صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ويكره استعمال أواني المشركين وثيابهم لما روى { أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله إنا بأرض أهل الكتاب ونأكل في آنيتهم ، فقال : لا تأكلوا في آنيتهم إلا إن لم تجدوا عنها بدا فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها } ، ولأنهم لا يجتنبون النجاسة فكره لذلك ، فإن توضأ من أوانيهم نظرت - فإن كانوا ممن لا يتدينون باستعمال النجاسة - صح الوضوء ; { لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة } . وتوضأ عمر رضي الله عنه من جرة نصراني . ولأن الأصل في أوانيهم الطهارة . وإن كانوا ممن يتدينون باستعمال النجاسة ففيه وجهان : ( أحدهما ) : أنه يصح الوضوء ; لأن الأصل في أوانيهم الطهارة .

( والثاني ) : لا يصح ; لأنهم يتدينون باستعمال النجاسة كما يتدين المسلمون بالماء الطاهر ، فالظاهر من أوانيهم وثيابهم النجاسة ) .


( الشرح ) حديث أبي ثعلبة رواه البخاري ومسلم ولفظه فيهما [ ص: 318 ] { قلت : يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم ؟ فقال إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها } " ، وفي رواية للبخاري : " { فلا تأكلوا في آنيتهم إلا أن لا تجدوا بدا فإن لم تجدوا بدا فاغسلوها وكلوا } " ، وفي رواية أبي داود : " { إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا ، وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا } " ، هذا لفظ الحديث في كتب الحديث ، ووقع في المهذب ( لا تأكل ) خطابا للواحد وله وجه ، ولكن المعروف لا تأكلوا ، قال أهل اللغة : يقال لا بد من كذا أي لا فراق منه ولا انفكاك عنه ، أي هو لازم ، وأبو ثعلبة الراوي وهو الخشني بخاء مضمومة ثم شين مفتوحة معجمتين ثم نون منسوب إلى خشين بطن من قضاعة ، واسمه جرهم بضم الجيم والهاء ، قاله أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وآخرون . وقيل جرثوم بضم الجيم والمثلثة وقيل غير ذلك ، واسم أبيه ناشم بالنون والشين المعجمة ، وقيل غير ذلك ، وكان أبو ثعلبة ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ثم نزل الشام وتوفي أيام معاوية ، وقيل أيام عبد الملك سنة خمس وسبعين .

وأما قوله : " { توضأ النبي صلى الله عليه وسلم من مزادة مشركة } " فهو بعض من حديث طويل رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية عمران بن حصين رضي الله عنهما أنهم { كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فعطشوا فأرسل من يطلب الماء ، فجاءوا بامرأة مشركة على بعير بين مزادتين من ماء ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء فأفرغ فيه منهما ثم قال فيه : ما شاء الله ، ثم أعاده في المزادتين ونودي في الناس : اسقوا واستقوا ، فشربوا حتى رووا ولم يدعوا إناء ولا سقاء إلا ملئوه ، وأعطى رجلا أصابته جنابة إناء من ذلك الماء وقال : أفرغه عليك ، ثم أمسك عن المزادتين وكأنهما أشد امتلاء مما كانتا ، ثم أسلمت المرأة بعد ذلك هي وقومها } " . هذا معنى الحديث مختصرا وفيه المعجزة الظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ منه صريحا ، لكن الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم توضأ منه ; لأن الماء كان كثيرا ، وإن لم يكن توضأ فقد أعطى الجنب [ ص: 319 ] ما يغتسل به ، وبهذا يحصل المقصود وهو طهارة إناء المشرك ، والمزادة هي التي تسميها الناس الراوية ، وإنما الراوية في الأصل البعير الذي يستقى عليه . وأما قوله : توضأ عمر من جر نصراني ، فصحيح رواه الشافعي والبيهقي بإسناد صحيح ، وذكره البخاري في صحيحه بمعناه تعليقا فقال : وتوضأ عمر بالحميم من بيت نصرانية ، والحميم الماء الحار ، لكن وقع في المهذب نصراني بالتذكير ، قال الحافظ أبو بكر محمد بن موسى الحازمي رواه خلاد بن أسلم عن سفيان بن عيينة بإسناده كذلك ، قال : والمحفوظ ما رواه الشافعي عن ابن عيينة بإسناده نصرانية بالتأنيث . قوله : من " جر " كذا هو في المهذب ، وغيره " جر " ، ورواه الشافعي في الأم جرة نصرانية بالهاء في آخرهما وهو الصحيح واختلف الأئمة في معنى الذي في المهذب فالمشهور الذي قاله الأكثرون أنه جمع جرة وهي الإناء المعروف من الخزف ، وقولنا جمع جرة هو على اصطلاح أهل اللغة ، وأما أهل التصريف والنحو فيقولون فيه وفي أشباهه : هو اسم جنس ولا يسمونه جمعا ، وذكر ابن فارس في كتابه حلية العلماء أن الجر هنا سلاخة عرقوب البعير يجعل وعاء للماء ، وذكر هو في المجمل نحوه . والله أعلم .

أما حكم المسألة : فيكره استعمال أواني الكفار وثيابهم سواء فيه أهل الكتاب وغيرهم ، والمتدين باستعمال النجاسة وغيره ، ودليله ما ذكره المصنف من الحديث والمعنى ، قال الشافعي - رحمه الله - : وإنا لسراويلاتهم وما يلي أسافلهم أشد كراهة ، قال أصحابنا : وأوانيهم المستعملة في الماء أخف كراهة ، فإن تيقن طهارة أوانيهم أو ثيابهم قال أصحابنا : فلا كراهة حينئذ في استعمالها كثياب المسلم ممن صرح بهذا المحاملي في المجموع والبندنيجي والجرجاني في البلغة والبغوي وصاحبا العدة والبيان وغيرهم ولا نعلم فيه خلافا . ومراد المصنف بقوله : يكره استعمالها إذا لم يتيقن طهارتها ، وتعليله يدل عليه ، فإن قيل فحديث أبي ثعلبة يقتضي كراهة استعمالها إذا وجد عنها بدا وإن تيقن طهارتها . فالجواب أن المراد النهي عن الأكل في أوانيهم التي كانوا يطبخون فيها [ ص: 320 ] لحم الخنزير ويشربون فيها الخمر كما سبق بيانه في رواية أبي داود ، وإنما نهي عن الأكل للاستقذار كما يكره الأكل في المحجمة المغسولة ، وإذا تطهر من إناء كافر ولم يعلم طهارته ولا نجاسته فإن كان من قوم لا يتدينون باستعمال النجاسة - صحت طهارته بلا خلاف ، وإن كان من قوم يتدينون باستعمال النجاسة فوجهان : الصحيح منهما باتفاق الأصحاب في الطريقتين أنه تصح طهارته وهو نصه في الأم وحرملة والقديم وبه قال ابن أبي هريرة . والوجه الثاني : لا تصح طهارته ، وهو قول أبي إسحاق ، وصححه المتولي وهو مخرج من القولين في الصلاة في المقبرة المنبوشة ، كذا قاله الشيخ أبو حامد ، وقال القاضي أبو الطيب : هو مخرج من مسألة بول الصبية ، وهذا أجود ، قال أصحابنا : المتدينون باستعمال النجاسة وهم الذين يعتقدون ذلك دينا وفضيلة ، وهم طائفة من المجوس يرون استعمال أبوال البقر وأحشائها قربة وطاعة ، قال الماوردي : وممن يرى ذلك البراهمة ، وأما الذين لا يتدينون فكاليهود والنصارى ، قال إمام الحرمين : ولو ظهر من الرجل اختلاطه بالنجاسات وعدم تصونه منها مسلما كان أو كافرا ففي نجاسة ثيابه وأوانيه الخلاف . والله أعلم .

( فرع ) هذا الذي ذكرناه من الحكم بطهارة أواني الكفار وثيابهم هو مذهبنا ومذهب الجمهور من السلف ، وحكى أصحابنا عن أحمد وإسحاق نجاسة ذلك لقوله تعالى : ( { إنما المشركون نجس } ) ، ولحديث أبي ثعلبة وقوله صلى الله عليه وسلم فاغسلوها ، واحتج أصحابنا بقوله تعالى : ( { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ) ومعلوم أن طعامهم يطبخونه في قدورهم ويباشرونه بأيديهم ، وبحديث عمران وفعل عمر المذكورين في الكتاب ، وبأن الأصل الطهارة ، { وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأذن للكفار في دخول المسجد } ، ولو كانوا أنجاسا لم يأذن . وأجاب الأصحاب عن الآية بجوابين : ( أحدهما ) : معناها أن المشركين نجس أديانهم واعتقادهم ، وليس المراد أبدانهم وأوانيهم ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخلهم المسجد ، واستعمل آنيتهم وأكل طعامهم ، وأجابوا عن حديث أبي ثعلبة بأن السؤال كان عن الآنية التي يطبخون [ ص: 321 ] فيها لحم الخنزير ويشربون فيها الخمر كما جاء في رواية أبي داود التي قدمناها ، وجواب آخر أنه محمول على الاستحباب ، ذكره الشيخ أبو حامد ، ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم نهاهم عن استعمالها مع وجود غيرها ، وهذا محمول على الاستحباب بلا شك . والله أعلم .

( فرع ) قول المصنف : " ويكره استعمال أواني المشركين " يعني بالمشركين الكفار ، سواء أهل الكتاب وغيرهم ، واسم المشركين يطلق على الجميع ، ومن ذلك قول الله - تعالى - : ( { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ) ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : { من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة } " ، ونظائر ذلك في الكتاب والسنة واستعمال سلف الأمة مشهورة ، ومن ذلك قوله - سبحانه وتعالى - : ( { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } ) ، وقال في آخر الآية الثانية : ( { سبحانه عما يشركون } ) . والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية