صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( والسنة أن يخطب لها بعد الصلاة ، لحديث أبي هريرة ، والمستحب أن يدعو في الخطبة الأولى فيقول : ( اللهم اسقنا غيثا مغيثا ، هنيئا مريئا ، مريعا غدقا ، مجللا طبقا سحا [ عاما ] دائما ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكو إلا إليك ، اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع واسقنا من بركات السماء ، [ وأنبت لنا من بركات الأرض ] اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري واكشف عنا [ من البلاء ] ما لا يكشفه غيرك ، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا ، فأرسل السماء علينا مدرارا ) والمستحب أن يستقبل القبلة في أثناء الخطبة الثانية ويحول ما على الأيمن إلى الأيسر ، وما على الأيسر إلى الأيمن ، لما روى عبد الله بن زيد { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى يستسقي فاستقبل القبلة ودعا وحول رداءه ، وجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن } فإن كان الرداء مربعا نكسه فجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه ، وإن كان مدورا اقتصر على التحويل ، لما روى عبد الله بن زيد أن { النبي صلى الله عليه وسلم استسقى وعليه خميصة له سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها ، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه } ويستحب للناس أن يفعلوا مثل ذلك لما روي في حديث عبد الله بن زيد " { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حول رداءه وقلبه ظهرا لبطن وحول الناس معه } قال الشافعي [ رحمه الله ] : وإذا حولوا أرديتهم تركوها محولة لينزعوها مع الثياب لأنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم غيرها بعد التحويل ، ويستحب أن يدعو في الخطبة الثانية سرا ليجمع في الدعاء بين الجهر والإسرار ليكون أبلغ ، ولهذا قال الله تعالى ( { إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا } ) ويستحب أن يرفع اليد في الدعاء ، لما روى أنس رضي الله عنه أن { النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا عند الاستسقاء ، فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه } ويستحب أن يكثر من الاستغفار ومن قوله تعالى : ( { استغفروا ربكم إنه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا } ) لما روى الشعبي أن عمر رضي الله عنه خرج يستسقي فصعد المنبر فقال : ( { استغفروا ربكم إنه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا } ) استغفروا ربكم إنه كان غفارا ، [ ص: 79 ] ثم نزل فقيل له يا أمير المؤمنين لو استسقيت ؟ فقال طلبت بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر " ) .


( الشرح ) حديث عبد الله بن زيد في صحيحي البخاري ومسلم إلى قوله ( وحول رداءه ) ، وأما تمامه فرواه أبو داود بإسناد حسن ، وحديثه الآخر حديث الخميصة صحيح أو حسن رواه أبو داود والنسائي وغيرهما بأسانيد صحيحة أو حسنة . قال الحاكم في المستدرك : هو صحيح على شرط مسلم وحديثه الآخر . وقوله " وحول الناس معه " رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده . وحديث أنس رواه البخاري ، وحديث الشعبي عن عمر رواه البيهقي .

وأما قوله " اللهم اسقنا غيثا مغيثا " إلى آخره فذكره الشافعي في الأم ومختصر المزني عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا استسقى قاله إلى آخره ، وقوله " اللهم اسقنا " يجوز وصل الهمزة وقطعها كما سبق وقوله " غيثا " هو المطر قوله " مغيثا " بضم الميم وكسر الغين ، وهو الذي يغيث الخلق فيرويهم ويشبعهم . قاله الأزهري وغيره ، وقال غيره : منقذا لنا مما استسقينا منه ، قال أهل اللغة : يقال : غاث الغيث الأرض أي أصابها ، وغاث الله البلاد أي أصابها به ، يغيثها بفتح الياء غيثا ، وغيثت الأرض تغاث غيثا فهي مغيثة ومغوثة ، هذا هو المشهور في كتب اللغة أنه إنما يقال : غاث الله الناس والأرض يغيثهم بفتح الياء ثلاثي ، أي أنزل المطر . وثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الاستسقاء " اللهم أغثنا " بالألف رباعي . قال القاضي عياض : قال بعضهم هذا المذكور في الحديث هو من الإغاثة . بمعنى المعونة . وليس من طلب الغيث ، إنما يقال في طلب الغيث غثنا .

قال القاضي : ويحتمل أن يكون من طلب الغيث ، أي هب لنا غيثا أو ارزقنا غيثا كما يقال : سقاه الله وأسقاه ، أي جعل له سقيا على لغة من فرق بينهما . قوله " هنيئا " هو الذي لا ضرر فيه ولا تعب ، وقيل ، هو الطيب الذي لا ينقصه شيء ، قوله " مريئا " مهموز هو المحمود العاقبة مسمنا [ ص: 80 ] للحيوان منميا له . قوله " مريعا " ضبطناه في المهذب بفتح الميم وكسر الراء وبعدها مثناة تحت ساكنة وهو من المراعة وهي الخصب ، قال الأزهري : المريع ذو المراعة ، وأمرعت الأرض أخصبت ، وقيل : المريع الذي يمرع الأرض أي تنبت عليه ، وروى مربعا بضم الميم وإسكان الراء وكسر الباء الموحدة . وروي : مرتعا مثله إلا أنه بالتاء المثناة فوق ، وهما بمعنى الأول . قوله " غدقا " هو بفتح الدال . قال الأزهري : هو الكثير الماء والخير ، وقيل : الذي قطره كبار . قوله " مجللا " فهو بكسر اللام . قال الأزهري : هو الذي يجلل البلاد والعباد نفعه ويتغشاهم خيره ، وقال غيره : يجلل الأرض أن يعمها ، كجل الفرس . قوله " طبقا بفتح الطاء والباء . قال الأزهري : وهو الذي يطبق البلاد مطره فيصير كالطبق عليها ، وفيه مبالغة ، ووقع في هذا الحديث فيما ذكره الشافعي والأصحاب والمصنف في التنبيه عاما .

قالوا بدأ بالعام ثم أتبعه الطبق لأنه صفة زيادة في العام فقد يكون عاما وهو طل يسير . قوله " سحا " هو شديد الوقع على الأرض ، يقال سح الماء يسح - بضم السين في المضارع - إذا سال من فوق إلى أسفل ، وساح يسيح إذا جرى على وجه الأرض والقنوط اليأس ، " اللأواء " بالهمز والمد شدة المجاعة ، قاله الأزهري ( الجهد ) بفتح الجيم وقيل يجوز ضمها : قلة الخير والهزال وسوء الحال ، وأرض جهاد أي لا تنبت شيئا ( الضنك ) الضيق ( ما لا نشكو إلا إليك ) بالنون ( وبركات السماء ) كثرة مطرها مع الريع والنماء ( وبركات الأرض ) ما يخرج منها من زرع ومرعى ، ولم يذكر المصنف هنا بركات الأرض ، وذكره في التنبيه ، وذكره الشافعي والأصحاب ، وهو في الحديث المذكور . قوله ( فأرسل السماء علينا مدرارا ) كذا وقع في المهذب وفي الحديث وفي التنبيه وسائر كتب الأصحاب : فأرسل . قال الأزهري والسماء هنا [ ص: 81 ] السحاب وجمعها سمي وأسمية ، وقال الزمخشري في تفسيره : يجوز أن يكون المراد بالسماء هنا المطر أو السحاب ويجوز أن يكون السماء المظلة ، لأن المطر ينزل منها إلى السحاب ، والمدرار الكثير الدر والقطر ، قاله الأزهري ، وقيل معناه غيثا مغيثا .

قوله ( فإن كان الرداء مربعا نكسه ) هو بتخفيف الكاف ، هذه اللغة المشهورة ويجوز بتشديدها ، ومن الأول قوله تعالى ( ناكسو رءوسهم ) وقرئ قوله تعالى ( ننكسه في الخلق ) بالتخفيف والتشديد ، والخميصة كساء أسود له علمان في طرفيه ، وهذا منقول عن أهل الحجاز وغيرهم ، وقال أبو عبيد : كساء مربع ، وقال الأصمعي : كساء من صوف وخز ، وقيل : كساء رقيق أصفر أو أحمر أو أسود وهذا يوافق مقتضى هذا الحديث ، فإن قوله : خميصة سوداء يقتضي أنها قد تكون غير سوداء . وقوله ( بمجاديح ) واحدها مجدح بكسر الميم وإسكان الجيم وفتح الدال وقال أبو عبيد : يجوز كسر الميم وضمها ، قال أهل اللغة : المجدح كل نجم كانت العرب تقول يمطر به ، فأخبر عمر رضي الله عنه أن الاستغفار هو المجاديح الحقيقية التي يستنزل بها القطر لا الأنواء ، وإنما قصد التشبيه ، وقيل : مجاديحها مفاتيحها ، وقد جاء في رواية بمفاتيح السماء .

وقوله ( كان لا يرفع يده في شيء من الدعاء إلا عند الاستسقاء ) وقد ثبتت أحاديث كثيرة في الصحيحين وفي أحدهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الدعاء } " وهي قريب من ثلاثين حديثا سبق ذكر أكثرها في باب صفة الصلاة من هذا الشرح . وحينئذ يتعين تأويل حديث أنس هذا ، وفيه تأويلان مشهوران ( أحدهما ) أن مراد أنس لم أره يرفع ، وقد رآه غيره يرفع ، والزيادة من الثقة مقبولة والإثبات مقدم على النفي ( والثاني ) معناه لم يرفع كما يرفع في الاستسقاء ، فإنه صلى الله عليه وسلم [ ص: 82 ] رفع فيه رفعا بليغا ، وفي صحيح ، مسلم { أنه صلى الله عليه وسلم أشار بظهور كفيه إلى السماء } والله أعلم .

( أما الأحكام ) فقال الشافعي والأصحاب رحمهم الله : يستحب أن يخطب بعد صلاة الاستسقاء خطبتين أركانهما وشروطهما وهيئاتهما كما سبق في العيد ، وفي استحباب الجلوس إذا صعد المنبر الوجهان السابقان في العيد ، والصحيح المنصوص استحبابه ، لكن يخالفها في ثلاثة أشياء ( أحدها ) يستحب أن يبدل التكبيرات المشروعة في أول خطبتي العيد بالاستغفار ، فيستغفر الله تعالى في افتتاح الأولى تسع مرات ، وفي الثانية سبعا ولا يكبر . قال بعض أصحابنا : يقول " أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه " ويختم كلامه بالاستغفار ويكثر منه في الخطبة ومن قوله تعالى ( { استغفروا ربكم إنه كان غفارا } ) الآية . وذكر المحاملي في المجموع أنه يكبر في افتتاح الخطبة كما في خطبة العيد وحكاه عنه أيضا صاحب البيان وغيره ، وهو ظاهر نص الشافعي في الأم فإنه قال : ويخطب الإمام في الاستسقاء خطبتين كما يخطب في صلاة العيدين ، يكبر الله فيهما ويحمده ، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويكثر فيهما الاستغفار ، حتى يكون أكثر كلامه . هذا نصه . ومقتضى إطلاق المصنف أنه لا يأتي بالاستغفار ، والمشهور استحباب الاستغفار تسعا في افتتاح الخطبة الأولى ، وسبعا في الثانية . وقد ذكره المصنف في التنبيه والأصحاب في جميع طرقهم .

( والثاني ) يستحب أن يدعو في الخطبة الأولى بهذا الدعاء المذكور في الكتاب وإن عدل إلى دعاء غيره جاز ، لكن هذا أفضل ، ومن الدعاء المستحب ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم " { اللهم اسقنا غيثا مغيثا نافعا غير ضار ، عاجلا غير آجل ، اللهم اسق عبادك وبهائمك ، وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت ، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء ، أنزل علينا الغيث ، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين } . [ ص: 83 ] الثالث ) يستحب أن يكون في الخطبة الأولى وصدر الثانية مستقبل الناس مستدبر القبلة ، ثم مستقبل القبلة ويبالغ في الدعاء سرا وجهرا ، وإذا أسر دعا الناس سرا ، وإذا جهر أمنوا ، ويرفعون كلهم أيديهم في الدعاء ، وثبت في صحيح مسلم ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم " { استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء } " قال الرافعي وغيره : قال العلماء : السنة لكل من دعا لدفع بلاء أن يجعل ظهر كفيه إلى السماء ، وإن دعا لطلب شيء جعل بطن كفيه إلى السماء . قال الشافعي : وليكن من دعائهم في هذه الحالة " اللهم أنت أمرتنا بدعائك ، ووعدتنا إجابتك ، وقد دعوناك كما أمرتنا فأجبنا كما وعدتنا ، اللهم امنن علينا بمغفرة ما قارفنا ، وإجابتك في سقيانا ، وسعة رزقنا " فإذا فرغ من الدعاء أقبل بوجهه على الناس وحثهم على طاعة الله تعالى ، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا للمؤمنين والمؤمنات ، وقرأ آية من القرآن أو آيتين ، ويقول : أستغفر الله لي ولكم . هذا لفظ الشافعي .

قال الشافعي والأصحاب : ويكثر من الاستغفار ومن قول { استغفروا ربكم إنه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا } . قال الشافعي : ويكثر الاستغفار حتى يكون أكثر كلامه ، ثم روي عن عمر رضي الله عنه أنه استسقى " فكان أكثر دعائه الاستغفار " قال الشافعي : فيكون أكثر دعائه الاستغفار يبدأ به دعاءه ، ويفصل به بين كلامه ، ويختم به ويكون هو أكثر كلامه حتى ينقطع الكلام . قلت : ويكثر من دعاء الكرب الثابت في الصحيحين { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ، رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ، رب العرش الكريم } ويستحب أيضا ( اللهم آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار ) لحديث الصحيحين فيه ، ويستحب للإمام عند تحوله في [ ص: 84 ] صدر الخطبة الثانية إلى القبلة أن يحول رداءه للأحاديث الصحيحة السابقة ، وهل يستحب أن ينكسه مع التحويل ؟ قال المصنف والأصحاب : إن كان مدورا - ويقال له المقور والمثلث - لم يستحب ، بل يقتصر على التحويل بالاتفاق ، وإن كان مربعا ففيه قولان حكاهما الخراسانيون ( الجديد الصحيح ) وبه قطع المصنف وآخرون : يستحب نكسه ، نص عليه في الأم وغيره ، والقديم لا يستحب ، ودليل الجميع يعرف مما سبق قال الأصحاب : التحويل أن يجعل ما على عاتقه الأيمن على عاتقه الأيسر وبالعكس ، والنكس أن يجعل أعلاه أسفله ، ومتى جعل الطرف الأسفل الذي على شقه الأيسر على عاتقه الأيمن ، والطرف الأسفل الذي على شقه الأيمن على عاتقه الأيسر ، حصل التحويل والنكس جميعا . قال الشافعي والأصحاب : ويتركونها محولة حتى ينزعوا الثياب ، وقال جماعة : يتركونها محولة حتى يرجعوا إلى منازلهم ، وليس هذا اختلافا ، بل يستحب تركها محولة حتى يرجعوا إلى منازلهم ، وتبقى كذلك في منازلهم حتى ينزعوا ثيابهم تلك ، سواء نزعوها أول وصولهم المنازل أم بعده . .

التالي السابق


الخدمات العلمية