صفحة جزء
[ ص: 256 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويستحب أن يضع رأس الميت عند رجل القبر ، ثم يسل فيه سلا ، لما روى ابن عباس رضي الله عنه : { أن النبي صلى الله عليه وسلم سل من قبل رأسه سلا } ولأن ذلك أسهل ، ويستحب أن يقول عند إدخاله القبر : بسم الله وعلى ملة رسول الله ، لما روى ابن عمر : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله إذا أدخل الميت القبر } ويستحب أن يضجع في اللحد على جنبه الأيمن لقوله صلى الله عليه وسلم { إذا نام أحدكم فليتوسد يمينه } ولأنه يستقبل القبلة [ فكان ] أولى [ و ] أن يوسد رأسه بلبنة أو حجر كالحي إذا نام ، ويجعل خلفه شيئا يسنده من لبن أو غيره ، حتى لا يستلقي على قفاه ويكره أن يجعل تحته مضربة أو مخدة أو في تابوت لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال " إذا أنزلتموني في اللحد فأفضوا بخدي إلى الأرض " وعن أبي موسى رضي الله عنه " لا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئا " وينصب اللبن [ على اللحد ] نصبا لما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال " اصنعوا بي كما صنعتم برسول الله صلى الله عليه وسلم انصبوا علي اللبن وهيلوا علي التراب " ويستحب لمن على شفير القبر أن يحثوا في القبر ثلاث حثيات من تراب ، لأن { النبي صلى الله عليه وسلم حثا في قبر ثلاث حثيات } ويستحب أن يمكث على القبر بعد الدفن لما روى عثمان رضي الله عنه قال { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل يقف عليه وقال : استغفروا لأخيكم واسألوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل } ) .


( الشرح ) حديث ابن عباس رضي الله عنهما رواه الشافعي في الأم والبيهقي بإسناد صحيح ، إلا أن الشافعي رحمه الله قال فيه : أخبرنا الثقة ، وقد اختلف العلماء في الاحتجاج بقول الراوي : أخبرنا الثقة ، واختار بعض أصحابنا المحققين الاحتجاج إن كان القائل ممن يوافقه في المذهب والجرح والتعديل ، فعلى هذا يصح احتجاج أصحابنا بهذا الحديث . وأما حديث ابن عمر فرواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن . وفي رواية للترمذي سنة بدل ملة .

وأما حديث { إذا نام أحدكم فليتوسد يمينه } فغريب بهذا اللفظ ، [ ص: 257 ] وهو صحيح بمعناه عن البراء بن عازب قال { قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل : اللهم أسلمت نفسي إليك إلى آخره } رواه البخاري ومسلم . وأما حديث سعد بن أبي وقاص فرواه مسلم بلفظه إلا قوله " وهيلوا علي التراب " وأما حديث " حثى في القبر ثلاث حثيات " فرواه البيهقي من رواية عامر بن ربيعة { أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم حثى بيده ثلاث حثيات من التراب ، وهو قائم على قبر عثمان بن مظعون } . قال البيهقي رحمه الله : وإسناده ضعيف إلا أن له شاهدا رواه ابن ماجه بإسناده عن أبي هريرة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم حثى من قبل رأسه " فيكون الحثي من قبل رأسه مستحسنا ، فإن الحديث جيد الإسناد كما ذكرنا . وأما حديث عثمان فرواه أبو داود والبيهقي بإسناد جيد . وقوله " هيلوا علي التراب " بكسر الهاء على وزن بيعوا . يقال : هاله يهيله ، وفي الأمر هله ، ومعناه انثروا وصبوا ، ويقال حثى يحثي وحثيت حثيا ، وحثا يحثو وحثوت حثوا بالثاء والواو ، لغتان مشهورتان حكاهما ابن السكيت وعن أبي عبيدة وآخرين ، وشفير القبر طرفه . وقوله في الحديث " واسألوا الله له التثبيت " وقع في بعض نسخ المهذب التثبيت وفي بعضها التثبت بحذف الياء مع تشديد الباء الموحدة ، وكلاهما روي في كتب الحديث ، وهما صحيحان .

( أما الأحكام ) ففيه مسائل : ( إحداها ) يستحب أن يوضع رأس الميت عند رجل القبر وهو طرفه الذي يكون فيه رجل الميت ، ثم يسل من قبل رأسه سلا رفيقا .

( الثانية ) يستحب أن يقول الذي يدخله القبر عند إدخاله القبر : بسم الله وعلى ملة رسول الله ، أو على سنة رسول صلى الله عليه وسلم قال الشافعي في المختصر : ثم يقول : اللهم أسلمه إليك الأشحاء من ولده وأهله وقرابته وإخوانه ، وفارق من كان يحب قربه وخرج من سعة الدنيا والحياة إلى ظلمة القبر وضيقه ، ونزل بك وأنت خير منزول به إن عاقبته فبذنب وإن عفوت [ ص: 258 ] فأهل العفو أنت ، غني عن عذابه وهو فقير إلى رحمتك اللهم اشكر حسنته واغفر سيئته ، وأعذه من عذاب القبر ، واجمع له برحمتك الأمن من عذابك واكفه كل هول دون الجنة اللهم اخلفه في تركته في الغابرين وارفعه في عليين وعد عليه برحمتك يا أرحم الراحمين . هذا كلام الشافعي رحمه الله . قال الأصحاب : يستحب أن يدعو بهذا فإن لم يفعل فبغيره واتفقوا على استحباب الدعاء هنا .

( الثالثة ) يجب وضع الميت في القبر مستقبل القبلة ، هذا هو المذهب ، وبه قطع الجمهور ، وقد ذكره المصنف بعد هذا في الفصل الأخير في مسألة من دفن بغير غسل أو إلى غير القبلة نبش ، وقال القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد : استقبال القبلة به مستحب ليس بواجب والصحيح الأول ، واتفقوا على أنه يستحب أن يضجع على جنبه الأيمن ، فلو أضجع على جنبه الأيسر مستقبل القبلة جاز ، وكان خلاف الأفضل لما سبق في المصلي مضطجعا ، والله أعلم .

( الرابعة ) يستحب أن يوسد رأسه لبنة أو حجرا ونحوهما ، ويفضى بخده الأيمن إلى اللبنة ونحوها أو إلى التراب ، وقد صرح المصنف في التنبيه والأصحاب بالإفضاء بخده إلى التراب ومعناه أن ينحى الكفن عن خده ويوضع على التراب ويستحب أن يجعل خلفه شيئا من لبن أو غيره يسنده ويمنعه من أن يقع على قفاه .

( الخامسة ) يكره أن يجعل تحته مخدة أو مضربة أو ثوب أو يجعل في تابوت إذا لم تكن الأرض ندية واتفق أصحابنا على كراهة هذه الأشياء ، والكراهة في التابوت مختصة بما إذا لم يتعذر اجتماعه في غيره فإن تعذر اتخذ التابوت كما صرح به الشيخ نصر وغيره وقد سبق قبل هذا الفصل تعليل أن التابوت مكروه إلا أن تكون الأرض رخوة أو ندية ، وأنه لا تنفذ وصيته فيه إلا في هذا الحال ، وأنه من رأس المال ، ثم هذا الذي ذكرناه من كراهة المخدة والمضربة وشبهها ، هكذا نص عليه أصحابنا في جميع الطرق ونص عليه الشافعي أيضا وخالفهم صاحب التهذيب فقال : لا بأس أن يبسط تحت جنبه شيء لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال " جعل في قبر النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 259 ] قطيفة حمراء " رواه مسلم ، وهذا الذي ذكره شذوذ ومخالف لما قاله الشافعي والأصحاب وغيرهم من العلماء وأجابوا عن حديث ابن عباس بأنه لم يكن ذلك الفعل صادرا من جملة الصحابة ، ولا برضاهم ولا بعلمهم وإنما فعله شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ( كرهت أن يلبسها أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وقد روى البيهقي عن ابن عباس أنه كره أن يجعل تحت الميت ثوب في قبره والله أعلم .

( السادسة ) إذا وضعه في اللحد على الصفة السابقة ، فالسنة أن ينصب اللبن على المنفتح من اللحد بحيث يسد جميع المنفتح ويسد الفرج بقطع اللبن ونحوه ، ويسد الفرج اللطاف بحشيش أو نحوه وقال جماعة من أصحابنا : أو بطين والله أعلم .

( السابعة ) يستحب لكل من على القبر أن يحثي عليه ثلاث حثيات تراب بيديه جميعا بعد الفراغ من سد اللحد ، وهذا الذي ذكرته من الحثي باليدين جميعا نص عليه الشافعي في الأم ، واتفق الأصحاب عليه وممن صرح به شيخ الأصحاب الشيخ أبو حامد والماوردي والقاضي أبو الطيب وسليم الرازي والبغوي وصاحب العدة وآخرون قال القاضي حسين والمتولي وآخرون : يستحب أن يقول في الحثية الأولى { منها خلقناكم } وفي الثانية { وفيها نعيدكم } وفي الثالثة { ومنها نخرجكم تارة أخرى } وقد يستدل له بحديث أبي أمامة رضي الله عنه قال : { لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى } } رواه الإمام أحمد من رواية عبيد الله بن زحر عن علي بن زيد بن جدعان عن القاسم ، وثلاثتهم ضعفاء ، ولكن يستأنس بأحاديث [ ص: 260 ] الفضائل وإن كانت ضعيفة الإسناد ويعمل بها في الترغيب والترهيب ، وهذا منها والله أعلم . قال أصحابنا : ثم يهال عليه التراب بالمساحي ، وهو معنى ما سنذكره في الثامنة في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه .

( الثامنة ) يستحب أن يمكث على القبر بعد الدفن ساعة يدعو للميت ويستغفر له نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب ، قالوا : ويستحب أن يقرأ عنده شيء من القرآن وإن ختموا القرآن كان أفضل ، وقال جماعات من أصحابنا : يستحب أن يلقن بما سنذكره في المسائل الزائدة بعد فراغ الباب [ ص: 261 ] إن شاء الله تعالى ، ويستدل لهذا المكث والدعاء والاستغفار بحديث عثمان المذكور في الكتاب ، وبحديث عمرو بن العاص أنه قال حين حضرته الوفاة : " فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأعلم ماذا أراجع رسل ربي " رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان وهو بعض حديث طويل مشتمل على جمل من الفوائد والقواعد ( قوله ) سنوا علي التراب روي بالسين المهملة وبالعجمة ، وكلاهما صحيح ومعناهما متقارب ، وروى البيهقي بإسناده أن ابن عمر رضي الله عنهما استحب قراءة أول البقرة وآخرها عند القبر ، والله أعلم .

( فرع ) : في مذاهب العلماء في كيفية إدخال الميت القبر قد ذكرنا أن مذهبنا أن السنة أن يوضع رأسه عند رجل القبر ، ثم يسل سلا وقال أبو حنيفة : يوضع عرضا من ناحية القبلة ثم يدخل للقبر معترضا وحكى ابن المنذر عن ابن عمر وأنس بن مالك وعبد الله بن يزيد الخطمي الصحابي والشعبي والنخعي مثل مذهبنا ، وهو مذهب أحمد واختاره ابن المنذر ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابنه محمد وإسحاق بن راهويه كمذهب أبي حنيفة وقال مالك رحمه الله : كلاهما سواء ، وعنه رواية كمذهبنا . واحتج لأبي حنيفة بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل من جهة القبلة " ولأن جهة القبلة أفضل . واحتج الشافعي والأصحاب بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم " سل من قبل رأسه " وقد قدمنا أنه يحتج به وعن عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري الصحابي { أنه صلى على جنازة ثم أدخله القبر من قبل رجل القبر وقال : هذا من السنة ، } رواه أبو داود والبيهقي وقال فيه هذا إسناد صحيح . وقول الصحابي : " من السنة كذا " مرفوع ، ولأن سله من قبل رأسه هو المعروف عن جمهور الصحابة ، وهو عمل المهاجرين والأنصار بمكة والمدينة ، كذلك رواه الشافعي في الأم وغيره من العلماء عن أهل مكة والمدينة من الصحابة ومن بعدهم ، وهم بأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من غيرهم [ ص: 262 ] وأما ما احتج به الحنفية من حديث ابن مسعود وابن عباس وبريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل من قبل القبلة فكلها روايات ضعيفة رواها البيهقي وبين ضعفها ، ولا يقبل قول الترمذي في حديث ابن عباس أنه حسن ، لأنه رواه هو وغيره من رواية الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف باتفاق المحدثين ، وهذا الجواب إنما يحتاج إليه لتصور إدخاله صلى الله عليه وسلم من جهة القبلة .

وقد قال الشافعي في الأم والأصحاب : إن هذا غير ممكن . وأطنب الشافعي في الأم في الشناعة على من يقول ذلك ، ونسبه إلى الجهالة ومكابرة الحس ، وإنكار العين . قال القاضي حسين وإمام الحرمين وآخرون : هذا الذي نقلوه من أقبح الغلط لأن شق قبره صلى الله عليه وسلم لاصق بالجدار ولحده تحت الجدار ، وليس هناك موضع يوضع فيه - هذا كلام القاضي وموافقيه - ورأيت أنا في الأم مثله وزيادة . قال الشافعي : الجدار الذي تحته مثله واللحد تحت الجدار فكيف يدخل معترضا ؟ واللحد لاصق بالجدار لا يقف عليه شيء ، ولا يمكن إلا أن يسل سلا أو يدخل من غير القبلة . قال : وأمور الموتى وإدخالهم القبر من الأمور المشهورة عندنا ، لكثرة الموت وحضور الأئمة وأهل الثقة ، وهو من الأمور العامة التي يستغنى فيها عن الحديث فيكون الحديث فيها كالتكلف لاشتراك الناس في معرفتها ; ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار بين أظهرنا ، ينقل العامة عن العامة لا يختلفون في ذلك أن الميت يسل سلا ، ثم جاءنا آت من غير بلدنا يعلمنا كيف الميت ، ثم لم يرض حتى روى عن حماد عن إبراهيم أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل معترضا . هذا آخر كلام الشافعي . ورواية إبراهيم مرسلة ضعيفة . قال أصحابنا : ولأن ما قلناه أسهل فكان أولى ، وما ادعوه من استقبال القبلة فجوابه أن استقبال القبلة إنما يستحب بشرطين ، أن يمكن ولا ينابذ سنة ، وهذا ليس ممكنا ومنابذا للسنة .

( فرع ) : في مذاهبهم في ستر الميت عند إدخاله القبر بثوب قد ذكرنا أن مذهبنا استحبابه في الرجل والمرأة ، وقال أبو حنيفة ومالك [ ص: 263 ] وأحمد : يستحب في قبر المرأة دون الرجل ، وحكى ابن المنذر عن عبد الله بن بريدة وشريح : يكرهان ذلك في قبر الرجل .

التالي السابق


الخدمات العلمية