صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ويستحب أن يبسط أحسنها وأوسعها ، ثم الثاني [ ثم ] الذي يلي الميت اعتبارا بالحي فإنه يجعل أحسن ثيابه وأوسعها فوق الثياب ، وكلما فرش ثوبا نثر فيه الحنوط ثم يحمل الميت إلى الأكفان مستورا ، ويترك على الكفن مستلقيا على ظهره ، ويؤخذ قطن منزوع الحب فيجعل فيه الحنوط والكافور ويجعل بين أليتيه ، ويشد عليه كما يشد التبان . ويستحب أن يأخذ القطن ، ويجعل عليه الحنوط والكافور ويترك على الفم والمنخرين والعينين والأذنين وعلى خراج نافذ إن كان عليه ليخفي ما يظهر من رائحته ويجعل الحنوط والكافور على قطن ويترك على مواضع السجود ، لما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : " { يتتبع بالطيب مساجده } " ولأن هذه المواضع شرفت بالسجود فخصت بالطيب قال : " وأحب أن يطيب جميع بدنه بالكافور ; لأن ذلك يقوي البدن ويشده " ويستحب أن يحنط رأسه ولحيته بالكافور كما يفعل الحي إذا تطيب . قال في البويطي : " فإن حنط بالمسك فلا بأس لما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 157 ] قال : { المسك من أطيب الطيب } " وهل يجب الحنوط والكافور أم لا ؟ فيه قولان : وقيل : فيه وجهان ( أحدهما ) : يجب ; لأنه جرت به العادة في الميت فكان واجبا كالكفن ( والثاني ) : أنه لا يجب كما لا يجب الطيب في حق المفلس ، وإن وجبت الكسوة ) .


( الشرح ) حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { المسك أطيب الطيب } رواه مسلم في صحيحه هكذا ، ووقع في المهذب : { من أطيب الطيب } بزيادة ( من ) والأثر المذكور عن ابن مسعود { يتتبع بالطيب مساجده } رواه البيهقي ، والحنوط - بفتح الحاء وضم النون - هذا هو المشهور ، ويقال : الحناط بكسر وهو أنواع من الطيب يخلط للميت خاصة لا يقال في غير طيب الميت حنوط قال الأزهري : يدخل في الحنوط الكافور وذريرة القصب والصندل الأحمر والأبيض ( وقوله ) كما يشد التبان هو بضم المثناة فوق وتشديد الموحدة ، وهو سراويل قصيرة صغيرة بلا تكة ( قوله ) : وعلى خراج نافذ هو بضم الخاء المعجمة ، وتخفيف الراء وهو القرحة في الجسد . ( أما الأحكام ) فقال الشافعي والأصحاب يستحب أن يبسط أوسع اللفائف وأحسنها ويذر عليها حنوط ثم يبسط الثانية عليها ويذر عليها حنوط وكافور ، وإن كفن الرجل أو المرأة في لفافة ثالثة أو رابعة كانت كالثانية في أنها دون التي قبلها وفي ذر الحنوط والكافور . واتفق الشافعي والأصحاب على استحباب الحنوط كما ذكرنا . قال صاحب الحاوي رحمه الله : هذا شيء لم يذكره غير الشافعي من الفقهاء ، وإنما اختاره الشافعي ; لئلا يسرع بلي الأكفان وليقيها من بلل يصيبها .

قال المصنف والأصحاب رحمهم الله " ثم يحمل الميت مستورا فيوضع فوقها مستلقيا " واحتجوا لبسط أحسن اللفائف وأوسعها أولا بالقياس على الحي ، فإنه يجعل أجمل ثيابه فوقها ، ثم يؤخذ قطن منزوع الحب فيجعل عليه حنوط وكافور ويدس بين أليتيه حتى يتصل بحلقة الدبر فيسدها ، ليرد شيئا يتعرض للخروج . قال أصحابنا : ولا يدخله إلى داخل الحلقة . هذا هو الصحيح الذي قطع به جماهير الأصحاب في الطريقين ، وذكر البغوي [ ص: 158 ] وجهين : ( أحدهما ) : يكره الإدخال ( والثاني ) : يدخل ; لأنه إذا لم يدخل لا يمنع الخروج قال : وإنما فعل ذلك للمصلحة . وقال القاضي حسين في تعليقه : قال القفال : رأيت للشافعي رحمه الله في الجامع الكبير إدخاله ، ، وهذا نقل غريب وحكم ضعيف ، والصواب ما سبق وسبب الخلاف أن المزني نقل في المختصر عن الشافعي أنه قال يأخذ شيئا من قطن منزوع الحب فيجعل فيه الحنوط والكافور . ثم يدخل بين أليتيه إدخالا بليغا ويكثر منه ليرد شيئا - إن جاء منه عند تحريكه - ويشد عليه خرقة مشقوقة الطرف ، يأخذ أليته وعانته . ثم يشد عليه كما يشد التبان الواسع . قال المزني : لا أحب ما قال من إبلاغ الحشو . ولكن يجعل كاللوزة من القطن بين أليتيه ويجعل من تحتها قطن يضم إلى أليتيه . والشداد من فوق ذلك كالتبان يشد عليه . فإن جاء منه شيء بعد ذلك منعه ذلك أن يظهر ، فهذا أحسن في كرامته من انتهاك حرمته . هذا آخر كلام المزني .

قال أصحابنا : توهم المزني من كلام الشافعي ، هذا أنه أراد إدخال القطن في الدبر قالوا : وأخطأ في توهمه . وإنما أراد الشافعي أن يبالغ في حشو القطن بين أليتيه حتى يبلغ الدبر من غير أن يدخله . وقد بين ذلك في الأم فقال حتى يبلغ الحلقة . قال بعض أصحابنا : ومما يدل على وهم المزني قول الشافعي : لرد شيء إن خرج . ولو كان مراده أن يدخل إلى داخل الدبر لقال يمنع من خروج شيء والله أعلم . قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله : ثم يشد أليتاه ويستوثق في ذلك بأن يأخذ خرقة ويشق رأسها ويجعل وسطها عند أليته وعانته ويشد فوق السرة بأن يرد ما يلي ظهره إلى سرته ، ويعطف الشقان الآخران عليه ، ولو شد شق من كل رأس على هذا الفخذ ومثله على الفخذ الآخر جاز ، وقيل يشد عليه بخيط ولا يشق طرفها والله أعلم . قال الشافعي والمصنف والأصحاب : ثم يأخذ شيئا من القطن ويضع عليه شيئا من الحنوط والكافور ، ويجعل على منافذ البدن من الأذنين والعينين والمنخرين والفم والجراحات النافذة دفعا للهوام ، ويجعل على قطن وكافور [ ص: 159 ] وترك على مواضع السجود ، وهي الجبهة والأنف ، وبطن الكفين ، والركبتان والقدمان ، هكذا قال المصنف والجمهور ، ونص عليه الشافعي في المختصر ، وفيه وجه حكاه الرافعي أنه يجعل الحنوط والكافور على نفس هذه المساجد بلا قطن ، وهو ضعيف وغريب .

قال المصنف وغيره : قال الشافعي في المختصر والمصنف والأصحاب : ويستحب أن يحنط رأسه ولحيته بالكافور كما يفعل الحي إذا تطيب ، قال الشافعي ونقله المصنف والأصحاب : ولو حنط بالمسك فلا بأس لحديث أبي سعيد السابق . وروى البيهقي بإسناد حسن ، عن علي رضي الله عنه أنه كان عنده مسك فأوصى أن يحنط به وقال : هو من فضل حنوط رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي في ذلك عن ابن عمر وأنس رضي الله عنهم . قال المصنف : وهل يجب الحنوط والكافور أم لا ؟ فيه قولان : وقيل وجهان ( أحدهما ) : يجب لجريان العادة به ، فوجب كالكفن ( والثاني ) يستحب ولا يجب كما لا يجب الطيب للمفلس ، وإن وجبت كسوته .

( وقوله ) قولان : ، وقيل وجهان ، هذا من ورعه وإتقانه واعتنائه . فلم يجزم بقولين ولا وجهين : ، وسبب تردد المصنف رحمه الله في ذلك أن المحاملي قال في المجموع : ظاهر ما ذكره الشافعي في الأم والمختصر أنه واجب . وقال في موضع آخر : أنه مستحب . فالمسألة على قولين قال أصحابنا يحكون فيها وجهين : . وقال البندنيجي : قال الشافعي في الأم والقديم : كفن الميت وحنوطه ومؤنة تجهيزه من رأس ماله ليس لغرمائه ولا لورثته منع ذلك ، ثم قال الشافعي بعد هذا بسطرين : ولو لم يكن حنوط ولا كافور رجوت أن يجزئ . قال البندنيجي رحمه الله : واختلف أصحابنا في الطيب والحنوط على وجهين : . قال : والظاهر أنهما قولان : ، هذا كلامه ، والأصح أنه لا يجب ، صححه الغزالي وغيره . قال إمام الحرمين رحمه الله : ويجب القطع بهذا ، وقطع المتولي بأن الكافور لا يجب ، وإنما الوجهان في الحنوط ، وممن خص الوجهين : بالحنوط المحاملي والماوردي والغزالي ، وممن وافق المصنف في نقل الوجهين في الحنوط والكافور جميعا صاحبا المستظهري والبيان ، وسبقهم به البندنيجي كما ذكرناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية