صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( المستحب أن يعمق القبر قدر قامة وبسطة ، لما روي أن عمر رضي الله عنه " أوصى أن يعمق القبر قدر قامة وبسطة " ويستحب أن يوسع من قبل رجليه ورأسه ، لما روي أن { النبي صلى الله عليه وسلم قال للحافر أوسع من قبل رأسه ، وأوسع من قبل رجليه } فإن كانت الأرض صلبة ألحد ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم { : اللحد لنا والشق لغيرنا } وإن كانت رخوة شق الوسط ) .


( الشرح ) حديث " { أوسع من قبل رأسه وأوسع من قبل رجليه } رواه أبو داود في كتاب البيوع من سننه ، والبيهقي في الجنائز وغيرهما من رواية عاصم بن كليب بن شهاب عن أبيه ، وهو تابعي عن رجل من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإسناده صحيح ، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من رواية هشام بن عامر رضي الله عنهما أن { النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم يوم أحد : احفروا وأوسعوا وأعمقوا } قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح . وأما حديث " اللحد لنا والشق لغيرنا " فرواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم من رواية ابن عباس ، وإسناده ضعيف ، لأن مداره على عبد الأعلى بن عامر وهو ضعيف عند أهل الحديث ، ورواه الإمام أحمد بن حنبل وابن ماجه أيضا من رواية جرير بن عبد الله البجلي وإسناده أيضا ضعيف ، وفي رواية لأحمد في حديث جرير { والشق لأهل الكتاب } ويغني عنه حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه { أنه قال في مرضه الذي مات فيه : ألحدوا لي لحدا وانصبوا على اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم } رواه مسلم في صحيحه .

قال أهل اللغة : يقال : لحدت للميت وألحدت له لغتان ، وفي اللحد لغتان - فتح اللام وضمها - وهو أن يحفر في حائط من أسفله إلى ناحية القبلة [ ص: 251 ] قدر ما يوضع الميت فيه ويستره ، والشق - بفتح الشين - أن يحفر إلى أسفل كالنهر وقوله : يعمق هو بالعين المهملة ، وقوله : رخوة - بكسر الراء وفتحها - والكسر أفصح وأشهر .

( أما الأحكام ) ففيه مسائل : ( إحداها ) يستحب أن يعمق القبر لحديث هشام بن عامر الذي ذكرناه ، ويستحب أن يكون عمقه قامة وبسطة لما ذكره المصنف . هذا هو المشهور الذي قطع به الأصحاب في كل طرقهم ، إلا وجها حكاه الرافعي وغيره أنه قامة بلا بسطة ، وهذا شاذ ضعيف ، ومعنى القامة والبسطة أن يقف فيه رجل معتدل القامة ويرفع يديه إلى فوق رأسه ما أمكنه . وقدر أصحابنا القامة والبسطة بأربع أذرع ونصف . هذا هو المشهور في قدرهما ، وبه قطع الجمهور في مصنفاتهم ، ونقله صاحب البيان عن الأصحاب ، وقطع المحاملي في المجموع بأنهما ثلاث أذرع ونصف ، وبهذا جزم الرافعي ، وهو شاذ مردود ، وعجب من جزم الرافعي به وإعراضه عما جزم به الجمهور ; وهو أربعة أذرع ونصف ، وممن جزم بأربع أذرع ونصف البندنيجي وصاحب الشامل والباقون . وقد سبق أن صاحب البيان نقله عن الأصحاب .

وذكر الشافعي والشيخ أبو حامد والأصحاب لاستحباب تعميقه ثلاث فوائد أن لا ينبشه سبع ولا تظهر رائحته ، وأن يتعذر أو يتعسر نبشه على من يريد سرقة كفنه ، وأما أقل ما يجزئ من الدفن فقال إمام الحرمين والغزالي ، والرافعي وغيرهم رحمهم الله : أقله حفرة تكتم رائحة الميت ، ويعسر على السباع غالبا نبشه ، والوصول إلى الميت .

( الثانية ) يستحب أن يوسع القبر من قبل رجليه ورأسه .

( الثالثة ) أجمع العلماء أن الدفن في اللحد وفي الشق جائزان ، لكن إن كانت الأرض صلبة لا ينهار ترابها فاللحد أفضل ، لما سبق من الأدلة ، وإن كانت رخوة تنهار فالشق أفضل . قال الشافعي في الأم وأصحابنا : فإن اختار الشق حفر حفيرة كالنهر وبنى جانبيها باللبن أو غيره ، وجعل بينهما شقا يوضع فيه الميت ويسقف عليه باللبن أو الخشب أو غيرهما ويرفع السقف قليلا بحيث لا يمس الميت ، ويجعل في شقوقه قطع اللبن ، قال الشافعي في [ ص: 252 ] الأم : ورأيتهم عندنا ، يعني في مكة شرفها الله يضعون على السقف الإذخر ثم يضعون عليه التراب ، وهذا الذي ذكرته من صفة الشق واللحد نص عليه الشافعي في الأم ، واتفق عليه الأصحاب .

( فرع ) : قال المصنف في الفصل الثاني لما بعد هذا : وسائر الأصحاب يكره أن يدفن الميت في تابوت إلا إذا كانت الأرض رخوة أو ندية ، قالوا : ولا تنفذ وصيته به إلا في مثل هذا الحال ، قالوا : ويكون التابوت من رأس المال صرح به البغوي وغيره ، وهذا الذي ذكرناه من كراهة التابوت مذهبنا ومذهب العلماء كافة وأظنه إجماعا ، قال العبدري رحمه الله : لا أعلم فيه خلافا يعني لا خلاف فيه بين المسلمين كافة والله أعلم .

( فرع ) : في مذاهب العلماء في تعميق القبر قد ذكرنا أن مذهبنا استحباب تعميقه قامة وبسطة ، وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب ، وعن عمر بن عبد العزيز والنخعي أنهما قالا : يعمق إلى السرة ، قال : واستحب مالك رحمه الله أنه لا يعمق جدا ولا يقرب من أعلاه والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية