صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( الأولى أن يتولى الدفن الرجال ، لأنه يحتاج إلى بطش وقوة . وكان الرجال أحق ، وأولاهم بذلك أولاهم بالصلاة عليه ، لأنهم أرفق به . وإن كانت امرأة فزوجها أحق بدفنها لأنه أحق بغسلها ، فإن لم يكن لها زوج فالأب ، ثم الجد ، ثم الابن ، ثم ابن الابن ، ثم الأخ ، ثم ابن الأخ ، ثم العم ، فإن لم يكن لها ذو رحم محرم ولها مملوك كان المملوك أولى من ابن العم ، لأنه كالمحرم ، والخصي أولى من الفحل ، وإن لم يكن مملوك فابن العم ثم أهل الدين من المسلمين ، والمستحب أن يكون عدد الذي يدفن وترا ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم " دفنه علي والعباس وأسامة رضي الله عنهم " والمستحب أن يسجى القبر بثوب عند الدفن ، لأن { النبي صلى الله عليه وسلم ستر قبر سعد بن معاذ رضي الله عنه بثوب لما دفنه } ) .


( الشرح ) قوله لأن النبي صلى الله عليه وسلم دفنه علي والعباس وأسامة هذا الحديث رواه أبو داود والبيهقي وغيرهما وأسانيده مختلفة فيها [ ص: 253 ] ضعف ، وليس في رواية أبي داود ذكر العباس ، وإنما فيها علي والفضل وأسامة وأن عبد الرحمن بن عوف دخل معهم وصاروا أربعة ، وفي بعض روايات البيهقي عن علي رضي الله عنه قال : " ولي دفن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة علي والعباس والفضل وصالح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي رواية عن ابن عباس " كانوا أربعة : علي والفضل وقثم بن العباس وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل معهم خامس وكانوا خمسة " وشقران - بضم الشين المعجمة - وإسكان القاف هو صالح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقبه شقران . وأما حديث ستر قبر سعد بن معاذ فرواه البيهقي من رواية ابن العباس رضي الله عنهم بإسناد ضعيف ( أما الأحكام ) ففيه مسائل : ( إحداها ) قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله : الأولى أن يتولى الدفن الرجال ، سواء كان الميت رجلا أو امرأة ، وهذا لا خلاف فيه وعللوه بعلتين ( إحداهما ) التي ذكرها المصنف أن الرجال أقوى وأشد بطشا ( والثانية ) أن المرأة لو تولت ذلك أدى إلى انكشاف بعض بدنها . قال صاحب البيان : قال الصيدلاني : ويتولى النساء حمل المرأة من المغتسل إلى الجنازة وتسليمها إلى من في القبر لأنهن يقدرن على ذلك ، قال : وكذلك يتولى النساء حل ثيابها في القبر ، قال صاحب البيان : ولم أر هذا لغير الصيدلاني وهذا الذي قاله صاحب البيان عجيب ، وليس قول الصيدلاني منكرا ، بل هو الحق والصواب ، وقد نص عليه الشافعي في الأم في باب الدفن فقال : وستر المرأة إذا أدخلت قبرها آكد من ستر الرجل ، وتسل كما يسل الرجل ، قال : وإن ولي إخراجها من مغتسلها وحل عقد ثياب إن كانت عليها ، وتعاهدها النساء فحسن ، وإن وليه الرجال فلا بأس هذا نصه وقد جزم البندنيجي وغيره وحكوا استحبابه عن نص الشافعي رحمه الله .

ومما يحتج به من الأحاديث في كون الرجال هم الذين يتولون الدفن ، وإن كان الميت امرأة ، حديث أنس رضي الله عنه قال { شهدنا بنت النبي صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر فقال : منكم رجل لم يقارف الليلة ؟ فقال أبو طلحة رضي الله عنه أنا ، قال : فانزل ، فنزل في قبرها } رواه البخاري رحمه الله قيل : معناه لم يقارف أهله أي لم يجامع . وقيل : لم يقارف ذنبا [ ص: 254 ] ذكره البخاري عن ابن مبارك عن فليح ، والأول أرجح ، ويؤيده حديث أنس أن { رقية لما ماتت قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل القبر رجل قارف الليلة أهله فلم يدخل عثمان بن عفان القبر } رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ، ومعلوم أن أبا طلحة رضي الله عنه أجنبي من بنات النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه كان من صالحي الحاضرين . ولم يكن لها هناك رجل محرم إلا النبي صلى الله عليه وسلم فلعله كان له عذر في عدم نزول قبرها ، وكذا زوجها ، ومعلوم أنها كانت أختها فاطمة وغيرها من محارمها وغيرهن هناك ، فدل على أنه لا مدخل للنساء في إدخال القبر والدفن .

( المسألة الثانية ) قال أصحابنا : أولى الرجال بالدفن أولاهم بالصلاة على الميت من حيث الدرجة والقرب لا من حيث الصفات ، لأن الترجيح بالصفات في الصلاة على الميت مخالف للترجيح بها في الدفن ، لأن الأسن مقدم على الأفقه في الصلاة والأفقه مقدم على الأسن في الدفن هكذا قاله الأصحاب واتفقوا عليه ، وهذه المسألة مما أنكر على المصنف وعدها صاحب البيان في مشكلات المهذب من حيث إن المصنف أطلق أن من قدم في الصلاة قدم في الدفن ، والأسن مقدم في الصلاة على الأفقه وهو في الدفن عكسه ، والمختار أنها لا تعد مشكلة ، ولا عتب على المصنف لأن مراده الترتيب في الدرجات لا بيان الصفات ، فيقدم الأب ثم الجد ثم أب الأب ثم آباؤه ، ثم الابن ثم ابنه وإن سفل ، ثم الأخ ثم ابنه ثم العم ، وهل يقدم من يدلى بأبوين على مدل بالأب ؟ فيه الخلاف السابق في الصلاة على الميت ، فإن استوى اثنان في درجة قدم أفقههما ، وإن كان غيره أسن ، نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب . قال صاحب الحاوي وغيره : المراد بالأفقه هنا أعلمهم بإدخال الميت القبر لا أعلمهم بأحكام الشرع جملة قال الشيخ أبو حامد والمحاملي وآخرون : لو كان له قريبان أحدهما أقرب وليس بفقيه والآخر بعيد وهو فقيه ، قدم الفقيه لأنه يحتاج إلى الفقه ، وهذا متفق عليه .

أما إذا كان الميت امرأة لها زوج صالح للدفن فهو مقدم على الأب والابن وسائر الأقارب ، نص عليه الشافعي وقطع به الجمهور . وذكر صاحب الحاوي فيه وجهين ( أحدهما ) [ ص: 255 ] هذا ( والثاني ) أن الأب يقدم عليه كالوجهين في غسلها ، وتعليل المصنف ومن وافقه في التعليل يشير إلى موافقة صاحب الحاوي في جريان وجه في المسألة ، وكلام المصنف في التنبيه مصرح أو كالمصرح بذلك في قوله في الدفن ، والأولى أن يتولى ذلك من يتولى غسله ، لكن عليه إنكار في إطلاقه ، لأنه يقتضي دخول النساء في دفن المرأة فإنهن أحق بغسلها ، وقد سبق أنه لا خلاف أنهن لا حق لهن في الدفن ، والله أعلم . قال أصحابنا رحمهم الله : فإن لم يكن هناك محرم لها من العصبات تولى دفنها محارمها من ذوي الأرحام ، كأبي الأم والخال والعم للأم ، فإن لم يكن أحد منهم فعبدها . هذا إذا قلنا بالأصح المنصوص إن العبد كالمحرم في جواز النظر ، وإن قلنا بالضعيف أنه كالأجنبي ، فظاهر كلام المصنف وتعليله وتعليل الأصحاب أنه كالأجنبي ، فإن لم يكن لها عبد فالخصيان الأجانب أولى لضعف شهوتهم ، فإن فقدوا فذوو الأرحام الذين ليسوا محارم ، كابن العم ، فإن فقدوا فأهل الصلاح من الأجانب . قال إمام الحرمين رحمه الله : وما أدري تقديم ذوي الأرحام محتوما بخلاف المحارم لأنهم كالأجانب في وجوب الاحتجاب عنهم ومنعهم من النظر ، وشذ صاحب العمدة أبو المكارم فقدم نساء القرابة على الرجال الأجانب ، وهذا شاذ مردود مخالف لنص الشافعي ولما قطع به الأصحاب ، بل مخالف لحديث أبي طلحة المذكور في المسألة الأولى والله أعلم .

( المسألة الثالثة ) يستحب كون الدافنين وترا ، فإن حصلت الكفاية بواحد وإلا فثلاثة وإلا فخمسة إن أمكن واحتيج إليه ، وهذا متفق عليه .

( المسألة الرابعة ) يستحب أن يسجى القبر بثوب عند الدفن ، سواء كان الميت رجلا أو امرأة . هذا هو المشهور الذي قطع به الأصحاب . قالوا : والمرأة آكد . وحكى الرافعي وجها أن الاستحباب مختص بالمرأة ، واختاره أبو الفضل بن عبدان من أصحابنا ، وهو مذهب أبي حنيفة ، واحتجوا للمذهب بالحديث لكنه ضعيف ، ولأنه أستر فربما ظهر ما يستحب إخفاؤه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية