صفحة جزء
[ ص: 416 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( ويستحب أن لا يركب من غير عذر ; لما روى أوس بن أوس رضي الله عنه [ عن أبيه ] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : من غسل واغتسل يوم الجمعة ، وبكر وابتكر ، ومشى ولم يركب ، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها } ) .


( الشرح ) هذا الحديث حسن رواه أحمد بن حنبل وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم بأسانيد حسنة ، قال الترمذي : هو حديث حسن ، وراويه أوس بن أوس الثقفي ، وقال يحيى بن معين : هو أوس بن أبي أوس ، والصواب الأول ، وروي غسل بتخفيف السين ، وغسل بتشديدها ، روايتان مشهورتان ; والأرجح عند المحققين بالتخفيف ، فعلى رواية التشديد في معناه ثلاثة أوجه ( أحدها ) : غسل زوجته بأن جامعها فألجأها إلى الغسل ، واغتسل هو قالوا : ويستحب له الجماع في هذا اليوم ليأمن أن يرى في طريقه ما يشغل قلبه ( والثاني ) : أن المراد غسل أعضاءه في الوضوء ثلاثا ثلاثا ثم اغتسل للجمعة .

( والثالث ) : غسل ثيابه ورأسه ثم اغتسل للجمعة ، وعلى رواية التخفيف في معناه هذه الأوجه الثلاثة ( أحدها ) : الجماع قاله الأزهري ; قال ويقال : غسل امرأته إذا جامعها ( والثاني ) : غسل رأسه وثيابه ( والثالث ) : توضأ وذكر بعض الفقهاء عسل بالعين المهملة وتشديد السين أي جامع ، شبه لذة الجماع بالعسل ; وهذا غلط غير معروف في روايات الحديث وإنما هو تصحيف ، والمختار ما اختاره البيهقي وغيره من المحققين أنه بالتخفيف وأن معناه غسل رأسه ، ويؤيده رواية لأبي داود في هذا الحديث من غسل رأسه يوم الجمعة واغتسل .

وروى أبو داود في سننه والبيهقي هذا التفسير عن مكحول وسعيد بن عبد العزيز .

قال البيهقي : وهو بين في رواية أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أفرد الرأس بالذكر ; لأنهم كانوا يجعلون فيه الدهن والخطمي ونحوهما وكانوا يغسلونه أولا ثم يغتسلون .

[ ص: 417 ] وأما قوله صلى الله عليه وسلم " وبكر وابتكر " فقال الأزهري : يجوز فيه بكر بالتخفيف والتشديد ، فمن خفف فمعناه خرج من بيته باكرا ، ومن شدد معناه أتى الصلاة لأول وقتها وبادر إليها ، وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه ، وفي الحديث بكروا بصلاة المغرب أي صلوها لأول وقتها ، ويقال لأول الثمار باكورة ; لأنه جاء في أول وقت .

قال : معنى ابتكر أدرك أول الخطبة ، كما يقال ابتكر بكرا إذا نكحها لأول إدراكها .

هذا كلام الأزهري والمشهور بكر بالتشديد ; ومعناه بكر إلى صلاة الجمعة ; وقيل إلى الجامع ; وابتكر أدرك أول الخطبة .

وقيل هما بمعنى جمع بينهما تأكيدا .

حكاه الخطابي عن الأثرم صاحب أحمد ، قال ودليله تمام الحديث ; ومشى ولم يركب ومعناهما واحد قال الخطابي : قال بعضهم : بكر ، أدرك باكورة الخطبة أي أولها ، وابتكر قدم في أول الوقت .

وقال ابن الأنباري : بكر تصدق قبل خروجه كما في الحديث " باكروا بالصدقة " وقيل : بكر راح في الساعة الأولى ، وابتكر فعل فعل المبتكرين من الصلاة والقراءة وسائر وجوه الطاعة وقيل معنى ابتكر : فعل فعل المبتكرين ، وهو الاشتغال بالصلاة والذكر حكاه الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم " ومشى ولم يركب " فقد قدمنا عن حكاية الخطابي عن الأثرم أنه للتأكيد ، وأنهما بمعنى ، والمختار أنه احتراز من شيئين : ( أحدهما ) : نفي توهم حمل المشي على المضي والذهاب ، وإن كان راكبا ( والثاني ) : نفي الركوب بالكلية ; لأنه لو اقتصر على مشى لاحتمل أن المراد وجود شيء من المشي ولو في بعض الطريق ، فنفى ذلك الاحتمال ، وبين أن المراد مشى جميع الطريق ، ولم يركب في شيء منها ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم " ودنا واستمع " فهما شيئان مختلفان .

وقد يستمع ولا يدنو من الخطبة ، وقد يدنو ولا يستمع فندب إليهما جميعا .

وقوله صلى الله عليه وسلم " ولم يلغ " معناه ولم يتكلم ; لأن الكلام حال الخطبة لغو ، وقال الأزهري : معناه استمع الخطبة ولم يشتغل بغيرها .

( أما حكم المسألة ) فاتفق الشافعي والأصحاب وغيرهم على أنه يستحب لقاصد الجمعة أن يمشي وأن لا يركب في شيء من طريقه إلا لعذر كمرض ونحوه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية