صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( إذا صلي على الميت بودر بدفنه ، ولا ينتظر حضور من يصلي عليه إلا الولي فإنه ينتظر إذا لم يخش على الميت التغير ، فإن خيف عليه التغير لم ينتظر ، وإن حضر من لم يصل عليه صلى عليه ، وإن حضر من صلى مرة فهل يعيد الصلاة مع من يصلي ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) : يستحب ; كما يستحب في سائر الصلوات أن يعيدها مع من يصلي جماعة ( والثاني ) : وهو صحيح لا يعيد ، ; لأنه يصليها نافلة ، وصلاة الجنازة لا ينتقل بمثلها ، وإن حضر من لم يصل بعد الدفن صلى على القبر لما روي { أن مسكينة ماتت ليلا فدفنوها ولم يوقظوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد على قبرها } وإلى أي وقت تجوز الصلاة على القبر ؟ فيه أربعة أوجه : ( أحدها ) : إلى شهر ; لأن { النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أم [ ص: 205 ] سعد بن عبادة رضي الله عنهما بعد ما دفنت بشهر } ( والثاني ) : يصلى عليه ما لم يبل ; لأنه إذا بلي لم يبق ما يصلي عليه ( والثالث ) : يصلي عليه ، من كان من أهل الفرض عند موته ، ; لأنه كان من أهل الخطاب بالصلاة عليه ، وأما من يولد بعد موته أو بلغ بعد موته فلا يصلي عليه ; لأنه لم يكن من أهل الخطاب بالصلاة عليه ( والرابع ) يصلي عليه أبدا ; لأن القصد من الصلاة على الميت الدعاء ، والدعاء يجوز كل وقت ) .


( الشرح ) حديث المسكينة صحيح رواه النسائي والبيهقي وغيرهما بإسناد صحيح من رواية أبي أمامة أسعد بن سهل بن حنيف ، وهو صحابي ، وفي رواية البيهقي عن أبي أمامة رضي الله عنه أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخبر به ، وهو صحيح فإن الصحابة كلهم عدول ، وهذه المسكينة يقال لها : أم محجن - بكسر الميم - ( وأما ) حديث أم سعد فرواه الترمذي والبيهقي بإسنادهما عن ابن المسيب رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { صلى على أم سعد بعد موتها بشهر } قال البيهقي ، وهذا مرسل صحيح ، قال : وروي عن ابن عباس موصولا قال " صلى عليها بعد شهر " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم غائبا حين موتها ، قال : والمرسل أصح ، ومرسل ابن المسيب كما سبق بيانه في أول الشرح ، وهل هو حجة لمجرده ؟ أم إذا اعتضد بأحد الأمور الأربعة السابقة ؟ فيه وجهان سبقا هناك . أما أحكام الفصل ففيه مسائل : ( إحداها ) : إذا صلي عليه فالسنة أن يبادر بدفنه ، ولا ينتظر به حضور أحد إلا الولي فإنه ينتظر ما لم يخش عليه التغير ، فإن خيف تغيره لم ينتظر ; لأن مراعاة صيانة الميت أهم من حضور الولي ، ثم أنه إنما ينتظر الولي إذا كان بينه وبينه مسافة قريبة .

( الثانية ) إذا حضر بعد الصلاة عليه إنسان لم يكن صلى عليه أو جماعة صلوا عليه ، وكانت صلاتهم فرض كفاية بلا خلاف عندنا ، وقال أبو حنيفة : لا تصلي عليه طائفة ثانية ; لأنه لا يتنفل بصلاة الجنازة فلا تصليها طائفة بعد طائفة . [ ص: 206 ] واحتج أصحابنا بحديث المسكينة وهو صحيح كما سبق ، وبحديث أبي هريرة { أن امرأة سوداء أو رجلا كان يقم المسجد ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنه فقالوا : مات فقال : أفلا آذنتموني به ؟ دلوني على قبره فدلوه فصلى عليه } رواه البخاري ومسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر منبوذ } رواه البخاري ومسلم وفي الباب أحاديث كثيرة صحيحة ، ومعلوم أن هؤلاء ما دفنوا إلا بعد صلاة طائفة عليهم بحيث سقط الحرج بصلاتهم وإلا فلا يجوز أن يظن دفنهم قبل الصلاة . والجواب عن احتجاجهم بأن صلاة الثانية نافلة من وجهين ( أحدهما ) : منعه ، بل هي عندنا فرض كفاية كما سبق ، وسنذكر دليله واضحا في المسألة الثالثة إن شاء الله تعالى ( والثاني ) : أنه ينتقض بصلاة النساء مع الرجال على الجنازة ، فإنها نافلة في حقهن ; لأنهن لا يدخلن في الفرض إذا حضر الرجال واقتصر صاحب الحاوي على هذا الجواب الثاني ( فإن ) قيل : كيف تقع صلاة الطائفة الثانية فرضا ، ولو تركوها لم يأثموا ، وليس هذا شأن الفروض ؟ ( فالجواب ) أنه قد يكون ابتداء الشيء ليس بفرض فإذا دخل فيه صار فرضا ، كما إذا دخل في حج التطوع . وكما في الواجب على التخيير كخصال الكفارة ولو أن الطائفة الأولى لو كانت ألفا أو ألوفا وقعت صلاتهم جميعهم فرضا بالاتفاق ومعلوم أن الفرض كان يسقط ببعضهم ، ولا يقول أحد : أن الفرض سقط " بأربعة منهم على الإبهام والباقون متنفلون .

( فإن ) قيل : قد وقع في كلام كثير من الأصحاب أن فرض الكفاية إذا فعله من تحصل به الكفاية سقط الفرض عن الباقين ، وإذا سقط عنهم كيف قلتم ؟ ، تقع صلاة الطائفة فرضا ؟ ( فالجواب ) أن عبارة المحققين : سقط الحرج عن الباقين أي : لا حرج عليهم في ترك هذا الفعل فلو فعلوه وقع فرضا كما لو فعلوه مع الأولين دفعة واحدة .

( وأما ) عبارة من يقول سقط الفرض عن الباقين فمعناها سقط حرج الفرض وإثمه والله أعلم .

( الثالثة ) : إذا صلى على الجنازة جماعة أو واحد ، ثم صلت عليها طائفة أخرى فأراد من صلى أولا أن يصلي ثانيا مع الطائفة الثانية ، ففيه أربعة [ ص: 207 ] أوجه : ، أصحها : باتفاق الأصحاب لا يستحب له الإعادة ، بل المستحب تركها ( والثاني ) : يستحب الإعادة . ، وهذان الوجهان ذكرهما المصنف بدليليهما ، وذكرهما هكذا أيضا أكثر الأصحاب ( الثالث ) : يكره الإعادة وبه قطع الفوراني وصاحب العدة وغيرهما .

( والرابع ) حكاه البغوي إن صلى أولا منفردا أعاد ، وإن صلى جماعة فلا ( والصحيح ) : الأول ، صححه الأصحاب في جميع الطرق وقطع به صاحب الحاوي والقاضي حسين وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم . وادعى إمام الحرمين في النهاية اتفاق ، الأصحاب عليه ، فعلى هذا لو صلى ثانيا صحت صلاته ، وإن كانت غير مستحبة ، هذا هو المشهور في كتب الأصحاب . وقال إمام الحرمين : ظاهر كلام الأصحاب أنها صحيحة . قال : وعندي في بطلانها احتمال والمذهب صحتها ، فعلى هذا قال المصنف والجمهور : تقع نفلا . وقال القاضي حسين إذا صلى تقع صلاته الثانية فرض ، كفاية ولا تكون نفلا كما لو صلت جماعة بعد جماعة فصلاة الجميع تقع فرضا ، قال صاحب التتمة تنوي الطائفة بصلاتهم الفرض ; لأن فعل غيرهم أسقط عنهم الحرج لا الفرض ، وبسط إمام الحرمين رحمه الله هذا بسطا حسنا فقال " إذا صلى على الميت جمع يقع الاكتفاء ببعضهم " فالذي ذهب إليه الأئمة أن صلاة كل واحدة تقع فريضة ، وليس بعضهم بأولى بوصفه بالقيام بالغرض من بعضهم ، فوجب الحكم بالفريضة للجميع ، قال : ويحتمل أن يقال هو كإيصال المتوضئ الماء إلى جميع رأسه دفعة ، وقد اختلفوا في أن الجميع فرض ؟ أم الفرض ما يقع عليه الاسم فقط ؟ قال : ولكن قد يتخيل الفطن فرقا ويقول مرتبة الفرضية فوق مرتبة السنة وكل مصل في الجمع الكبير ينبغي أن لا يحرم رتبة الفرضية ، وقد قام بما أمر به ، وهذا لطيف لا يقع مثله ، قال : ثم قال الأئمة : إذا صلت طائفة ثانية كانت كصلاتهم مع الأولين في جماعة واحدة . وأما قول المصنف " وصلاة الجنازة لا يتنفل بمثلها " فمعناه لا يجوز الابتداء بصورتها من غير جنازة بخلاف صلاة الظهر ، فإنه يصلي مثل صورتها ابتداء بلا سبب . ولكن هذا الذي قاله ينتقض بصلاة النساء على الجنازة [ ص: 208 ] فإنهن إذا صلين على الجنازة مع الرجال وقعت صلاتهن نافلة ، وهي صحيحة ، وقد سبق هذا في المسألة الثانية والله أعلم .

( الرابعة ) : إذا حضر من لم يصل عليه بعد دفنه وأراد الصلاة عليه في القبر أو أراد الصلاة عليه في بلد آخر جاز بلا خلاف للأحاديث السابقة في المسألة الثانية .

وإلى متى تجوز الصلاة على المدفون ؟ فيه ستة أوجه : ( أحدها ) : يصلى عليه إلى ثلاثة أيام ولا يصلى بعدها ، حكاه الخراسانيون وهو المشهور عندهم ( والثاني ) : إلى شهر ( والثالث ) : ما لم يبل جسده ( والرابع ) : يصلي عليه من كان من أهل فرض الصلاة عليه يوم موته ( والخامس ) : يصلي من كان من أهل الصلاة عليه يوم موته ، وإن لم يكن من أهل الفرض فيدخل الصبي المميز . وممن حكى هذا الوجه للمصنف في التنبيه صححه البندنيجي ( والسادس ) : يصلى عليه أبدا ، فعلى هذا تجوز الصلاة على قبور الصحابة رضي الله عنهم ومن قبلهم اليوم ، واتفق الأصحاب على تضعيف هذا السادس . وممن صرح بتضعيفه الماوردي والمحاملي والفوراني وإمام الحرمين والبغوي والغزالي في البسيط وآخرون ، وإن كان في كلام صاحب التنبيه إشارة إلى ترجيحه فهو مردود مخالف للأصحاب وللدليل . واختلفوا في الأصح من الأوجه ( فصحح ) الماوردي وإمام الحرمين والجرجاني الثالث ، وصحح الجمهور أنه يصلي عليه من كان من أهل فرض الصلاة عليه ممن صرح بتصحيحه الشيخ أبو حامد والفوراني والبغوي والرافعي وآخرون قالوا : وهو قول أبي زيد المروزي ، فعلى هذا الوجه لو كان يوم الموت كافرا ثم أسلم .

قال إمام الحرمين : الذي أراه أنه يصلي ; لأنه كان متمكنا من الصلاة بأن يسلم فهو كالمحدث . قال : والمرأة إذا كانت حائضا يوم الموت طهرت فالحيض ينافي وجوب الصلاة وصحتها ، ولكن هي في الجملة مخاطبة ، فالذي أراه أنها تصلي . هذا كلام الإمام ، وكذا قطع الغزالي في البسيط بأن الكافر والحائض يوم الموت إذا أسلم وطهرت صليا ، وهذا الذي قالاه مخالف لظاهر كلام الأصحاب ، فإن الكافر والحائض ليس من أهل الصلاة . وقد قالوا : لا يصلي [ ص: 209 ] من لم يكن من أهل فرض الصلاة أو من لم يكن من أهل الصلاة حال الموت . وقد صرح المتولي بأنهما لا يصليان ، وقال الشيخ أبو حامد في حكاية هذا الوجه : يصلي عليه من كان مخاطبا بالصلاة عليه يوم موته وجوبا أو ندبا من رجل وامرأة وعبد ، فأما من بلغ بعده فلا . واحتج المتولي لهذا الوجه بأن حكم الخطاب يتعلق بكل من هو من أهل الصلاة ، وفعل غيرهم لم يسقط الفرض في حقهم وإنما أسقط الحرج ، وإذا قلنا يصلى عليه ما لم يبل جسده . قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه الفروق والسرخسي وغيرهما من أصحابنا : المراد ما لم يبق من بدنه شيء لا لحم ولا عظم ، فمتى بقي عظم صلى . قال أصحابنا رحمهم الله : ويختلف هذا باختلاف البقاع فلو شككنا في انمحاق أجزائه صلى ; لأن الأصل بقاؤه .

هكذا صرح به كثيرون ، وهو مقتضى عبارة الباقين ، فإن الشيخ أبا حامد في تعليقه والمحاملي في التجريد والصيدلاني والقاضي حسينا وآخرين ، قالوا : يصلى عليه ما لم يعلم أنه بلي وذهبت أجزاؤه . وقال إمام الحرمين والغزالي في البسيط : فيه احتمالان ( أحدهما ) : هذا ( والثاني ) : لا يصلى ; لأن صحة الصلاة على هذا الوجه متوقفة على العلم ببقاء شيء منه . وعبارة المحاملي في المجموع توافق هذا ، فإنه قال : يصلى ما دام يعلم أن في القبر منه شيئا ، والمذهب الأول . قال أصحابنا رحمهم الله : وإذا قلنا بالوجه الضعيف أنه يصلى أبدا فهل تجوز الصلاة على قبر نبينا وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ؟ فيه وجهان مشهوران على هذا الوجه ( أصحهما : ) عند الخراسانيين والماوردي أنه لا تجوز الصلاة . قال إمام الحرمين : وهو قول جماهير الأصحاب ، وبهذا قطع البندنيجي وآخرون .

( والثاني ) : وهو قول أبي الوليد النيسابوري من متقدمي أصحابنا أنه يصلى عليه فرادى لا جماعة . قال : والنهي الوارد في الأحاديث الصحيحة إنما هو عن الصلاة عليه جماعة ، وكان أبو الوليد يقول : أنا أصلي اليوم على قبور الأنبياء والصالحين وبهذا الوجه الذي قاله أبو الوليد قطع القاضي [ ص: 210 ] أبو الطيب في كتابيه التعليق والمجرد ، والمحاملي في التجريد ، ورجحه الشيخ أبو حامد في تعليقه ، والأول أصح . والله أعلم .

( فرع ) إذا دفن من غير صلاة قال أصحابنا يأثم الدافنون ، وكل من توجه عليه فرض هذه الصلاة من أهل تلك الناحية ; لأن تقديم الصلاة على الدفن واجب . وإن كانت الصلاة على القبر تسقط الفرض إلا أنهم يأثمون ، صرح به إمام الحرمين والأصحاب ولا خلاف فيه . قال أصحابنا : لكن لا ينبش بل يصلى على القبر ; لأن نبشه انتهاك له والصلاة على القبر تجزئه . هكذا قاله الأصحاب . وحكى الرافعي وجها أنه لا يسقط الفرض بالصلاة على القبر وهو ضعيف أو غلط .

( فرع ) في مذاهب العلماء فيمن فاته الصلاة على الميت ذكرنا أن مذهبنا أنه يصلي على القبر . ونقلوه عن علي وغيره من الصحابة رضي الله عنهم . قال ابن المنذر رحمه الله : وهو قول ابن عمر وأبي موسى وعائشة وابن سيرين والأوزاعي وأحمد . وقال النخعي ومالك وأبو حنيفة : لا يصلى على الميت إلا مرة واحدة . ولا يصلى على القبر إلا أن يدفن بلا صلاة ، إلا أن يكون الولي غائبا فصلى غيره عليه ودفن فللولي أن يصلي على القبر . وقال أبو حنيفة رحمه الله : لا يصلى على القبر بعد ثلاثة أيام من دفنه ، وقال أحمد رحمه الله إلى شهر . وإسحاق إلى شهر للغائب وثلاثة أيام للحاضر . دليلنا في الصلاة على القبر وإن صلى عليه الأحاديث السابقة في المسألة الثانية .

التالي السابق


الخدمات العلمية