صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويدعو للميت في التكبيرة الثالثة ، لما روى أبو قتادة قال : { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فسمعته يقول : اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا ، وذكرنا وأنثانا } وفي بعضها { اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ، ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام والإيمان } وهو فرض من فروضها ; لأن القصد من هذه الصلاة الدعاء للميت ، فلا يجوز الإخلال بالمقصود ، وأدنى الدعاء ما يقع عليه الاسم ، والسنة أن يقول ما رواه أبو قتادة وذكره الشافعي رحمه الله قال : يقول { : اللهم هذا عبدك وابن عبديك خرج من روح الدنيا وسعتها - ومحبوبها وأحباؤه فيها - إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه ، كان يشهد أن لا إله إلا أنت ، وأن محمدا عبدك ورسولك ، وأنت أعلم به ، اللهم نزل بك وأنت خير منزول به وأصبح فقيرا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه ، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له ، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه ، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه ، ولقه برحمتك الأمن من عذابك ، حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين } وبأي شيء دعا جاز ; لأنه قد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعية مختلفة فدل على أن الجميع جائز ) .


( الشرح ) اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أن الدعاء فرض في صلاة الجنازة وركن من أركانها وأقله ما يقع عليه اسم الدعاء ، وهل يشترط تخصيص الميت بالدعاء ؟ فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين وآخرون .

[ ص: 196 ] أحدهما ) : لا يشترط بل يكفي الدعاء للمؤمنين والمؤمنات ويدخل فيه الميت ضمنا ، حكاه إمام الحرمين عن والده الشيخ أبي محمد الجويني . و ( الثاني ) : وهو الصحيح ، وبه قطع المصنف والجمهور ، ونقله إمام الحرمين عن ظاهر كلام الأئمة أنه يجب تخصيص الميت بالدعاء ، ولا يكفي الدعاء للمؤمنين وللمؤمنات ، فيقول : اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ، ونحو ذلك ، واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء } رواه أبو داود وابن ماجه ، ومحل هذا الدعاء التكبيرة الثالثة ، وهو واجب فيها لا يجزئ في غيرها بلا خلاف ، وليس لتخصيصه بها دليل واضح ، واتفقوا على أنه لا يتعين لها دعاء .

( أما ) الأفضل فجاءت فيه أحاديث ( منها ) حديث عوف بن مالك قال { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول : اللهم اغفر له وارحمه ، وعافه واعف عنه وأكرم نزله ، ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره ، وأهلا خيرا من أهله ، وزوجا خيرا من زوجه ، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ، ومن عذاب النار ، قال : حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم } رواه مسلم في صحيحه ، وزاد مسلم في رواية له " وقه فتنة القبر وعذاب القبر " وذكر تمامه . ( ومنها ) حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فقال : اللهم اغفر لحينا وميتنا ، وصغيرنا وكبيرنا ، وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا ، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان } رواه أحمد بن حنبل وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وغيرهم . قال الحاكم : هو صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وهذا لفظ رواية أكثرهم ، وفي رواية أبي داود " فأحيه على الإيمان " و " فتوفه على الإسلام " عكس رواية الجمهور ووقع في المهذب " فأحيه على الإسلام " و " فتوفه على الإسلام " بلفظ الإسلام [ ص: 197 ] فيهما ، وهذا تحريف ، ورواه الترمذي أيضا من رواية أبي إبراهيم الأشهلي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأبيه صحبة ، ورواه أحمد بن حنبل والبيهقي وغيرهما من رواية أبي قتادة ، كما رواه أبو هريرة . وهذه هي الرواية المذكورة في الكتاب وإسنادها ضعيف . قال الترمذي : سمعت البخاري رحمه الله يقول : أصح روايات اللهم اغفر لحينا وميتنا رواية الأشهلي عن أبيه قال : وقال البخاري : أصح شيء في الباب حديث عوف بن مالك ، وذكره مختصرا . وحكى البيهقي عن الترمذي عن البخاري رحمه الله أنه قال : حديث أبي هريرة وعائشة وأبي قتادة في هذا الباب غير محفوظ وأصح ما في الباب حديث عوف بن مالك ( ومنها ) حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل من المسلمين فسمعته يقول : اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك وحل جوارك فقه فتنة القبر وعذاب النار ، وأنت أهل الوفاء والحمد ، فاغفر له وارحمه ، إنك الغفور الرحيم } رواه أبو داود وابن ماجه .

( ومنها ) حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجنازة { اللهم أنت ربها ، وأنت خلقتها ، وأنت هديتها للإسلام ، وأنت قبضت روحها ، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها ، جئنا شفعاء فاغفر له } رواه أبو داود ، فهذه قطعة من الأحاديث الواردة فيه . قال البيهقي والمتولي وآخرون من الأصحاب : التقط الشافعي من مجموع الأحاديث الواردة دعاء ورتبه واستحبه ، وهو الذي ذكره في مختصر المزني وذكره المصنف هنا . وفي التنبيه وسائر الأصحاب قال : يقول " اللهم هذا عبدك وابن عبدك خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبها وأحبائه فيها إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه ، كان يشهد أن لا إله إلا أنت ، وأن محمدا عبدك ورسولك ، وأنت أعلم به ، اللهم نزل بك وأنت خير منزول به ، وأصبح فقيرا إلى رحمتك ، وأنت غني عن عذابه ، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له ، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه ، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه ، ولقه برحمتك رضاك ، وقه فتنة القبر وعذابه ، وأفسح له في قبره ، وجاف الأرض [ ص: 198 ] عن جنبيه ، ولقه برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين " قال أبو عبد الله الزهري من متقدمي أصحابنا في كتابه الكافي وغيره من أصحابنا فإن كانت امرأة قال : اللهم هذه أمتك . ثم ينسق الكلام ، ولو ذكرها على إرادة الشخص جاز . قال أصحابنا : فإن كان الميت صبيا أو صبية اقتصر على حديث : اللهم اغفر لحينا وميتنا إلى آخره ، وضم إليه : اجعله فرطا لأبويه وسلفا وذخرا ، وعظة واعتبارا وشفيعا ، وثقل به موازينهما وأفرغ الصبر على قلوبهما ولا تفتنهما بعده ولا تحرمهما أجره . والله أعلم .

( فرع ) في ألفاظ الفصل : قوله " خرج من روح الدنيا " هو بفتح الراء . قال أهل اللغة : هو نسيم الريح قوله " إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه قال القاضي حسين في تعليقه : معنى وما هو لاقيه هو الملكان اللذان يدخلان عليه ، وهما منكر ونكير . قوله " كان يشهد أن لا إله إلا أنت " قال صاحب البيان رحمه الله : معناه إنما دعوناك ; لأنه كان يشهد قوله " وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له " قال الأزهري رحمه الله : أصل الشفع الزيادة . قال فكأنهم طلبوا أن يزاد بدعائهم من رحمة الله إلى ما له بتوحيده وعمله والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية