صفحة جزء
باب هيئة الجمعة والتكبير قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( السنة لمن أراد الجمعة أن يغتسل ; لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من جاء منكم إلى الجمعة فليغتسل } ووقته ما بين طلوع الفجر إلى أن يدخل في الصلاة فإن اغتسل قبل طلوع الفجر لم يجزئه لقوله صلى الله عليه وسلم { غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم } فعلقه على اليوم .

والأفضل أن يغتسل عند الرواح لحديث ابن عمر ، ولأنه إنما يراد لقطع الروائح فإذا فعله عند الرواح كان أبلغ في المقصود ، فإن ترك الغسل جاز ; لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : من توضأ فبها ونعمت ، ومن اغتسل فالغسل أفضل } فإن كان جنبا فنوى بالغسل الجنابة والجمعة أجزأه عنهما كما لو اغتسلت المرأة ونوت الجنابة والحيض وإن نوى الجنابة ولم ينو الجمعة أجزأه عن الجنابة ، وفي الجمعة قولان .

( أحدهما ) : يجزئه ; لأنه يراد للتنظيف ، وقد حصل [ ذلك ] ( والثاني ) : لا يجزئه ; لأنه لم ينوه فأشبه إذا اغتسل من غير نية ، وإن نوى الجمعة ولم ينو الجنابة لم يجزئه عن الجنابة وفي الجمعة وجهان ( أحدهما ) : وهو المذهب أن يجزئه عنهما ; لأنه نواها ( والثاني ) : لا يجزئه ; لأن غسل الجمعة يراد للتنظيف ، والتنظيف لا يحصل مع بقاء الجنابة ) .


( الشرح ) حديث ابن عمر رواه البخاري ومسلم وحديث { غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم } رواه البخاري ومسلم بهذا اللفظ من رواية أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث سمرة حديث حسن رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بأسانيد حسنة قال الترمذي : هو حديث حسن .

وقوله صلى الله عليه وسلم { من جاء منكم إلى الجمعة } معناه [ ص: 405 ] من أراد المجيء ( وغسل الجمعة واجب على كل محتلم ) المراد بالمحتلم البالغ ، وبالوجوب وجوب اختيار لا وجوب التزام ، كقول الإنسان لصاحبه ، حقك واجب علي .

( وقوله ) صلى الله عليه وسلم ( من توضأ فبها ونعمت ) قال الأزهري والخطابي : قال الأصمعي : معناه فبالسنة أخذ ونعمت السنة ، قال الخطابي : ونعمت الخصلة أو نعمت الفعلة أو نحو ذلك قال : وإنما ظهرت تاء التأنيث لإظهار السنة أو الخصلة أو الفعلة ، وحكى الهروي في الغريبين عن الأصمعي ما سبق ثم قال : وسمعت الفقيه أبا حاتم الشاركي يقول : معناه فبالرخصة أخذ ; لأن السنة يوم الجمعة الغسل وقال صاحب الشامل : فبالفريضة أخذ ولعل الأصمعي أراد بقوله فبالسنة أي فيما جوزته السنة ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ونعمت - بكسر النون وإسكان العين - هذا هو المشهور وروي بفتح النون وكسر العين وهو الأصل في هذه اللفظة قال القلعي : وروي نعمت بفتح النون وكسر العين وفتح التاء أي نعمك الله وهذا تصحيف نبهت عليه لئلا يغتر به .

( أما الأحكام ) فقد سبق بيان غسل الجمعة وسائر الأغسال المسنونة في فصل عقيب باب صفة الغسل ، ونعيد منه هنا قطعة مختصرة تتعلق بلفظ المصنف ، وغسل الجمعة سنة ، وليس بواجب وجوبا يعصى بتركه بلا خلاف عندنا وفيمن يسن له أربعة أوجه ( الصحيح ) المنصوص - وبه قطع المصنف والجمهور - يسن لكل من أراد حضور الجمعة ، سواء الرجل والمرأة والصبي والمسافر والعبد وغيرهم لظاهر حديث ابن عمر ، ولأن المراد النظافة ، وهم في هذا سواء ، ولا يسن لمن لم يرد الحضور ، وإن كان من أهل الجمعة لمفهوم الحديث ولانتفاء المقصود ولحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل ، ومن لم يأتها فليس عليه غسل من الرجال والنساء } رواه البيهقي بهذا اللفظ بإسناد صحيح .

( الثاني ) : يسن لكل من حضرها ولمن هو من أهلها - ومنعه عذر ، حكاه الماوردي والروياني والشاشي وغيرهم ; لأنه شرع له الجمعة والغسل ، فعجز عن أحدهما فينبغي أن يفعل الآخر [ ص: 406 ] والثالث ) : لا يسن إلا لمن لزمه حضورها ، حكاه الشاشي وآخرون .

( والرابع ) : يسن لكل أحد سواء من حضرها وغيره ; لأنه كيوم العيد ، وهو مشهود ممن حكاه المتولي وغيره ، قال أصحابنا : ووقت جواز غسل الجمعة من طلوع الفجر إلى أن يدخل في الصلاة كما قاله المصنف ودليله في الكتاب .

قالوا : ولا يجوز قبل الفجر وانفرد إمام الحرمين بحكاية وجه أنه يجوز قبل طلوع الفجر كغسل العيد على أصح القولين والصواب المشهور أنه لا يجزئ قبل الفجر ويخالف العيد .

فإنه يصلى في أول النهار فيبقى أثر الغسل ، ولأن الحاجة تدعو إلى تقديم غسل العيد لكون صلاته أول النهار ، فلو لم يجز قبل الفجر ضاق الوقت وتأخر عن التبكير إلى الصلاة ، واتفقوا على أن الأفضل تأخيره إلى وقت الذهاب إلى الجمعة ; لما ذكره المصنف وقال مالك : لا يصح إلا عند الذهاب .

ولو اغتسل ثم أحدث أو أجنب بجماع أو غيره لم يبطل غسل الجمعة عندنا ، بل يغتسل للجنابة ويبقى غسل الجمعة على صحته ; لأنه قد صح ولا وجه لإبطاله ، ولو عجز عن الغسل لنفاد الماء بعد الوضوء أو لمرض أو برد أو غير ذلك - قال الصيدلاني وسائر الأصحاب : يستحب له التيمم ويحوز به فضيلة الغسل ; لأن الشرع أقامه مقامه عند العجز .

قال إمام الحرمين : هذا الذي قالوه هو الظاهر ، وفيه احتمال من حيث إن المراد بالغسل النظافة ولا تحصل بالتيمم ورجح الغزالي هذا الاحتمال وليس بشيء ، ولو ترك الغسل مع التمكن منه فلا إثم عليه وجمعته صحيحة وسنبسط دلائله في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله - تعالى - .

وأما إذا وجب عليه يوم الجمعة غسل جنابة فنوى الغسل عن الجنابة والجمعة معا فالمذهب صحة غسله لهما جميعا ، وبه قطع المصنف والجمهور ، وفيه وجه ضعيف حكاه الخراسانيون أنه لا يجزئه ، حكاه المتولي عن أبي سهل الصعلوكي من أصحابنا ، وهو مذهب مالك ، واستدل للمذهب بما إذا لزمها غسل حيض وغسل جنابة فنوتهما أو نوى بصلاته الفرض وتحية المسجد ، فإنه يجزئه عنهما ، ولو نوى غسل الجمعة لم تحصل [ عن ] الجنابة على المذهب ، وبه قطع المصنف والجمهور وفيه وجه مشهور [ ص: 407 ] للخراسانيين أنها تحصل ، وسبق بيانه في كتاب الطهارة وهو ضعيف فإن قلنا به حصل غسل الجمعة أيضا ، وإن قلنا بالمذهب ففي صحة غسل الجمعة وجهان حكاهما المصنف وغيره ( الصحيح ) الذي قطع به كثيرون : حصوله ونقله البندنيجي وغيره عن النص ( والثاني ) : لا يحصل ، ودليلهما في الكتاب .

وإذا اختصرت قلت : إذا نوى غسل الجمعة فثلاثة أوجه ( الصحيح ) : حصولها دون الجنابة ( والثاني ) : حصولهما ( والثالث ) : منعهما .

ولو نوى الغسل للجنابة حصل بلا خلاف ، وفي حصول غسل الجمعة قولان ( أصحهما ) : عند المصنف في التنبيه والأكثرين لا يحصل ; لأن الأعمال بالنيات ولم ينوه ( وأصحهما ) : عند البغوي حصوله والمختار أنه لا يحصل .

( فرع ) في مذاهب العلماء في غسل الجمعة مذهبنا أنه سنة ليس بواجب يعصي بتركه بل له حكم سائر المندوبات ، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وقال بعض أهل الظاهر : هو فرض وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة رضي الله عنه وحكاه الخطابي وغيره عن الحسن البصري وعن رواية عن مالك ، واحتج لهم بحديث { غسل الجمعة واجب على كل محتلم } وبحديث { من جاء منكم إلى الجمعة فليغتسل } وهما في الصحيحين كما بيناه .

واحتج أصحابنا والجمهور بقوله { من توضأ فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل } وفيه دليلان على عدم الوجوب ( أحدهما ) : قوله صلى الله عليه وسلم " فبها " وعلى كل قول مما سبق في تفسيره تحصل الدلالة ( والثاني ) : قوله صلى الله عليه وسلم " فالغسل أفضل " والأصل في أفعل التفضيل أن يدخل على مشتركين في الفضل يرجح أحدهما فيه ، وبحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فدنا واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة ، وزيادة ثلاثة أيام } رواه مسلم وغيره .

وبحديث أبي هريرة قال : " بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس يوم الجمعة ; إذ دخل عثمان فأعرض عنه عمر فقال : ما بال رجال يتأخرون بعد النداء ؟ فقال عثمان : [ ص: 408 ] ما زدت حين سمعت النداء أن توضأت ثم أقبلت ، فقال عمر والوضوء أيضا ؟ ألم تسمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { : إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل } رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ مسلم ، وفي رواية البخاري دخل رجل ولم يسم عثمان ; وموضع الدلالة أن عمر وعثمان ومن حضر الجمعة ، وهم الجم الغفير أقروا عثمان على ترك الغسل ولم يأمروه بالرجوع له ، ولو كان واجبا لم يتركه ولم يتركوا أمره بالرجوع له ، قال بعض الظاهرية : لا يتحرينه .

( وقوله ) : والوضوء أيضا منصوب على المصدر ، أي وتوضأت الوضوء أيضا وبحديث عائشة قالت { كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم ومن العوالي فيأتون في العباء ويصيبهم الغبار ، فيخرج منهم الريح ، فقال رسول الله لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا } رواه البخاري ومسلم وعن ابن عباس قال " غسل الجمعة ليس بواجب ، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل ، وسأخبركم كيف كان بدء الغسل " فذكر نحو حديث عائشة .

رواه أبو داود بإسناد حسن ( والجواب ) عما احتجوا به أنه محمول على الاستحباب جمعا بين الأدلة ، والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء في مسائل من غسل الجمعة قال ابن المنذر : أكثر العلماء يقولون : يجزئ غسل واحد عن الجنابة والجمعة وهو قول ابن عمر ومجاهد ومكحول ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبي ثور ، وقال أحمد : أرجو أن يجزئه ، وقال أبو قتادة الصحابي لمن اغتسل للجنابة أعد غسلا للجمعة ، وقال بعض الظاهرية : لا يجزئه ( ومنها ) : لو اغتسل للجمعة قبل الفجر لم تجزئه على الصحيح من مذهبنا ، وبه قال جماهير العلماء .

وقال الأوزاعي : يجزئه ( ومنها ) : لو اغتسل لها بعد طلوع الفجر أجزأه عندنا وعند الجمهور حكاه ابن المنذر عن الحسن ومجاهد والنخعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، وقال مالك : لا يجزئه إلا عند الذهاب إلى الجمعة وكلهم يقولون : لا يجزئه قبل الفجر إلا الأوزاعي فقال : يجزئه الاغتسال قبل طلوع الفجر للجنابة والجمعة .

( ومنها ) : لو اغتسل للجمعة ثم أجنب لم يبطل غسله عندنا وعند الجمهور .

[ ص: 409 ] وقال الأوزاعي يبطل .

ولو أحدث لم يبطل بالإجماع ، واختلفوا في استحباب إعادة الغسل ، فمذهبنا أنه لا يستحب ، وحكاه ابن المنذر عن الحسن ومجاهد ومالك والأوزاعي قال : وبه أقول ، وحكى عن طاوس والزهري وقتادة ويحيى بن أبي كثير استحبابه ( ومنها ) : المسافر إذا لم يرد حضور الجمعة لا يستحب له الغسل عندنا ، وفيه الوجه السابق .

قال ابن المنذر : وممن تركه في السفر ابن عمر وعلقمة وعطاء .

قال : وروي عن طلحة بن عبيد الله أنه كان يغتسل في السفر يوم الجمعة ، وعن طاوس ومجاهد مثله .

( ومنها ) : المرأة إذا حضرت الجمعة استحب لها الغسل ، عندنا ، وبه قال مالك والجمهور .

وقال أحمد : لا تغتسل ، دليلنا على الجميع قوله صلى الله عليه وسلم { من جاء منكم إلى الجمعة فليغتسل } وعلى مالك اشتراط الذهاب عقب الغسل .

وقوله صلى الله عليه وسلم { من اغتسل يوم الجمعة ثم راح } إلى آخر الحديث ، ولفظة ( ثم ) للتراخي ، وعلى أحمد في المرأة حديث ابن عمر الذي رواه البيهقي بزيادته ، وهو صحيح سبق بيانه قريبا ، ولأنه ليس فيه تطيب ولا تزين .

التالي السابق


الخدمات العلمية