صفحة جزء
[ ص: 147 ] باب الكفن قال المصنف رحمه الله تعالى : ( تكفين الميت فرض على الكفاية لقوله صلى الله عليه وسلم " { في المحرم الذي خر من بعيره : كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما } " ويجب ذلك في ماله للخبر ويقدم على الدين كما تقدم كسوة المفلس على ديون غرمائه ، فإن قال بعض الورثة : أنا أكفنه من مالي ، وقال بعضهم : بل يكفن من التركة كفن من التركة ; لأن في تكفين بعض الورثة من ماله منة على الباقين فلا يلزم قبولها ، وإن كانت امرأة لها زوج ففيه وجهان . قال أبو إسحاق : يجب على الزوج ; لأن من لزمه كسوتها في الحياة لزمه كفنها بعد الوفاة ، كالأمة مع السيد . وقال أبو علي بن أبي هريرة : يجب في مالها ; لأنها بالموت صارت أجنبية منه فلم يلزمه كفنها ، والأول أصح ; لأن هذا يبطل بالأمة فإنها صارت بالموت أجنبية من مولاها ، ثم يجب عليه تكفينها فإن يكن مال ولا زوج فالكفن على من يلزمه نفقتها اعتبارا بالكسوة في الحياة ) .


( الشرح ) حديث المحرم رواه البخاري ومسلم من رواية ابن عباس ، وسبق في باب غسل الميت ، وليس في الصحيحين وقوله : اللذين مات فيهما ، وأكثر رواياتهما ثوبين ، وفي بعضها ثوبيه ، والكسوة بكسر الكاف وضمها ، لغتان الكسر أفصح . وفي الفصل مسائل : ( إحداها ) تكفين الميت فرض كفاية بالنص والإجماع وإنه لا يشترط وقوعه من مكلف ، حتى لو كفنه صبي أو مجنون حصل التكفين لوجود المقصود .

( الثانية ) : محل الكفن تركة الميت للحديث المذكور والإجماع ، فإن كان عليه دين مستغرق قدم الكفن لما ذكره المصنف ، واستثنى أصحابنا صورا يقدم فيها الدين على الكفن ، وضابطها أن يتعلق الدين بعين التركة ( فمن ) الصور المستثناة مال تعلقت به زكاة لشاة بقيت من أربعين والمرهون والعبد الجاني والمبيع إذا مات المشتري مفلسا وشبهها ، فيقدم صاحب الدين بلا خلاف ، وممن صرح به من أصحابنا الجرجاني في فرائضه ، والبغوي في التهذيب والجويني في الفروق ، والرافعي وغيرهم ، وكان ينبغي للمصنف [ ص: 148 ] أن ينبه عليه . قال أصحابنا رحمهم الله : وحنوط الميت ومؤنة تجهيزه كالغسل والحمل والدفن وغيرها لها حكم الكفن فيما ذكرناه .

( فرع ) تكفين الميت وسائر مؤنة تجهيزه يحسب من رأس ماله ، سواء كان موسرا أو غيره ، هذا مذهبنا وبه قال الفقهاء كافة إلا ما سأذكره . قال ابن المنذر : الكفن من رأس المال ، سواء كان موسرا أو غيره ، هذا مذهبنا وبه قال الفقهاء كافة إلا ما سأذكره عند أكثر العلماء ، ممن قاله ابن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن وعمرو بن دينار وعمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن ، وبه نقول ، وقال خلاس بن عمرو بكسر الخاء : من ثلث التركة . وقال طاوس : إن كان المال قليلا فمن الثلث وإلا فمن رأس المال ، دليلنا حديث المحرم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل هل أوصى بالثلث أم لا .

( الثالثة ) : إذا طلب بعض الورثة تكفينه من ماله وآخر من التركة كفن من التركة لما ذكره المصنف .

( الرابعة ) : إذا ماتت مزوجة فهل يلزم الزوج كفنها ؟ فيه وجهان : ( أصحهما ) : عند جمهور الأصحاب يجب على زوجها ، ممن صححه المصنف هنا ، وفي التنبيه والمحاملي في كتابيه المجموع والتجريد ، والرافعي ، وقطع به المحاملي في المقنع ، وصحح الماوردي والشيخ أبو محمد الجويني في الفروق ، والجرجاني في التحرير وجوبه في مالها ، قال الشيخ أبو محمد : هو قول أكثر أصحابنا ، وفي هذا النقل نظر ; لأن الأكثرين إنما نقلوه عن أبي علي بن أبي هريرة ، ودليل الوجهين : في الكتاب قاله البندنيجي والعبدري وابن الصباغ وسائر الأصحاب ، وسواء كانت الزوجة موسرة أو معسرة ففيها الوجهان وأما تقييد الغزالي في الوسيط الوجهين : بما إذا كانت معسرة فأنكروه عليه ويجاب عنه بأنه ذكر إحدى الصورتين ولم يتكلم في الموسرة . قال أصحابنا : " وحكم مؤنة غسلها ودفنها وسائر مؤن تجهيزها حكم الكفن " صرح به القاضي أبو الطيب في كتابيه التعليق والمجرد ، والدارمي [ ص: 149 ] والمحاملي في المجموع والتجريد والمقنع وآخرون ولا خلاف فيه . قال المحاملي في التجريد والمقنع وآخرون من الأصحاب : إن قلنا يجب على الزوج فلم يكن له مال وجب في مالها ، فإن لم يكن لها مال فعلى من عليه نفقتها ، فإن لم يكن ففي بيت المال . وأما قول المصنف في الأمة إنها صارت أجنبية بالموت فقد قال مثله المحاملي وغيره وأنكره صاحب الشامل وقال : نفقة الأمة كانت لسبب الملك ولا تبطل أحكامه بالموت ، ولهذا كان السيد أحق بدفنها وتولي تجهيزها .

( الخامسة ) : إذا لم يكن للميت مال ولا زوج وجب كفنه وسائر مؤن تجهيزه على من تلزمه نفقته من والد وولد وسيد ، فيجب على السيد كفن عبده وأمته والقن والمدبر وأم الولد والمكاتب ; لأن الكتابة انفسخت بالموت ، وسواء في أولاده البالغ وغيره ، والصحيح والزمن ، وكذا الوالدون ; لأنهم بالموت صاروا عاجزين عن الكسب ونفقة العاجز واجبة ، فإن لم يكن له من تلزمه نفقته وجبت مؤنة تجهيزه في بيت المال كنفقته ، وهل يكفن من بيت المال بثوب أم بثلاثة ؟ فيه طريقان حكاهما إمام الحرمين .

( أحدهما ) : يكفن بثوب واحد ، قال الإمام وبهذا قطع الأئمة ( وأصحهما ) وأشهرهما فيه وجهان ، وممن حكاهما صاحب التقريب والبغوي وآخرون ( أصحهما ) : بثوب ; لأنه يستغني عما سواه وبيت المال للمحتاج فإن قلنا بثوب فترك الميت ثوبا لم يزد عليه من بيت المال . وإن قلنا ثلاثة فهل يقتصر عليه أم يكمل ثلاثة ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) يكمل ; لأنه يستحقه في بيت المال ، فإن لم يكن في بيت المال مال وجب كفنه وسائر مؤن تجهيزه على عامة المسلمين ، كنفقته في مثل هذا الحال . قال القاضي حسين والبغوي وغيرهما : ولا يجب حينئذ إلا ثوب واحد يستر جميع بدنه ; لأن أموال العامة أضيق من بيت المال فلا يؤخذ منها إلا الضرورة ، وهذا كله مشهور في كتب الأصحاب ، وهو مفهوم من قول المصنف : الكفن على من تلزمه نفقته ، فإن النفقة مرتبة هكذا ، وإذا كفن من مال قريبه الذي عليه نفقته فهل يكفن بثوب أم بثلاثة ؟ فيه وجهان كبيت المال ، حكاهما القاضي حسين وغيره ( أصحهما ) بثوب . [ ص: 150 ]

( فرع ) قال البندنيجي : فإن مات له أقارب دفعة واحدة ، بهدم أو غرق وغيرهما ، قدم في التكفين وغيره من يخاف فساده ، فإن استووا فيه قدم الأب ثم الأقرب فالأقرب ، فإن كانا أخوين قدم أسنهما ، فإن كانا زوجين أقرع بينهما إذ لا مزية .

( فرع ) في مذاهب العلماء في كفن الزوجة . ذكرنا أن الأصح عندنا أنه على الزوج ، وبه قال مالك وأبو حنيفة . وقال الشعبي ومحمد بن الحسن وأحمد " في مالها " وروي عن مالك .

( فرع ) قال البندنيجي وغيره : لو مات إنسان ولم يوجد هناك ما يكفن به إلا ثوب مع مالك له غير محتاج إليه ، لزمه بذله بقيمته كالطعام للمضطر .

التالي السابق


الخدمات العلمية