صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يدفن ميت في موضع فيه ميت إلا أن يعلم أنه قد بلي ، ولم يبق منه شيء ، ويرجع فيه إلى أهل الخبرة بتلك الأرض ولا يدفن في قبر واحد اثنان " لأن { النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن في كل قبر إلا واحدا } فإن دعت إلى ذلك ضرورة جاز ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع الاثنين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول : أيهما كان أكثر أخذا للقرآن ، فإذا أشير إلى أحدهما قدمه إلى اللحد ، وإن دعت ضرورة أن يدفن مع امرأة رجل جعل بينهما حائل من التراب وجعل الرجل أمامها اعتبارا بحال الحياة ) .


( الشرح ) قوله : { إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن في كل قبر إلا واحدا } هذا صحيح معروف في الأحاديث الصحيحة والمراد به في حال الاختيار ( وأما ) قوله : لأن { النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الاثنين من قتلى أحد } إلى آخره فرواه البخاري رحمه الله من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه ( أما الأحكام ) ففيه مسألتان : ( إحداهما ) لا يجوز أن يدفن ميت في موضع ميت حتى يبلى الأول ، بحيث لا يبقى منه شيء لا لحم ولا عظم . وهذا الذي ذكرناه من المنع من [ ص: 247 ] دفن ميت على ميت هو منع تحريم ، صرح به أصحابنا ، ممن صرح بتحريمه وأما قول الرافعي رحمه الله : المستحب في حال الاختيار أن يدفن كل إنسان في قبر ، فمتأول على موافقة الأصحاب ، قال أصحابنا رحمهم الله : ويستدام المنع مهما بقي من الميت شيء من لحم أو عظم ، وقد صرح المصنف بهذا في قوله : ولم يبق منه شيء . فأما إذا بلي ولم يبق عظم ، بل انمحق جسمه وعظمه وصار ترابا ، فيجوز بعد ذلك الدفن في موضعه بلا خلاف ، قال القاضي حسين والبغوي والمتولي وسائر الأصحاب رحمهم الله : ولا يجوز بعد البلى أن يسوى عليه التراب ، ويعمر عمارة قبر جديد إن كان في مقبرة مسبلة ، لأنه يوهم الناس أنه جديد فيمتنعون من الدفن فيه ، بل يجب تركه خرابا ليدفن فيه من أراد الدفن ، قال المصنف والأصحاب رحمهم الله : والرجوع في مدة البلى إلى أهل الخبرة بتلك الناحية والمقبرة ، قالوا : فلو حفره فوجد فيه عظام الميت أعاد القبر ، ولم يتمم حفره ، قال أصحابنا : إلا أن الشافعي رحمه الله قال : فلو فرغ من القبر وظهر فيه شيء من العظام لم يمتنع أن يجعل في جنب القبر ، ويدفن الثاني معه وكذا لو دعت الحاجة إلى دفن الثاني مع العظام دفن معها .

( المسألة الثانية ) لا يجوز أن يدفن رجلان ولا امرأتان في قبر واحد من غير ضرورة ، وهكذا صرح السرخسي بأنه لا يجوز ، وعبارة الأكثرين لا يدفن اثنان في قبر كعبارة المصنف ، وصرح جماعة بأنه يستحب أن لا يدفن اثنان في قبر . أما إذا حصلت ضرورة بأن كثر القتلى أو الموتى في وباء أو هدم وغرق أو غير ذلك وعسر دفن كل واحد في قبر فيجوز دفن الاثنين والثلاثة وأكثر في قبر ، بحسب الضرورة للحديث المذكور ، قال أصحابنا : وحينئذ يقدم في القبر أفضلهم إلى القبلة ، فلو اجتمع رجل وصبي وامرأة قدم إلى القبلة الرجل ، ثم الصبي ، ثم الخنثى ، ثم المرأة . قال أصحابنا : ويقدم الأب على الابن ، وإن كان الابن أفضل لحرمة الأبوة ، وتقدم الأم على البنت ، ولا يجوز الجمع بين المرأة والرجل في قبر إلا عند تأكد الضرورة ، ويجعل حينئذ بينهما تراب ليحجز بينهما بلا خلاف ، ويقدم إلى القبلة الرجل وإن كان ابنا وإذا دفن [ ص: 248 ] رجلان أو امرأتان في قبر لضرورة فهل يجعل بينهما تراب ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) وبه قطع جماهير العراقيين ونص عليه الشافعي في الأم : يجعل ، ( والثاني ) لا يجعل وبهذا قطع جماعة من الأصحاب ، والله أعلم . قال الشافعي والأصحاب : ولو مات جماعة من أهله وأمكنه دفنهم واحدا واحدا ، فإن خشى تغير أحدهم بدأ به ، ثم بمن يخشى تغيره بعده ، وإن لم يخش تغير أحد بدأ بأبيه ثم أمه ثم الأقرب فالأقرب ، فإن كانا أخوين قدم أكبرهما . فإن استويا أو كانتا زوجتين أقرع ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية