صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ولا تجب الزكاة في ثمر النخل والكرم ، إلا أن يكون نصابا ، ونصابه خمسة أوسق لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 438 ] قال : { ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة } " والخمسة أوسق ثلاثمائة صاع ، وهي ألف وستمائة رطل بالبغدادي ، وهل ذلك تحديد أو تقريب ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) : أنه تقريب ، فلو نقص منه شيء يسير لم تسقط الزكاة ، والدليل عليه أن الوسق حمل البعير ، قال النابغة :

أين الشظاظان وأين المربعة وأين وسق الناقة المطبعة

وحمل البعير يزيد وينقص ( والثاني ) : أنه تحديد ، فإن نقص منه شيء يسير لم تجب الزكاة لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { الوسق ستون صاعا } " ولا تجب حتى تكون يابسه خمسة أوسق ، لحديث أبي سعيد " { ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة } وإن كان رطبا لا يجيء منه تمر ، أو عنبا لا يجيء منه زبيب ، ففيه وجهان ( أحدهما ) : يعتبر نصابه بنفسه ، وهو أن يبلغ يابسه خمسة أوسق ; لأن الزكاة تجب فيه فاعتبر النصاب من يابسه ، ( والثاني ) : يعتبر بغيره ; لأنه لا يمكن اعتباره بنفسه فاعتبر بغيره كالجناية التي ليس لها أرش مقدر من الحر ، فإنه يعتبر بالعبد ) .


( الشرح ) : حديث أبي سعيد رضي الله عنه الأول صحيح رواه البخاري ومسلم وحديثه الثاني { الوسق ستون صاعا } " ضعيف رواه أبو داود وغيره بإسناد ضعيف قال أبو داود وغيره : إسناده منقطع ، ولكن الحكم الذي فيه مجمع عليه . نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أن الوسق ستون صاعا ، وفي الوسق لغتان : ( أشهرهما ) وأفصحهما : فتح الواو ، ( والثانية ) : كسرها وجمعه أوسق في القلة ووسوق في الكثرة وأوساق ، وسبقت اللغات في بغداد وفي الرطل في مسألة القلتين والشظاظان بكسر الشين العودان اللذان يجمع بهما عروتا العدلين على البعير " ، والمربعة " بكسر الميم وإسكان الراء وفتح الباء الموحدة وهي عصا قصيرة يقبض الرجلان بطرفيها كل واحد في يده طرف ويعكمان العدل على أيديهما مع العصا ويرفعانه إلى ظهر البعير وقوله " الناقة المطبعة " وهي بضم الميم وفتح الطاء المهملة والباء الموحدة وهي المثقلة بالحمل قاله ابن فارس وغيره . وهذا النابغة الشاعر صحابي . وهو أبو ليلى النابغة الجعدي ، والنابغة لقب له واسمه : قيس بن عبد الله ، وقيل : عبد الله بن قيس ، وقيل : حبان بن قيس ، قالوا : وإنما قيل له النابغة ; لأنه قال الشعر في الجاهلية ، ثم تركه نحو ثلاثين سنة ، ثم نبغ فيه فقاله . وطال عمره في الجاهلية والإسلام وهو أسن من [ ص: 439 ] النابغة الذبياني ومات الذبياني قبله . وعاش الجعدي بعد الذبياني طويلا قيل عاش مائة وثمانين سنة ، وقال ابن قتيبة : عاش مائتين وأربعين سنة وبسطت أحواله في التهذيب .

( أما الأحكام ) ففيه مسائل : ( إحداها ) لا تجب الزكاة في الرطب والعنب إلا أن يبلغ يابسه نصابا ، وهو خمسة أوسق ، هذا مذهبنا ، وبه قال العلماء كافة إلا أبا حنيفة وزفر فقالا : تجب في كثير وقليل حتى لو كان حبة وجب عشرها : دليلنا حديث أبي سعيد المذكور وأحاديث غيره بمعناه ، والقياس على المواشي والنقدين .

( الثانية ) : الوسق ستون صاعا بالإجماع ، نقل الإجماع فيه ابن المنذر وغيره ، وهو ألف وستمائة رطل بالبغدادي ، وسبق تحقيق الرطل ومقداره في مسألة القلتين ، ويجيء برطل دمشق ثلاثمائة واثنان وأربعون رطلا ونصف رطل وثلث رطل وسبعا أوقية ، تفريعا على الأصح أن رطل بغداد مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم ، والمعتمد في تقدير الأوسق بهذا الإجماع ، وإلا فالحديث ضعيف كما سبق ، والأصح من الوجهين أن هذا التقدير تحديد صححه أصحابنا وممن صححه المحاملي والماوردي والمتولي والأكثرون ، قال الرافعي : صححه الأكثرون ، وقطع الصيدلاني بأنه تقريب ، وقال المحاملي وغيره : إذا قلنا هو تقريب فلا يمنع من وجوب الزكاة نقص خمسة أرطال ، ونقل إمام الحرمين عن العراقيين ، ثم أنكره عليهم وقال في تقديره كلاما طويلا حاصله : الأوسق هي الأوقار ، والوقر المقتصد مائة وستون منا ، والمن رطلان ، فكل قدر لو وزع على الأوسق الخمسة لم تعد منحطة عن الاعتدال بسببه لا يضر نقصه ، وإن عدت منحطة ضر . وإن أشكل ذلك فالأظهر على تقديره بالتقريب أنه لا يضر لبقاء اسم الأوسق قال : ولا يبعد أن يميل الناظر إلى نفي الوجوب استصحابا للقلة إلى أن يتيقن الكثرة ، وذكر إمام الحرمين في أثناء هذه المسألة ما علقه الشارع بالصاع والمد ، فالاعتبار فيه بمقدار موزون ، يضاف إلى المد والصاع ، لا بما يحويه المد من البر ونحوه . [ ص: 440 ] وذكر الرافعي كلام إمام الحرمين هذا ، ثم قال : وقال الروياني وغيره : الاعتبار بالكيل لا بالوزن ، قال : وهذا هو الصحيح واستثنى أبو العباس الجرجاني العسل فقال : الاعتبار في نصابه بالوزن إذا أوجبنا فيه الزكاة قال : وتوسط صاحب العدة فقال : هو على التحديد في الكيل ، وعلى التقريب في الوزن ، وإنما قدره العلماء بالوزن استظهارا ( قلت ) : هذا الذي صححه الرافعي من الاعتبار بالكيل هو الصحيح ، وبه قطع أبو الفرج الدارمي من أصحابنا ، وصنف في هذه المسألة تصنيفا ، وسأزيد المسألة إيضاحا في باب زكاة الفطر إن شاء الله تعالى .

( المسألة الثالثة ) : إذا كان له رطب لا يجيء منه تمر ، أو عنب لا يجيء منه زبيب ، فقد ذكر المصنف وأكثر العراقيين فيه وجهين .

( أحدهما ) : يعتبر بنفسه ( والثاني ) : بغيره مما يجفف ، والوجهان متفقان على أنه يعتبر تمرا لا رطبا ، ففي وجه يشترط لوجوب زكاته أن يبلغ يابسه بنفسه لو يبس خمسة أوسق ، وفي وجه يشترط بلوغه بغيره فيقال : لو كان هذا مما يجفف بلوغه نصابا في حال رطوبته ، فإن بلغ الرطب خمسة أوسق وجبت ، وإن كان لو قدر تمرا لا يبلغها وإن لم يبلغها الرطب فلا زكاة ، وهذا هو الأصح عند إمام الحرمين والغزالي والرافعي وآخرين ; لأنه ليس له حالة جفاف وادخار فوجب اعتباره في حال كماله ، ( والوجه الثاني ) : يعتبر النصاب من التمر والزبيب ، للحديث : " { ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة } ، فعلى هذا هل يعتبر بنفسه ؟ أم بغيره ؟ فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف وأكثر العراقيين ، فحاصل المذهب ثلاثة أوجه ( أصحها ) : يعتبر رطبا ، فإن بلغ الرطب خمسة أوسق وجبت الزكاة وإلا فلا ، ( والثاني ) : يعتبر تمرا بنفسه لو يبس ، ( والثالث ) : يعتبر تمرا من غيره . قال أصحابنا : فعلى هذا الثالث يعتبر أقرب أنواع الرطب إليه ، وعلى الأوجه يجب إخراج واجبه في الحال رطبا ، ولا يؤخر ; لأنه ليس له جفاف ينتظر ، قال الرافعي وغيره : هذا الخلاف هو فيما لا يغيره تجفيفه ، ولو جفف جاء منه تمر رديء حشف .

( فأما ) إذا كان لو جفف فسد بالكلية ، لم يجئ في الاعتبار بنفسه ، قال أصحابنا ويضم ما لا يجفف إلى ما يجفف في [ ص: 441 ] إكمال النصاب بلا خلاف ; لأنه كله جنس واحد . قال المحاملي ، فإن قيل : إذا كان الرطب والعنب لا يجفف ولا يدخر ، فهو في معنى الخضراوات ( قلنا ) الخضراوات لا يجفف جنسها ، ولا يدخر ، ( وأما ) الرطب والعنب فيجفف جنسه ، وهذا النوع منه نادر ، فوجب إلحاقه بالغالب والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية