صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( وتعتبر الساعات من حين طلوع الفجر ; لأنه أول اليوم ، وبه يتعلق جواز الغسل ، ومن أصحابنا من قال : يعتبر من طلوع الشمس وليس بشيء ) .


( الشرح ) اتفق أصحابنا وغيرهم على استحباب التبكير إلى الجمعة في الساعة الأولى للحديث السابق ; وفيما يعتبر منه الساعات ثلاثة أوجه ( الصحيح ) عند المصنف والأكثرين من طلوع الفجر ( والثاني ) : من طلوع الشمس ، وبه قطع المصنف في التنبيه ، وينكر عليه الجزم به ( والثالث ) : أن الساعات هنا لحظات لطيفة بعد الزوال ، واختاره القاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهما من الخراسانيين وهو مذهب مالك .

واحتجوا بأن الرواح إنما يكون بعد الزوال ، وهذا ضعيف أو باطل ، والصواب أن الساعات من أول النهار ; وأنه يستحب التبكير من أول النهار ، وبهذا قال جمهور [ ص: 414 ] العلماء ، وحكاه القاضي عياض عن الشافعي وابن حبيب المالكي وأكثر العلماء ، ودليله أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الملائكة يكتبون من جاء في الساعة الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة ، كما صح في روايتي النسائي اللتين قدمتهما ، فإذا خرج الإمام طووا الصحف ولا يكتبون بعد ذلك أحدا ، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الجمعة متصلا بالزوال ، وكذلك جميع الأئمة في جميع الأمصار ، وذلك بعد انقضاء الساعة السادسة ، فدل على أنه لا شيء من الهدي والفضيلة لمن جاء بعد الزوال ولا يكتب له شيء أصلا ; لأنه جاء بعد طي الصحف ، ولأن ذكر الساعات إنما كان للحث على التبكير إليها والترغيب في فضيلة السبق ، وتحصيل فضيلة الصف الأول ، وانتظارها والاشتغال بالتنفل والذكر ونحوه ، وهذا كله لا يحصل بالذهاب بعد الزوال شيء منه ، ولا فضيلة للمجيء بعد الزوال ; لأن النداء يكون حينئذ ويحرم التأخير عنه .

وقد ثبت عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله شيئا إلا آتاه الله عز وجل فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر " رواه أبو داود والنسائي بهذه الحروف بإسناد صحيح قال الحاكم : هو صحيح على شرط مسلم ، فهذا الحديث صريح في المسألة .

( وأما احتجاجهم ) بلفظ الرواح ( فجوابه ) من وجهين ( أحدهما ) : لا نسلم أنه مختص مما بعد الزوال ، فقد أنكر الأزهري ذلك ، وغلط قائله فقال في شرح ألفاظ المختصر : معنى راح مضى إلى المسجد ، قال : ويتوهم كثير من الناس أن الرواح لا يكون إلا في آخر النهار وليس ذلك بشيء ; لأن الرواح والغدو عند العرب مستعملان في السير ، أي وقت كان من ليل أو نهار .

يقال : راح في أول النهار وآخره وتروح وغدا بمعناه .

هذا لفظ الأزهري وذكر غيره مثله .

( والجواب الثاني ) : أنه لو سلم أن حقيقة الرواح بعد الزوال وجب حمله هنا على ما قبله مجازا ; لما ذكرناه من الدلائل الظاهرة .

قال الخطابي في شرح هذا الحديث : معنى راح : قصد الجمعة وتوجه إليها مبكرا قبل الزوال ، قال : وإنما تأولناه هكذا ; لأنه لا يتصور أن يبقى بعد الزوال خمس ساعات في وقت الجمعة قال : وهذا شائع في [ ص: 415 ] الكلام تقول راح فلان بمعنى قصد ، وإن كان حقيقة الرواح بعد الزوال ، والله أعلم .

( فرع ) من جاء في أول ساعة من هذه الساعات ومن جاء في آخرها مشتركان في تحصيل أصل البدنة أو البقرة أو غيرهما ، ولكن بدنة الأول أكمل من بدنة من جاء في آخر الساعة ، وبدنة المتوسط متوسطة .

وهذا كما أن صلاة الجماعة تزيد على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة ومعلوم أن الجماعة تطلق على اثنين وعلى ألوف فمن صلى في جماعة هم عشرة آلاف له سبع وعشرون درجة ، ومن صلى مع اثنين له سبع وعشرون درجة ، ولكن درجات الأول أكمل ، وأشباه هذا كثيرة ، هذا هو الراجح المختار .

وقال الرافعي : ليس المراد على الأوجه الثلاثة بالساعات الأربع والعشرين بل ترتيب الدرجات ، وفضل السابق على الذي يليه لئلا يستوي في الفضيلة رجلان جاءا في طرفي ساعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية