صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يزاد في التراب الذي أخرج من القبر ، فإن زادوا فلا بأس به ويشخص القبر من الأرض قدر شبر ، لما روى القاسم بن محمد قال : " دخلت على عائشة فقلت اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، فكشفت عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة " ويسطح القبر ، ويوضع عليه الحصا { لأن النبي صلى الله عليه وسلم سطح قبر ابنه إبراهيم رضي الله عنه ووضع عليه حصباء من حصباء العرصة } وقال أبو علي الطبري رحمه الله : الأولى في زماننا أن يسنم لأن التسطيح من شعار الرافضة ، وهذا لا يصح ، لأن السنة قد صحت فيه فلا يضر موافقة الرافضة فيه ، ويرش عليه الماء لما روى جابر أن { النبي صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم عليه السلام الماء } ولأنه إذا لم يرش عليه الماء زال أثره فلا يعرف ، ويستحب أن يجعل عند رأسه علامة من حجر أو غيره ، لأن { النبي صلى الله عليه وسلم دفن عثمان بن مظعون ووضع عند رأسه حجرا } ولأنه يعرف به فيزار ، ويكره أن يجصص القبر وأن يبنى عليه [ أو يقعد ] وأن يكتب عليه ، لما روى جابر قال { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يبنى عليه أو يقعد أو يكتب عليه } ولأن ذلك من الزينة ) .


( الشرح ) حديث القاسم صحيح رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح ، ورواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد ، وقوله " لا مشرفة " أي مرتفعة ارتفاعا كثيرا ، وقوله " ولا لاطئة " هو بهمز آخره أي ولا لاصقة بالأرض ، يقال لطئ ولطأ بكسر الطاء وفتحها وآخره مهموز فيهما إذا لصق . وأما حديث قبر إبراهيم ورش الماء عليه ووضع الحصباء عليه ، فرواه الشافعي في الأم والبيهقي بإسناد ضعيف . وأما حديث عثمان بن مظعون ووضع الحجر عند رأسه فسبق بيانه في الفصل الأول من الدفن . وأما حديث جابر الأخير فرواه مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم ، لكن لفظ روايتهم { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يقعد عليه } وليس فيه ذكر يكتب ، ووقع في الترمذي بزيادة " يكتب عليه وأن يوطأ " وقال : حديث حسن صحيح [ ص: 264 ] ووقع في سنن أبي داود زيادة " وأن يزاد عليه " وإسنادها صحيح ، ووقع في أكثر النسخ المعتمدة من المهذب " وأن يعقد عليه " بتقديم العين على القاف وهو تصحيف ، فإن الروايات المشهورة في صحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي وسائر كتب الحديث المشهورة يقعد ، بتقديم القاف على العين من القعود الذي هو الجلوس ، والحصباء بالمد وبالباء الموحدة وهي الحصا الصغار ، والعرصة بإسكان الراء . قال ابن فارس : كل جونة منفتقة ليس فيها بناء فهي عرصة ، والشعار بكسر الشين العلامة ، والرافضة الطائفة المبتدعة ، سموا بذلك لرفضهم زيد بن علي رضي الله عنهما ، فلزم هذا الاسم كل من غلا منهم في مذهبه والله أعلم .

( أما الأحكام ) ففيه مسائل : ( إحداها ) قال الشافعي في المختصر : يستحب أن لا يزاد القبر على التراب الذي أخرج منه ، قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله : إنما قلنا يستحب أن لا يزاد لئلا يرتفع القبر ارتفاعا كثيرا . قال الشافعي : فإن زاد فلا بأس . قال أصحابنا : معناه أنه ليس بمكروه ، لكن المستحب تركه ، ويستدل لمنع الزيادة برواية أبي داود المذكورة قريبا ، وهي قوله : وأن يزاد عليه .

( الثانية ) يستحب أن يرفع القبر عن الأرض قدر شبر ، هكذا نص عليه الشافعي والأصحاب واتفقوا عليه إلا أن صاحب التتمة استثنى فقال : إلا أن يكون دفنه في دار الحرب فيخفى قبره بحيث لا يظهر مخافة أن يتعرض له الكفار بعد خروج المسلمين .

( فإن قيل ) هذا الذي ذكرتموه مخالف لحديث { علي رضي الله عنه قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ندع قبرا مشرفا إلا سويته } ( فالجواب ) ما أجاب به أصحابنا قالوا : لم يرد التسوية بالأرض وإنما أراد تسطيحه ، جمعا بين الأحاديث .

( الثالثة ) تسطيح القبر وتسنيمه وأيهما أفضل ؟ فيه وجهان ( الصحيح ) التسطيح أفضل وهو نص الشافعي في الأم ومختصر المزني ، وبه قطع جمهور أصحابنا المتقدمين وجماعات من المتأخرين ، منهم الماوردي والفوراني والبغوي [ ص: 265 ] وخلائق وصححه جمهور الباقين كما صححه المصنف ، وصرحوا بتضعيف التسنيم كما صرح به المصنف .

( والثاني ) التسنيم أفضل ، حكاه المصنف عن أبي علي الطبري ، والمشهور في كتب أصحابنا العراقيين والخراسانيين أنه قول أبي علي بن أبي هريرة . وممن حكاه عنه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والشاشي وخلائق من الأصحاب وممن رجح التسنيم من الخراسانيين الشيخ أبو محمد الجويني والغزالي والروياني والسرخسي ، وادعى القاضي حسين اتفاق الأصحاب وليس كما قال ، بل أكثر الأصحاب على تفضيل التسطيح ، وهو نص الشافعي كما سبق ، وهو مذهب مالك وداود . وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد رحمهم الله : التسنيم أفضل ، ودليل المذهبين في الكتاب . ورد الجمهور على ابن أبي هريرة في دعواه أن التسنيم أفضل لكون التسطيح شعار الرافضة ، فلا يضر موافقة الرافضي لنا في ذلك ، ولو كانت موافقتهم لنا سببا لترك ما وافقوا فيه لتركنا واجبات وسننا كثيرة . " فإن قيل " صححتم التسطيح ، وقد ثبت في صحيح البخاري رحمه الله عن سفيان التمار قال " رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما " ( فالجواب ) ما أجاب به البيهقي رحمه الله قال : صحت رواية القاسم بن محمد السابقة المذكورة في الكتاب ، وصحت هذه الرواية ، فنقول : القبر غير عما كان ، فكان أول الأمر مسطحا كما قال القاسم ، ثم لما سقط الجدار في زمن الوليد بن عبد الملك ، وقيل : في زمن عمر بن عبد العزيز أصلح فجعل مسنما ، قال البيهقي : وحديث القاسم أصح ، وأولى أن يكون محفوظا ، والله أعلم .

( الرابعة ) يستحب أن يوضع على القبر حصباء ، وهو الحصا الصغار لما سبق وأن يرش عليه الماء لما ذكره المصنف . قال المتولي وآخرون : يكره أن يرش عليه ماء الورد ، وأن يطلى بالخلوف لأنه إضاعة مال .

( الخامسة ) السنة أن يجعل عند رأسه علامة شاخصة من حجر أو خشبة أو غيرهما هكذا قاله الشافعي والمصنف وسائر الأصحاب إلا صاحب الحاوي فقال يستحب علامتان ( إحداهما ) عند رأسه ( والأخرى ) عند رجليه قال : لأن { النبي صلى الله عليه وسلم جعل حجرين كذلك على قبر عثمان [ ص: 266 ] بن مظعون } كذا قال ، والمعروف في روايات حديث عثمان حجر واحد والله أعلم .

( السادسة ) قال الشافعي والأصحاب : يكره أن يجصص القبر ، وأن يكتب عليه اسم صاحبه أو غير ذلك ، وأن يبنى عليه ، وهذا لا خلاف فيه عندنا ، وبه قال مالك وأحمد وداود وجماهير العلماء ، وقال أبو حنيفة : لا يكره ، دليلنا الحديث السابق ، قال أصحابنا رحمهم الله : ولا فرق في البناء بين أن يبني قبة أو بيتا أو غيرهما ، ثم ينظر - فإن كانت مقبرة مسبلة حرم عليه ذلك ; قال أصحابنا ويهدم هذا البناء بلا خلاف . قال الشافعي في الأم : ورأيت من الولاة من يهدم ما بني فيها ، ولم أر الفقهاء يعيبون عليه ذلك ، ولأن في ذلك تضييقا على الناس ، قال أصحابنا : وإن كان القبر في ملكه جاز بناء ما شاء مع الكراهة ، ولا يهدم عليه ، قال أصحابنا : وسواء كان المكتوب على القبر في لوح عند رأسه كما جرت عادة بعض الناس أم في غيره ، فكله مكروه لعموم الحديث ، قال أصحابنا : وسواء في كراهة التجصيص للقبر في ملكه أو المقبرة المسبلة ، وأما تطيين القبر ، فقال إمام الحرمين والغزالي : يكره ونقل أبو عيسى الترمذي في جامعه أن الشافعي قال : لا بأس بتطيين القبر ، ولم يتعرض جمهور الأصحاب له ; فالصحيح أنه لا كراهة فيه ، كما نص عليه . ولم يرد فيه نهي .

( فرع ) : قال البغوي وغيره : يكره أن يضرب على القبر مظلة ، لأن عمر رضي الله عنه رأى مظلة على قبر فأمر برفعها وقال : دعوه يظله عمله .

التالي السابق


الخدمات العلمية