأن ذلك أمكن له ، ويستحب أن يعتمد على قوس أو عصا ; لما روى الحكم بن حزن رضي الله عنه قال { وفدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهدنا معه الجمعة فقام متوكئا على قوس أو عصا ، فحمد الله وأثنى عليه ، كلمات خفيفات ، طيبات مباركات } ولأن ذلك أمكن له فإن لم يكن معه شيء سكن يديه ، ومن سننها أن يقبل على الناس ولا يلتفت يمينا ولا شمالا ; لما روى سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان إذا خطبنا استقبلناه بوجوهنا واستقبلنا بوجهه } ويستحب أن يرفع صوته لحديث جابر { علا صوته واشتد غضبه } ولأنه أبلغ في الإعلام ; قال الشافعي - رحمه الله : ويكون كلامه مترسلا مبينا معربا من غير بغي ولا تمطيط ; لأن ذلك أحسن وأبلغ ، ويستحب أن يقصر الخطبة ; لما روي عن عثمان " أنه خطب وأوجز ، فقيل له : لو كنت تنفست ، فقال سمعت رسول الله [ ص: 397 ] صلى الله عليه وسلم يقول : { قصر خطبة الرجل مئنة من فقهه ، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة } ) .


( الشرح ) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يخطب على المنبر } صحيح مشهور رواه البخاري ومسلم من روايات جماعات من الصحابة .

وأما الحديث الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان إذا صعد المنبر يوم الجمعة قال : السلام عليكم } فرواه البيهقي من رواية ابن عمر وجابر وإسنادهما ليس بقوي .

وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان إذا خرج يوم الجمعة جلس على المنبر } إلى آخره ، فرواه أبو داود بإسناد ضعيف ; ويغني عنه ما سبق في صحيح البخاري عن السائب بن يزيد الصحابي قال { كان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما } " فهذا الحديث صحيح صريح في الجلوس حينئذ ، وبه استدل البخاري والبيهقي في المسألة .

وأما حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يقف على الدرجة التي تلي المستراح } فهذا الحديث موجود في أكثر النسخ وليس موجودا في بعض النسخ المقابلة بأصل المصنف ، وهو حديث صحيح .

وأما حديث الحكم بن حزن فحديث حسن رواه أبو داود وغيره بأسانيد حسنة ، وأما حديث سمرة بن جندب .

وأما حديث عثمان فرواه مسلم في صحيحه . [ ص: 398 ] ( وأما لغات الفصل وألفاظه ) فالمنبر مشتق من النبر ، وهو الارتفاع ، وقوله " تلي المستراح " هو أعلى المنبر الذي يقعد عليه الخطيب ليستريح قبل الخطبة حال الأذان ، والحكم بن حزن بفتح الحاء المهملة وإسكان الزاي ، وجندب بضم الدال وفتحها ، قوله " يكون كلامه مترسلا " قال الأزهري أي يتمهل فيه ويبينه تبيينا يفهمه سامعوه . قال وهو من قولهم : اذهب على رسلك أي على هينتك غير مستعجل ولا تتعب نفسك ، قوله " معربا " أي فصيحا ، والبغي بإسكان الغين المعجمة ، قال الأزهري : هو أن يكون رفعه صوته يحكي كلام الجبابرة والمتكبرين والمتفيهقين ، قال : ( والبغي في كلام العرب الكبر ، والبغي الضلال والبغي الفساد ، قوله التمطيط الإفراط في مد الحروف ، يقال : مط كلامه إذا مده ، فإذا أفرط فيه قيل مططه ، قوله : لو كنت تنفست ; يعني مددتها وطولتها ، قوله صلى الله عليه وسلم " مئنة " بفتح الميم بعدها همزة مكسورة ثم نون مشددة أي علامة أو دلالة على فقهه .

( وأما أحكام الفصل ) ففيه مسائل : ( إحداها ) ) أجمع العلماء على أنه يستحب كون الخطبة على منبر للأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها ، ولأنه أبلغ في الإعلام ، ولأن الناس إذا شاهدوا الخطيب كان أبلغ في وعظهم .

قال أصحابنا وغيرهم : ويستحب أن يكون المنبر على يمين المحراب ، أي على يمين الإمام إذا قام في المحراب مستقبل القبلة ، وهكذا العادة .

قال أصحابنا : ويستحب أن يقف على يمين المنبر ، قال أصحابنا .

فإن لم يكن منبر استحب أن يقف على موضع عال ، وإلا فإلى خشبة ونحوها للحديث المشهور في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يخطب إلى جذع قبل اتخاذ المنبر } فقالوا : ويكره المنبر الكبير جدا الذي يضيق على المصلين إذا لم يكن المسجد متسعا .

( الثانية ) قال أصحابنا : يسن للإمام السلام على الناس مرتين ( إحداهما ) : عند دخوله المسجد يسلم على من هناك وعلى من عند المنبر إذا انتهى إليه .

( الثانية ) : إذا وصل أعلى المنبر وأقبل على الناس بوجهه يسلم عليهم ; لما ذكره المصنف .

قال أصحابنا : وإذا سلم لزم السامعين الرد عليه وهو فرض كفاية كالسلام في باقي المواضع ، وهذا الذي ذكرناه من استحباب السلام [ ص: 399 ] الثاني مذهبنا ومذهب الأكثرين وبه قال ابن عباس وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وأحمد .

وقال مالك وأبو حنيفة : يكره .

( الثالثة ) يسن له إذا صعد المنبر وأقبل على الناس وسلم أن يجلس ويؤذن المؤذن فإذا فرغ من الأذان قام فشرع في الخطبة ويكون المؤذن واحدا ، فإن كان أكثر ففيه كلام وتفصيل سبق في باب الأذان .

( الرابعة ) : يستحب أن يقف على الدرجة التي تلي المستراح كما ذكره المصنف ، قال الشيخ أبو حامد : فإن قيل قد روي أن أبا بكر نزل عن موقف النبي صلى الله عليه وسلم درجة ، وعمر درجة أخرى ، وعثمان أخرى ، ووقف علي رضي الله عنه في موقف النبي صلى الله عليه وسلم .

قلنا : كل منهم له قصد صحيح ، وليس بعضهم حجة على بعض ، واختار الشافعي وغيره موافقة النبي صلى الله عليه وسلم لعموم الأمر بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم .

( الخامسة ) : يسن أن يعتمد على قوس أو سيف أو عصا أو نحوها ; لما سبق .

قال القاضي حسين والبغوي : يستحب أن يأخذه في يده اليسرى ولم يذكر الجمهور اليد التي يأخذه فيها .

وقال أصحابنا : ويستحب أن يشغل يده الأخرى بأن يضعها على حرف المنبر .

قالوا : فإن لم يجد سيفا أو عصا ونحوه سكن يديه بأن يضع اليمنى على اليسرى أو يرسلهما ولا يحركهما ولا يعبث بواحدة منهما ، والمقصود الخشوع والمنع من العبث .

( السادسة ) : يسن أن يقبل الخطيب على القوم في جميع خطبتيه ولا يلتفت في شيء منهما ، قال صاحب الحاوي وغيره : ولا يفعل ما يفعله بعض الخطباء في هذه الأزمان من الالتفات يمينا وشمالا في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيرها فإنه باطل لا أصل له ، واتفق العلماء على كراهة هذا الالتفات وهو معدود من البدع المنكرة ، وقد قال الشيخ أبو حامد في تعليقه : يستحب أن يقصد قصد وجهه ، ولا يلتفت في شيء من خطبته عندنا ، وقال أبو حنيفة : يلتفت يمينا وشمالا في بعض الخطبة كما في الأذان ، وهذا غريب لا أصل له .

قال أصحابنا : ويستحب للقوم الإقبال بوجوههم على [ ص: 400 ] الخطيب وجاءت فيه أحاديث كثيرة ولأنه الذي يقتضيه الأدب ، وهو أبلغ في الوعظ ، وهو مجمع عليه .

قال إمام الحرمين : سبب استقبالهم له واستقباله إياهم واستدباره القبلة أن يخاطبهم ، فلو استدبرهم كان قبيحا خارجا عن عرف الخطاب ، ولو وقف في آخر المسجد واستقبل القبلة فإن استدبروه كان قبيحا ; وإن استقبلوه استدبروا القبلة ; فاستدبار واحد واستقبال الجمع أولى من عكسه .

قال أصحابنا : ولو خالف السنة وخطب مستقبل القبلة مستدبر الناس صحت خطبته مع الكراهة ; كذا قطع به جماهير الأصحاب في جميع الطرق ; وفيه وجه شاذ أنه لا تصح خطبته .

حكاه الدارمي والشاشي وغيرهما ، وهو مخالف لما قطع به ; وأن له بعض الاتجاه ، وطرد الدارمي الوجه فيما إذا استدبروه أو خالفوا هم أو هو الهيئة المشروعة بغير ذلك .

( السابعة ) : يستحب رفع صوته زيادة على الواجب ; لما ذكره المصنف .

( الثامنة ) : يستحب كون الخطبة فصيحة بليغة مرتبة مبينة من غير تمطيط ولا تقعير ; ولا تكون ألفاظا مبتذلة ملفقة ، فإنها لا تقع في النفوس موقعا كاملا ، ولا تكون وحشية ; لأنه لا يحصل مقصودها بل يختار ألفاظا جزلة مفهمة .

قال المتولي : ويكره الكلمات المشتركة والبعيدة عن الأفهام .

وما يكره عقول الحاضرين ، واحتج بقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه " حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ " رواه البخاري في أواخر كتاب العلم من صحيحه .

( التاسعة ) : يستحب تقصير الخطبة للحديث المذكور ، وحتى لا يملوها ، قال أصحابنا : ويكون قصرها معتدلا ، ولا يبالغ بحيث يمحقها .

( العاشرة ) : قال المتولي : يستحب للخطيب أن لا يحضر للجمعة إلا بعد دخول الوقت بحيث يشرع فيها أول وصوله المنبر ; لأن هذا هو المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا وصل المنبر صعده ولا يصلي تحية المسجد ، وتسقط هنا التحية بسبب الاشتغال بالخطبة كما تسقط في حق الحاج إذا دخل المسجد الحرام بسبب الطواف ، وقال جماعة من أصحابنا : [ ص: 401 ] تستحب له تحية المسجد ركعتان عند المنبر ، ممن ذكر هذا البندنيجي والجرجاني في التحرير وصاحبا العدة والبيان ، والمذهب أنه لا يصليها ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل أنه صلاها ، وحكمته ما ذكرته .

ولم يذكر الشافعي وجماهير الأصحاب التحية ، وظاهر كلامهم أنه لا يصليها ، والله أعلم .

( الحادية عشرة ) : يستحب للقوم أن يقبلوا على الخطيب مستمعين ولا يشتغلوا بغيره حتى قال أصحابنا : يكره لهم شرب الماء للتلذذ ، ولا بأس بشربه للعطش للقوم والخطيب ، هذا مذهبنا قال ابن المنذر : رخص في الشرب طاوس ومجاهد والشافعي ، ونهى عنه مالك والأوزاعي وأحمد .

وقال الأوزاعي : تبطل الجمعة إذا شرب ، والإمام يخطب ، واختار ابن المنذر الجواز قال : ولا أعلم حجة لمن منعه .

قال العبدري : قول الأوزاعي مخالف للإجماع .

( الثانية عشرة ) : يستحب للخطيب أن يختم خطبته بقوله : أستغفر الله لي ولكم ، ذكره البغوي .

ويستحب له أن يأخذ في النزول من المنبر عقب فراغه ، ويأخذ المؤذن في الإقامة ، ويبلغ المحراب مع فراغ الإقامة .

( الثالثة عشرة ) : يكره في الخطبة أشياء ( منها ) ما يفعله بعض جهلة الخطباء من الدق بالسيف على درج المنبر في صعوده ، وهذا باطل لا أصل له وبدعة قبيحة ( ومنها ) : الدعاء إذا انتهى صعوده قبل جلوسه ، وربما توهم بعض جهلتهم أنها ساعة إجابة الدعاء ، وذلك خطأ ، إنما ساعة الإجابة بعد جلوسه كما سنوضحه في موضعه من الباب الثاني إن شاء الله - تعالى - ( ومنها ) : الالتفات في الخطبة الثانية عند الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبق بيان أنه باطل مكروه ( ومنها ) : المجازفة في أوصاف السلاطين في الدعاء لهم وكذبهم في كثير من ذلك ، كقولهم السلطان العالم العادل ونحوه ( ومنها ) : مبالغتهم في الإسراع في الخطبة الثانية وخفض الصوت بها .

( الرابعة عشرة ) : قال الشافعي في المختصر : وإذا حصر الإمام لقن ، قال الشيخ أبو حامد والأصحاب : ونص في مواضع أخر أنه لا يلقن .

قال القاضي أبو الطيب : قال أصحابنا : ليست على قولين بل على حالين ، فقوله " يلقنه " أراد إذا استعظمه التلقين بحيث سكت ولم ينطق بشيء ; وقوله " لا يلقنه " [ ص: 402 ] أراد مادام يردد الكلام ويرجو أن ينفتح عليه ; فيترك حتى ينفتح عليه ، فإن لم ينفتح لقن ; واتفق الأصحاب على أن مراد الشافعي هذا التفصيل وأنها ليست على قولين .

التالي السابق


الخدمات العلمية