صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن ماتت امرأة ولم يكن لها زوج غسلها النساء ، وأولاهن ذات رحم محرم ، ثم ذات رحم غير محرم ، ثم الأجنبية ، فإن لم يكن نساء غسلها الأقرب فالأقرب من الرجال على ما ذكرنا ، فإن كان لها زوج جاز له غسلها ، لما روت عائشة قالت : " { رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا وأقول : وا رأساه فقال : بل أنا يا عائشة وارأساه ، ثم قال : وما ضرك لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك } " وهل يقدم على النساء ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) يقدم لأنه ينظر إلى ما لا ينظر النساء منها ( والثاني ) يقدم النساء على الترتيب الذي ذكرناه ، فإن لم يكن نساء فأولى الأقرباء بالصلاة فإن لم يكن فالزوج ، وإن طلق زوجته طلقة رجعية ثم مات أحدهما قبل الرجعة فإن لم يكن للآخر غسله لأنها محرمة عليه تحريم المبتوتة ) .


[ ص: 115 ] الشرح ) حديث عائشة رواه أحمد بن حنبل والدارمي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وغيرهم بإسناد ضعيف ، فيه محمد بن إسحاق صاحب المغازي ، عن يعقوب بن عتبة . ومحمد بن إسحاق مدلس ، وإذا قال المدلس : ( عن ) لا يحتج به ، ووقع في المهذب " لو مت قبلي لغسلتك " باللام ، والذي رأيته في كتب الحديث " فغسلتك " بالفاء ويقال : مت بضم الميم وكسرها لغتان مشهورتان والبقيع بالباء في أوله وهو بقيع الغرقد مدفن أهل المدينة .

( أما الأحكام ) . ففي الفصل مسائل : ( إحداها ) إذا ماتت امرأة ليس لها زوج غسلها النساء ذوات الأرحام المحارم كالأم والبنت وبنت الابن وبنت البنت والأخت والعمة والخالة وأشباههن ، ثم ذوات الأرحام غير المحارم كبنت العم وبنت العمة وبنت الخال وبنت الخالة يقدم أقربهن فأقربهن ، قال الشيخ أبو حامد وغيره : وبعد هؤلاء يقدم ذوات الولاء ، فإن لم يكن فالأجنبيات ، ويرد على المصنف إهماله ذوات الولاء ، قال البغوي وغيره : فإن اجتمع امرأتان كل واحدة ذات رحم محرم فأولاهما من هي في محل العصوبة ، لو كانت ذكرا فتقدم العمة على الخالة ، فإن لم يكن نساء أصلا غسلها الأقرب فالأقرب من رجال المحارم على ما سبق فيما إذا مات رجل فيقدم الأب ثم الجد ثم الابن على الترتيب السابق . وفي كلام المصنف إشكال ، فإنه يوهم أنه يقدم في غسلها كل من يقدم في غسل الرجل من الرجال . فيدخل في ذلك ابن العم ولا خلاف أنه لا حق له في غسلها فإنه ليس محرما ، وإن كان له حق في الصلاة فمراده الأقرب فالأقرب من الرجال المحارم ، ولقد أحسن صاحب البيان في مشكلات المهذب وغيرهما ، فرتبه على أن ابن العم لا يجوز له غسلها بل هو كالأجنبي ، وإن كان الأكثرون قد أهملوا بيانه والله أعلم .

( الثانية ) يجوز للزوج غسل زوجته بلا خلاف عندنا ، وسنوضح دليله في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى ، وهل يقدم على النساء ؟ فيه [ ص: 116 ] الوجهان اللذان ذكرهما المصنف وهما مشهوران ( أصحهما ) عند الأصحاب أن النساء يقدمن عليه ، ونقله الرافعي .

( والثاني ) يقدم عليهن ، وصححه البندنيجي ودليله في الكتاب ، وهل يقدم الزوج على الرجال المحارم ؟ فيه وجهان مشهوران ، أصحهما بالاتفاق يقدم الزوج عليهم صححه المحاملي والبندنيجي والسرخسي والرافعي وآخرون ، ونقله صاحب الحاوي عن أكثر أصحابنا ، وقطع المصنف في التنبيه والشيخ أبو محمد الجويني وغيره من أصحاب القفال بتقديم الزوج على الرجال المحارم وتأخيره عن النساء ، فيحصل في المسألتين ثلاثة أوجه :

( أحدها ) يقدم الزوج على الرجال والنساء .

( والثاني ) يقدم النساء والمحارم من الرجال عليه .

( والثالث ) وهو الأصح يقدم على الرجال ويؤخر عن النساء كما قطع به المصنف في التنبيه وموافقوه .

( المسألة الثالثة ) إذا طلق زوجته بائنا أو رجعيا أو فسخ نكاحها ثم مات أحدهما في العدة لم يجز للآخر غسله ، لما ذكره المصنف ، وإنما قاسه على البائن لأن أبا حنيفة خالف في الرجعية ووافق في البائن ، ووافقه أحمد ، وعن مالك روايتان كالمذهبين ، واتفقوا على أنه لا يغسل البائن .

( فرع ) لو ماتت امرأته فتزوج أختها أو أربعا سواها جاز له غسلها على المذهب ، وهو مقتضى إطلاق المصنف والجمهور . وذكر الرافعي فيه وجهين ( أصحهما ) جوازه ( والثاني ) منعه لأن أختها أو الأربع لو متن في الحال لغسلهن فلو جوزنا غسل هذه لزم منه جواز غسل امرأة وأختها في وقت واحد بالزوجية .

( فرع ) ظاهر كلام الغزالي وبعضهم أن الرجال المحارم لهم الغسل مع وجود النساء ، قال الرافعي : ولكن لم أر لعامة الأصحاب تصريحا بذلك ، وإنما يتكلمون في الترتيب ويقولون : المحارم بعد النساء .

( فرع ) قال أصحابنا : للسيد غسل أمته ، ومدبرته ، وأم ولده ، ومكاتبته ولا خلاف في هذا لأنها مملوكة له فأشبهت الزوجة ، بل هذه أولى ، فإنه يملك الرقبة والبضع جميعا ( فإن قيل ) فالمكاتبة لا يملك بضعها ( قلنا ) بالموت تنفسخ الكتابة فيعود البضع كما كان قبل الكتابة ، وأما من كانت من [ ص: 117 ] هؤلاء المذكورات مزوجة أو معتدة أو مستبرأة فلا يجوز له غسلها بالاتفاق لأنه لا يستبيح بضعها ، وهل يجوز للأمة والمدبرة والمستولدة غسل السيد ؟ فيه وجهان مشهوران وقد ذكرهما المصنف بعد هذا ( أصحهما ) لا يجوز ، لأنها بالموت صارت لغيره أو حرة ( والثاني ) جوازه كعكسه ، وأما المكاتبة والمزوجة والمعتدة والمستبرأة فلا يجوز لهن غسله بلا خلاف كعكسه ، صرح به البغوي وغيره .

( فرع ) إذا غسل أحد الزوجين الآخر فينبغي أن يلف على يده خرقة لئلا يمس بشرته فإن لم يلف ، قال القاضي حسين ومتابعوه : يصح الغسل بلا خلاف ولا يبنى على الخلاف في انتقاض طهر الملموس ، لأن الشرع أذن له مع مسيس الحاجة إليه ، وأما اللامس فقطع القاضي بانتقاضه ، وفيه وجه ضعيف سبق في باب ما ينقض الوضوء .

( فرع ) قال أصحابنا : يشترط فيمن نقدمه في الغسل شرطان ( أحدهما ) كونه مسلما ، إن كان المغسول مسلما ، فلو كان المحكوم بتقديم درجته كافرا فهو كالمعدوم ونقدم من بعده ، حتى يقدم المسلم الأجنبي على القريب الكافر ( الثاني ) أن لا يكون قاتلا ، قال المتولي وآخرون : إذا قتل قريبه فليس له حق في غسله ولا الصلاة عليه ، ولا في دفنه لأنه غير وارث ، ولأنه لم يرع حق القرابة ، بل بالغ في قطع الرحم ، هذا إذا قتله ظلما فإن قتله بحق ، قال المتولي وآخرون : فيه وجهان بناء على إرثه إن ورثناه ثبت له حق الغسل وغيره وإلا فلا .

( فرع ) لو ترك المقدم في الغسل حقه وسلمه لمن بعده ، فللذي بعده تعاطيه بشرط اتحاد الجنس فليس للرجال أن يتركوه كلهم ويفوضوه إلى النساء إذا كان الميت رجلا ، وكذا ليس لهن تفويضه إلى الرجال إذا كانت الميتة امرأة ، هكذا ذكره الشيخ أبو محمد الجويني ، ونقله عنه إمام الحرمين في النهاية ، وجزم به الرافعي وآخرون . وقال إمام الحرمين : عندي في جواز تفويض المقدم إلى غيره احتمالان .

( فرع ) قال الشيخ أبو حامد في تعليقه : مذهبنا أن المرأة إذا ماتت كان حكم نظر الزوج إليها بغير شهوة باقيا ، وزال حكم نظره بشهوة ، [ ص: 118 ] ثم قال بعده ، فإن قيل : قلتم فرقة الطلاق ينقطع بها حكم النظر ، ولا ينقطع بفرقة الموت فما الفرق ؟ ( قلنا ) من وجهين ( أحدهما ) : أن فرقة الطلاق برضاهما أو برضاه ، وفرقة الموت بغير اختيارهما .

( والثاني ) : أن زوال الملك بالموت يبقى من آثاره ما لا يبقى إذا زال في الحياة ولهذا لو قال : إذا بعت عبدي فقد أوصيت به لفلان فباعه لم تصح الوصية ، ولو قال : إذا مت فعبدي موصى به لفلان صحت الوصية ويؤيده أن فرقة الطلاق تمنع الإرث بخلاف فرقة الموت . هذا آخر كلام أبي حامد ، وكان حقيقة الفرق الأول أن الحاجة تدعو إلى النظر بعد الموت للغسل ونحوه ، ولا يعد واحد منهما مقصرا في هذه الفرقة بخلاف الفرقة في الحياة .

التالي السابق


الخدمات العلمية