صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( كل حيوان نجس بالموت نجس شعره وصوفه على المنصوص ، وروي عن الشافعي - رحمه الله أنه رجع عن تنجيس شعر الآدمي . واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرق : فمنهم من لم يثبت هذه الرواية وقال : ينجس الشعر بالموت قولا واحدا ; لأنه جزء متصل بالحيوان اتصال خلقة فينجس بالموت كالأعضاء ، ومنهم من جعل الرجوع عن تنجيس شعر الآدمي رجوعا عن تنجيس جميع الشعور ، فجعل في الشعور قولين :

( أحدهما ) : ينجس لما ذكرناه .

( والثاني ) : لا ينجس لأنه لا يحس ولا يتألم فلا تلحقه نجاسة الموت ، ومنهم من جعل هذه الرواية رجوعا عن تنجيس شعر الآدمي خاصة فجعل في الشعر قولين :

( أحدهما ) : ينجس الجميع لما ذكرناه .

( والثاني ) : ينجس الجميع إلا شعر الآدمي فإنه لا ينجس ; لأنه مخصوص بالكرامة ، ولهذا يحل لبنه مع تحريم أكله .

وأما شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا إذا قلنا شعر غيره طاهر فشعره صلى الله عليه وسلم أولى بالطهارة ، واذا قلنا : إن شعر غيره نجس ففي شعره عليه السلام وجهان : ( أحدهما ) : أنه نجس ; لأن ما كان نجسا من غيره كان نجسا منه كالدم ، وقال أبو جعفر الترمذي : هو طاهر ; { لأن النبي صلى الله عليه وسلم ناول أبا طلحة رضي الله عنه شعره فقسمه بين الناس } . وكل موضع قلنا : إنه نجس عفي عن الشعرة والشعرتين في الماء والثوب ; لأنه لا يمكن الاحتراز منه ، فعفي عنه كما عفي عن دم البراغيث ) .


( الشرح ) أما قوله : { لأن النبي صلى الله عليه وسلم ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين الناس } فحديث صحيح رواه البخاري ومسلم . أما أحكام المسألة فحاصلها أن المذهب نجاسة شعر الميتة غير الآدمي ، [ ص: 286 ] وطهارة شعر الآدمي ، هذا مختصر المسألة ، وأما بسطها فقد ذكر المصنف ثلاث طرق وهي مشهورة في المذهب ، قال القاضي أبو الطيب وآخرون : الشعر والصوف والوبر والعظم والقرن والظلف تحلها الحياة ، وتنجس بالموت . هذا هو المذهب ، وهو الذي رواه البويطي والمزني والربيع المرادي وحرملة ، وروى إبراهيم البليدي عن المزني عن الشافعي أنه رجع عن تنجيس شعر الآدمي . وقال صاحب الحاوي : الشعر والوبر والصوف ينجس بالموت . هذا هو المروي عن الشافعي في كتبه والذي نقله عنه جمهور أصحابه : البويطي والمزني والربيع المرادي وحرملة وأصحاب القديم .

قال : وحكى ابن سريج عن أبي القاسم الأنماطي عن المزني عن الشافعي أنه رجع عن تنجيس الشعر ، وحكى إبراهيم البليدي عن المزني عن الشافعي أنه رجع عن تنجيس شعر الآدمي ، وحكى الربيع الجيزي عن الشافعي أن الشعر تابع للجلد : يطهر بطهارته وينجس بنجاسته . واختلف أصحابنا في هذه الحكايات الثلاث التي شذت عن الجمهور فجعلها بعضهم قولا ثانيا للشافعي أن الشعر طاهر ، وامتنع الجمهور من إثبات قول ثان لمخالفتها نصوصه ، ويحتمل أنه حكى مذهب غيره .

وأما شعر الآدمي ففيه قولان : أشهرهما عنه أنه نجس .

( والثاني ) وهو منصوص في الجديد أنه طاهر . هذا كلام صاحب الحاوي . واتفق الأصحاب على أن المذهب أن شعر غير الآدمي وصوفه ووبره وريشه ينجس بالموت ، وأما الآدمي فاختلفوا في الراجح فيه : فالذي صححه أكثر العراقيين نجاسته ، والذي صححه جميع الخراسانيين أو جماهيرهم طهارته ، وهذا هو الصحيح ، فقد صح عن الشافعي رجوعه عن تنجيس شعر الآدمي ، فهو مذهبه ، وما سواه ليس بمذهب له ، ثم الدليل يقتضيه ، وهو مذهب جمهور العلماء كما سنذكره - إن شاء الله تعالى - في فرع في مذاهب العلماء . ثم إن هذا الخلاف في شعر ميتة الآدمي مفرع علي نجاسة ميتة الآدمي ، أما إذا قلنا بطهارة ميتته فشعره طاهر بلا خلاف ، كذا صرح به البغوي والمتولي وغيرهما من الخراسانيين وابن الصباغ والشاشي والشيخ نصر المقدسي [ ص: 287 ] وصاحب البيان وغيرهم من العراقيين . وإذا انفصل شعر آدمي في حياته فطاهر على أصح الوجهين تكرمة للآدمي ، ولعموم البلوى وعسر الاحتراز . وأما إذا انفصل جزء من جسده كيده وظفره فقطع العراقيون أو جمهورهم بنجاسته ، قالوا : وإنما الخلاف في ميتته بجملته لحرمة الجملة . وقال الخراسانيون : فيه وجهان أصحهما الطهارة ، وهذا هو الصحيح . قال إمام الحرمين من قال : العضو المبان في الحياة نجس فقد غلط ، والوجه اعتبار الجزء بالجملة بعد الموت .

وأما شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قلنا بطهارة غيره فهو أولى ، وإلا فوجهان : قال أبو جعفر : هو طاهر ، وقال غيره : هو نجس ، وهذا الوجه غلط أو كالغلط ، وسأذكر في شعره صلى الله عليه وسلم وفضلات بدنه فرعا مخصوصا بها - إن شاء الله تعالى - .

وأما قول المصنف : " وكل موضع قلنا : إنه نجس عفي عن الشعرة أو الشعرتين - فظاهره تعميم العفو في شعر الآدمي وغيره وقد اتفق أصحابنا على العفو ، ولكن اختلفوا في تخصيصه بالآدمي ، فأطلقت طائفة الكلام إطلاقا يقتضي التعميم كما أطلقه المصنف ، منهم القاضي حسين والمحاملي في المجموع ، وصرح القاضي بجريان العفو في شعر غير الآدمي ، ونقل بعضهم هذا عن تعليق الشيخ أبي حامد ولم أره أنا فيه هكذا ، ولكن نسخ تعليق الشيخ أبي حامد والقاضي حسين يقع فيها اختلاف ، وخصت طائفة ذلك بشعر الآدمي ، منهم الفوراني وابن الصباغ والجرجاني في التحرير والروياني والبغوي وصاحب البيان ، ولكل واحد من الوجهين وجه ، ولكن الصحيح التعميم . وعبارة المصنف كالصريحة فيه ، فإنه فصل الكلام في الشعر ثم قال : " وكل موضع قلنا إنه نجس عفي " ، ولأن الجميع سواء في عموم الابتلاء وعسر الاحتراز . وأما قول المصنف : " كالشعرة والشعرتين " فليس تحديدا لما يعفى عنه بل كالمثال لليسير الذي يعفى عنه . وعبارة أصحابنا يعفى عن اليسير منه ، كذا صرح به الجمهور ، وذكر ابن الصباغ أن بعض أصحابنا فسره بالشعرة والشعرتين ، وقال إمام الحرمين : إذا حكمنا بنجاسة شعر الآدمي فما ينتف من اللحية والرأس على العرف الغالب معفو عنه مع نجاسته كدم البراغيث . [ ص: 288 ] قال : ثم القول في ضبط القليل كالقول في دم البراغيث ، قال : ولعل القليل ما يغلب انتتافه مع اعتدال الحال والله أعلم .

( فرع ) المذهب الصحيح القطع بطهارة شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سبق ، ودليله الحديث وعظم مرتبته صلى الله عليه وسلم ومن قال بالنجاسة قالوا : إنما قسم الشعر للتبرك ، قالوا : والتبرك يكون بالنجس كما يكون بالطاهر ، كذا قاله الماوردي وآخرون . قالوا : لأن القدر الذي أخذه كل واحد كان يسيرا معفوا عنه ، والصواب القطع بالطهارة كما قاله أبو جعفر ، وحكاه الروياني عن جماعة آخرين ، وصححه القاضي حسين وآخرون . وأما بوله صلى الله عليه وسلم ودمه ففيهما وجهان مشهوران عند الخراسانيين ، وذكر القاضي حسين وقليل منهم في العذرة وجهين ونقلهما في العذرة صاحب البيان عن الخراسانيين ، وقد أنكر بعضهم على الغزالي طرده الوجهين في العذرة ، وزعم أن العذرة نجسة بالاتفاق ، وأن الخلاف مخصوص بالبول والدم ، وهذا الإنكار غلط ، بل الخلاف في العذرة مشهور ، نقله غير الغزالي كما حكيناه عن القاضي حسين وصاحب البيان وآخرين ، وأشار إليه إمام الحرمين وآخرون فقالوا : في فضلات بدنه صلى الله عليه وسلم كبوله ودمه وغيرهما وجهان ، وقال القفال في شرح التلخيص في الخصائص : قال بعض أصحابنا : جميع ما يخرج منه صلى الله عليه وسلم طاهر ، قال : وليس بصحيح ، فهذا نقل القفال وهو شيخ طريقة الخراسانيين وعليه مدارها ، واستدل من قال بنجاسة هذه الفضلات بأنه صلى الله عليه وسلم كان يتنزه منها ، واستدل من قال بطهارتها بالحديثين المعروفين : { أن أبا طيبة الحاجم حجمه صلى الله عليه وسلم وشرب دمه ولم ينكر عليه } ، { وأن امرأة شربت بوله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليها } وحديث أبي طيبة ضعيف ، وحديث شرب المرأة البول صحيح رواه الدارقطني وقال : هو حديث صحيح ، وهو كاف في الاحتجاج لكل الفضلات قياسا . وموضع الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها ، ولم يأمرها بغسل فمها ، ولا نهاها عن العود إلى مثله ، وأجاب القائل بالطهارة عن تنزهه صلى الله عليه وسلم عنها أن ذلك على الاستحباب والنظافة ، والصحيح عند الجمهور نجاسة الدم والفضلات ، وبه [ ص: 289 ] قطع العراقيون ، وخالفهم القاضي حسين فقال : الأصح طهارة الجميع والله أعلم .

( فرع ) قدمنا في شعر ميتة غير الآدمي خلافا ، المذهب الصحيح أنه نجس ، وهذا الخلاف فيما سوى الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما ، أما شعور هذه فقطع العراقيون وجماعات من الخراسانيين بنجاستها ولم يذكروا فيها الخلاف ، وقال جماعة من الخراسانيين : إذا قلنا بطهارة غيرها ففيها وجهان : أحدهما : الطهارة . وأصحهما النجاسة ، قال إمام الحرمين : قطع الصيدلاني بنجاستها على هذا القول ، وقال القاضي أبو حامد المروذي : هي على هذا القول طاهرة ، قال الإمام : واختاره شيخي يعني والده أبا محمد الجويني ، قال الرافعي : والوجهان جاريان في حالتي الحياة والموت .

( فرع ) قول المصنف : " لأنه جزء متصل بالحيوان اتصال خلقة فنجس بالموت كالأعضاء " احترز بقوله : " متصل " عن الحمل والبيض المتصلب في جوف ميتته ، وبقوله : " بالحيوان " عن أغصان الشجر ، كذا قاله الشيخ أبو حامد وغيره ، وبقوله : " اتصال خلقة " عن الأذن الملصقة . وقوله : " فمنهم من لم يثبت هذه الرواية وقال : ينجس الشعر بالموت قولا واحدا " ليس معناه القدح في الناقل بتكذيب ونحوه ، وإنما معناه تأويل الرواية على حكاية مذهب الغير كما قدمناه عن نقل صاحب الحاوي . وقوله : ينجس بضم الجيم وفتحها ، وقوله : " لا يحس ولا يألم " يحس بضم الياء وكسر الحاء ، هذه اللغة الفصيحة وبها جاء القرآن ، قال الله - تعالى - : " { هل تحس منهم من أحد } " ، وفيه لغة قليلة يحس بفتح الياء وضم الحاء . وقوله : يألم بالهمز ويجوز تركه .

( فرع ) قول المصنف : " لأن ما كان نجسا من غيره كان نجسا منه كالدم " قد وافقه على هذه العبارة صاحب الشامل ، وهذا القياس يقتضي القطع بنجاسة الدم وليس مقطوعا به ، بل فيه الخلاف الذي قدمناه ، وقد قال صاحب الحاوي : إن أبا جعفر الترمذي القائل بطهارة شعره صلى الله عليه وسلم [ ص: 290 ] قيل له : قد حجمه أبو طيبة وشرب دمه ، أفتقول بطهارة دمه ؟ فركب الباب وقال : أقول به ، قيل له : قد شربت امرأة بوله صلى الله عليه وسلم أفتقول بطهارته ؟ فقال : لا ; لأن البول استحال من الطعام والشراب وليس كذلك الدم والشعر ; لأنه من أصل الخلقة ، هذا كلام صاحب الحاوي ، وفيه التصريح بأن أبا جعفر يقول بطهارة الشعر والدم ، فإذا كان كذلك لم يرد عليه القياس على الدم ; لأنه طاهر عنده ، وحينئذ ينكر على المصنف هذا القياس ، ويجاب عنه بأن المصنف اختار في أصول الفقه أن القياس على المختلف فيه جائز ، فإن منع الخصم الأصل أثبته القايس بدليله الخاص ، ثم ألحق به الفرع ، وقد أكثر المصنف في المهذب من القياس على المختلف فيه ، وكله خارج على هذه القاعدة . والله أعلم .

( فرع ) ذكر المصنف في هذا الفصل أبا طلحة الصحابي وأبا جعفر الترمذي ، أما أبو طلحة فاسمه زيد بن سهل بن الأسود الأنصاري ، شهد العقبة وبدرا وأحدا وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أحد النقباء ليلة العقبة رضي الله عنهم ، وكان من الصحابة الذين سردوا الصوم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسنذكرهم - إن شاء الله تعالى - في كتاب الصيام ، قال أبو زرعة الدمشقي الحافظ : عاش أبو طلحة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة يسرد الصوم ، وخالفه غيره ، فقال : توفي سنة أربع وثلاثين من الهجرة ، وقيل سنة اثنتين وثلاثين رضي الله عنه . وأما أبو جعفر فاسمه محمد بن أحمد بن نصر أحد الأئمة الذين تنشرح بذكرهم الصدور ، وترتاح لذكر مآثرهم القلوب ، كان رضي الله عنه حنفيا ثم صار شافعيا لرؤيا رآها مشهورة ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت : يا رسول الله آخذ برأي أبي حنيفة ؟ فأعرض عني ، فقلت : برأي مالك ؟ فقال : خذ ما وافق سنتي ، فقلت : برأي الشافعي ؟ فقال أو ذاك رأي الشافعي ، ذلك رد من خالف سنتي . حكى هذه الرؤيا المصنف في الطبقات وآخرون ، وهو منسوب إلى ترمذ البلدة المعروفة التي نسب إليها الإمام الحافظ أبو عيسى الترمذي ، وفي ضبطها ثلاثة أوجه ذكرها [ ص: 291 ] الحافظ أبو سعد السمعاني في كتابه الأنساب ، أحدها ترمذ بكسر التاء والميم . والثاني : بضمهما ، قال : وهو قول أهل المعرفة . والثالث : بفتح التاء وكسر الميم وهو المتداول بين أهل ترمذ ، وهي مدينة قديمة على طرف نهر بلخي الذي يقال له : ( جيحون ) ، وهذه الأوجه الثلاثة تقال في كل من يقال لهالترمذي . قال المصنف في الطبقات : سكن أبو جعفر الترمذي بغداد ولم يكن للشافعيين في وقته بالعراق أرأس ولا أورع ولا أكثر نقلا منه . وكان قوته في كل شهر أربعة دراهم . ولد في ذي الحجة سنة مائتين ، وتوفي في المحرم سنة خمس وتسعين ومائتين

- رحمه الله - ، وموضع بسط أحواله الطبقات والله أعلم

فرع في مذاهب العلماء في شعر الميتة وعظمها وعصبها ، فمذهبنا أن الشعر والصوف والوبر والريش والعصب والعظم والقرن والسن والظلف نجسة ، وفي الشعر خلاف ضعيف سبق ، وفي العظم خلاف أضعف منه قد ذكره المصنف بعد هذا ، وأما العصب فنجس بلا خلاف ، هذا في غير الآدمي ، وممن قال بالنجاسة عطاء ، وذهب عمر بن عبد العزيز والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق والمزني وابن المنذر إلى أن الشعور والصوف والوبر والريش طاهرة ، والعظم والقرن والسن والظلف والظفر نجسة ، كذا حكى مذاهبهم القاضي أبو الطيب ، وحكى العبدري ، عن الحسن وعطاء والأوزاعي والليث بن سعد أن هذه الأشياء تنجس بالموت لكن تطهر بالغسل ، وعن مالك وأبي حنيفة وأحمد أنه لا ينجس الشعر والصوف والوبر والريش . قال أبو حنيفة وداود : وكذا لا ينجس العظام والقرون وباقيها . قال أبو حنيفة إلا شعر الخنزير وعظمه ، ورخص للخرازين في استعمال شعر الخنزير . لحاجتهم إليه ، وعنه في العصب روايتان .

واحتج لمن قال بطهارة الشعر بقول الله تعالى : " { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين } " ، وهذا عام في كل حال ، وبقوله صلى الله عليه وسلم في الميتة : { إنما حرم أكلها } وهو في الصحيحين ، وقد قدمناه . وعن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ ، [ ص: 292 ] ولا بشعرها إذا غسل } " ، وذكروا أقيسة ومناسبات ليست بقوية ، واحتج أصحابنا بقول الله تعالى : " { حرمت عليكم الميتة } " وهو عام للشعر وغيره . فإن قالوا : الشعر ليس ميتة - قال أصحابنا : قلنا بل هو ميتة ، فإن الميتة اسم لما فارقته الروح بجميع أجزائه ، قال صاحب الحاوي : ولهذا لو حلف لا يمس ميتة فمس شعرها حنث . فإن قالوا : هذه الآية عامة في الميتة ، والآية التي احتججنا بها خاصة في بعضها وهو الشعر والصوف والوبر ، والخاص مقدم على العام - فالجواب أن كل واحدة من الآيتين فيها عموم وخصوص ، فإن تلك الآية أيضا عامة في الحيوان الحي والميت ، وهذه خاصة بتحريم الميتة ، فكل آية عامة من وجه ، خاصة من وجه ، فتساويا من حيث العموم والخصوص ، وكان التمسك بآيتنا أولى لأنها وردت لبيان المحرم ، وأن الميتة محرمة علينا ، ووردت الأخرى للامتنان بما أحل لنا .

واحتجوا بحديث : " { هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ؟ } والغالب أن الشاة لا تخلو من شعر وصوف ولم يذكر لهم طهارته والانتفاع به في الحال ، ولو كان طاهرا لبينه ، وفي الاستدلال بهذا نظر . واعتماد الأصحاب على القياس الذي ذكره المصنف ، وذكروا أقيسة كثيرة تركتها لضعفها . وأجاب الأصحاب عن احتجاجهم بقوله تعالى : " { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها } " أنها محمولة على شعر المأكول إذا ذكي أو أخذ في حياته كما هو المعهود . وأجاب الماوردي بجواب آخر أن من للتبعيض ، والمراد بالبعض الطاهر وهو ما ذكرناه . وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما حرم أكلها " . وأما الجواب عن حديث أم سلمة فمن وجهين أجودهما أنه ضعيف باتفاق الحفاظ قالوا : لأنه تفرد به يوسف بن السفر ( بفتح السين المهملة وإسكان [ ص: 293 ] الفاء ) ، قالوا : وهو متروك الحديث . هذه عبارة جميع أهل هذا الشأن فيه ، وهي أبلغ العبارات عندهم في الجرح ، قال الدارقطني : هو متروك يكذب على الأوزاعي ، وقال البيهقي : هو يضع الحديث . الجواب الثاني : أن هذا الحديث لا يمكن أن يتمسك به من يقول بطهارة الشعر بلا غسل . والله أعلم . واحتج من قال : يطهر الشعر بالغسل بحديث أم سلمة ، وقد بينا اتفاق الحفاظ على ضعفه ، وبيانهم سبب الضعف والجرح ، واحتج أصحابنا بأنها عين نجسة فلم تطهر بالغسل كالعذرة واللحم .

واحتج من قال بطهارة عظام الميتة بحديث عن أنس رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم : امتشط بمشط من عاج } ، وبما رواه أبو داود في سننه بإسناده عن حميد الشامي عن سليمان المنبهي عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا ثوبان اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج } ، قال صاحب هذا المذهب : والعاج عظم الفيل . واحتج أصحابنا بقول الله تعالى : ( { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال : من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } ) فأثبت لها إحياء فدل على موتها والميتة نجسة ، فإن قالوا : المراد أصحاب العظام فحذف المضاف اختصارا - قلنا : هذا خلاف الأصل والظاهر فلا يلتفت إليه .

واحتج الشافعي - رحمه الله - بما روى عمرو بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كره أن يدهن في عظم فيل لأنه ميتة ، والسلف يطلقون الكراهة ويريدون بها التحريم ، ولأنه جزء متصل بالحيوان اتصال خلقة فأشبه الأعضاء . والجواب عن حديث أنس من وجهين : أحدهما : أنه ضعيف ضعفه الأئمة .

( والثاني ) : أن العاج هو الذبل بفتح الذال المعجمة وإسكان الباء الموحدة ، وهو عظم ظهر السلحفاة البحرية ، وكذا قاله الأصمعي وابن قتيبة وغيرهما من أهل اللغة ، وقال أبو علي البغدادي : العرب تسمي كل عظم عاجا . والجواب عن حديث ثوبان بالوجهين السابقين ، فإن حميدا الشامي [ ص: 294 ] وسليمان المنبهي مجهولان ( والمنبهي بضم الميم وبعدها نون مفتوحة ثم باء موحدة مكسورة مشددة ) . والله أعلم ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية