صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وزكاته العشر فيما سقي بغير مؤنة ثقيلة ، كماء السماء والأنهار وما شرب بالعروق ، ونصف العشر فيما سقي بمؤنة ثقيلة كالنواضح والدواليب وما أشبهها ، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم : فرض فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلا ، وروي عثريا العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر } والبعل [ الشجر ] الذي يشرب بعروقه والعثري الشجر الذي يشرب من الماء الذي يجتمع في موضع فيجري كالساقية ; ولأن المؤنة في أحدهما تخف ، وفي الأخرى تثقل ، ففرق بينهما في الزكاة .

ولو كان يسقى نصفه بالنواضح ، ونصفه بالسيح ، ففيه ثلاثة أرباع العشر اعتبارا بالسقيتين ، وإن سقي بأحدهما أكثر ففيه قولان : ( أحدهما ) يعتبر فيه الغالب ، فإن كان الغالب السقي بماء السماء أو السيح وجب العشر ، وإن كان الغالب السقي بالناضح وجب نصف العشر ; لأنه اجتمع الأمران ولأحدهما قوة بالغلبة ، فكان الحكم له كالماء إذا خالطه مائع ، ( والقول الثاني ) يقسط على عدد السقيات ; لأن ما وجب فيه الزكاة بالقسط عند التماثل وجب فيه بالقسط عند التفاضل كزكاة الفطر في العبد المشترى ، فإن جهل القدر الذي سقى بكل واحد منهما جعلا نصفين ; ولأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر ، فوجب التسوية بينهما كالدار في يد اثنين ) .


( الشرح ) : حديث ابن عمر رضي الله عنهما صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم بلفظه في المهذب ورواه البخاري بمعناه قال : عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال { : فيما سقت السماء والعيون [ ص: 444 ] أو كان عثريا العشر ، وما سقي بالنضح نصف العشر } ورواه مسلم في صحيحه بمعناه من رواية جابر ، ورواه البيهقي أيضا من رواية معاذ بن جبل وأبي هريرة ، قال البيهقي : وهو قول ، العامة لم يختلفوا فيه ، وكذا أشار الشافعي رضي الله عنه في المختصر إلى أنه مجمع عليه وهذا الذي ذكره المصنف في تفسير البعل ، كذا قاله أهل اللغة وغيرهم وأما العثري فبعين مهملة وثاء مثلثة مفتوحتين ، ثم ياء مشددة ، ويقال بإسكان الثاء والصحيح المشهور فتحها وأنكر القلعي على المصنف تفسيره العثري وقال : إنما هو ما سقت السماء ، لا خلاف بين أهل اللغة فيه ، وهذا الذي قاله القلعي ليس كما قاله وليس نقله عن جميع أهل اللغة صحيحا وإنما هو قول قليل منهم . وذكر ابن فارس في المجمل فيه قولين لأهل اللغة قال : العثري ما سقي من النخل سيحا ، والسيح الماء الجاري قال : ويقال هو العذي والعذي الزرع الذي لا يسقيه إلا ماء المطر ، ولم يذكر الجوهري في صحاحه إلا هذا القول الثاني ، والأصح ما قاله الأزهري وغيره من أهل اللغة أن العثري مخصوص بما سقي من ماء السيل فيجعل عاثورا وشبه ساقيته بحفر يجري فيها الماء إلى أصوله ، وسمي عاثورا ; لأنه يتعثر به المار الذي لا يشعر به ، وهذا هو مراد المصنف ، وإن كانت عبارته تحتاج إلى تقييد .

وأما النواضح فجمع ناضح أو هو ما يسقى عليه نضحا من بعير وبقرة وغيرهما قال أهل اللغة : النضح السقي من ماء بئر أو نهر بساقية . والناضح اسم للبعير والبقرة الذي يسقى عليه من البئر أو النهر والأنثى ناضحة ، والدواليب جمع دولاب بفتح الدال قال الجوهري وغيره : هو فارسي معرب .

( وأما الأحكام ) فقال الشافعي رضي الله عنه والأصحاب : يجب فيما سقي بماء السماء من الثمار والزروع العشر ، وكذا البعل وهو ما يشرب بعروقه ، وكذا ما يشرب من ماء ينصب إليه من جبل أو نهر أو عين كبيرة ، ففي هذا كله العشر .

وأما ما سقي بالنضح أو الدلاء أو الدواليب ، وهي التي تديرها البقر أو بالناعورة ، وهي التي يديرها الماء بنفسه ، ففي جميعه نصف العشر . وهذا كله لا خلاف فيه بين المسلمين ، وقد سبق نقل البيهقي الإجماع [ ص: 445 ] فيه .

وأما القنوات والسواقي المحفورة من نهر عظيم التي تكثر مؤنتها ، ففيها العشر كاملا . هذا هو الصحيح المشهور المقطوع به في كتب العراقيين والخراسانيين . ونقل إمام الحرمين اتفاق الأئمة عليه ، وعلله الأصحاب بأن مؤنة القنوات إنما تشق لإصلاح الضيعة ، وكذا الأنهار إنما تشق لإحياء الأرض ، وإذا تهيأت وصل الماء إلى الزرع بنفسه مرة بعد أخرى بخلاف النواضح ونحوها ، فإن المؤنة فيها لنفس الزرع . ونقل الرافعي عن الشيخ أبي عاصم أنه نقل أن الشيخ أبا سهل الصعلوكي من أصحابنا أفتى أن ما سقي بماء القناة وجب فيه نصف العشر . وقال صاحب التهذيب : إن كانت القناة أو العين كثيرة المؤنة لا تزال تنهار ، وتحتاج إلى إحداث حفر وجب نصف العشر ، وإن لم يكن لها مؤنة أكثر من مؤنة الحفر الأول وكسحها في بعض الأوقات وجب العشر . قال الرافعي : والمذهب ما قدمناه عن الجمهور . قال الرافعي : قال ابن كج : ولو اشترى ماء وسقى به وجب نصف العشر ، قال : وكذا لو سقاه بماء مغصوب ; لأن عليه ضمانه . قال الرافعي : وهذا حسن جار على كل مأخذ ، فإنه لا يتعلق بصلاح الضيعة بخلاف القناة ، ثم حكى الرافعي عن ابن كج عن ابن القطان وجهين فيما لو وهب له الماء ، ورجح إلحاقه بالمغصوب لوجود المنة العظيمة ، وكما لو علف ماشيته بعلف موهوب ( قلت ) وهذان الوجهان تفريع على قولنا لا تقتضي الهبة ثوابا ( فإن قلنا ) تقتضيه ، فنصف العشر بلا خلاف ، صرح بذلك كله الدارمي في الاستذكار ، والله تعالى أعلم .

( فصل ) إذا اجتمع في الشجر الواحد أو الزرع الواحد السقي بماء السماء والنواضح ، فله حالان ( أحدهما ) : أن يزرع عازما على السقي بهما ، فينظر إن كان نصف السقي بهذا ونصفه بذلك ، فطريقان ( أصحهما ) وبه قطع المصنف والجمهور من الطريقين : يجب ثلاثة أرباع العشر .

( والثاني ) : حكاه إمام الحرمين وغيره أنه يجب العشر بكماله على قولنا فيما إذا تفاضلا أنه يعتبر الأغلب ، وعللوه بأنه أرفق للمساكين ، والمذهب الأول ودليله في [ ص: 446 ] الكتاب ، فإن سقي بأحدهما أكثر فقولان مشهوران . ذكر المصنف دليلهما ، ( أصحهما ) عند الأصحاب ورجحه الشافعي رضي الله عنه أيضا في المختصر : يقسط الواجب عليهما ، ( والثاني ) يعتبر الأغلب .

فإن قلنا بالتقسيط وكان ثلثا السقي بماء السماء والثلث بالنضح وجب خمسة أسداس العشر ، وإن استويا فثلاثة أرباع العشر ، وإن قلنا بالأغلب ، فزاد السقي بماء السماء أدنى زيادة وجب العشر ، وإن زاد الآخر أدنى زيادة وجب نصف العشر ، فإن استويا فقد ذكرنا أن المذهب وجوب ثلاثة أرباع العشر ، وفي وجه شاذ يجب كل العشر . قال أصحابنا : وسواء قسطنا أم اعتبرنا الأغلب ، فهل النظر إلى عدد السقيات أم غيرها ؟ فيه وجهان مشهوران في كتب الخراسانيين وفي كتب جماعة من العراقيين : ( أحدهما ) : يقسط على عدد السقيات ، وبهذا قطع المصنف والماوردي ; لأن المؤنة تختلف بعدد السقيات ، والمراد السقيات المفيدة ، ( والوجه الثاني ) وهو الأصح وبه قطع الشيخ أبو حامد وهو ظاهر نص الشافعي رضي الله عنه وصححه المحققون ورجحه الرافعي في كتابيه : أن الاعتبار بعيش الزرع والثمرة ونمائه ، قال إمام الحرمين وآخرون : وعبر بعضهم عن هذا الثاني بالنظر إلى النفع قالوا : وقد تكون سقية أنفع من سقيات كثيرة . قال إمام الحرمين والعبارتان متقاربتان ، إلا أن صاحب الثانية لا ينظر إلى المدة بل يعتبر النفع الذي يحكم به أهل الخبرة ، وصاحب العبارة الأولى يعتبر المدة قال الرافعي رحمه الله : واعتبار المدة هو الذي ذكره الأكثرون تفريعا على هذا الوجه ، قال : وذكروا في المثال أنه لو كانت المدة من يوم الزرع إلى يوم الإدراك ثمانية أشهر واحتاج في ستة أشهر زمان الشتاء والربيع إلى سقيتين فسقى فيهما بماء السماء ، واحتاج في الصيف في الشهرين الباقيين إلى ثلاث سقيات فسقين بالنضح فإن اعتبرنا عدد السقيات ، فعلى قول التقسيط : يجب خمسا العشر وثلاثة أخماس نصف العشر ، وعلى اعتبار الأغلب يجب نصف العشر ، وإن اعتبرنا المدة ، فعلى قول التقسيط يجب ثلاثة أرباع العشر وربع نصف العشر ، وعلى قول اعتبار الأغلب يجب العشر ; لأن مدة السقي بماء السماء أطول . [ ص: 447 ] ولو سقى بماء السماء والنضح جميعا وجهل المقدار من كل واحد منهما أو علم أن أحدهما أكثر وجهل أيهما هو وجب ثلاثة أرباع العشر . هذا هو المذهب . وبه قطع المصنف وجماهير الأصحاب ونقلوه عن ابن سريج وأطبقوا عليه ، إلا ابن كج والدارمي فحكيا وجها أنه يجب نصف العشر ; لأن الأصل البراءة مما زادا ، وإلا صاحب الحاوي فقال : إن سقى بأحدهما أكثر وجهلت عينه فإن اعتبرنا الأغلب وجب نصف العشر ; لأنه اليقين . وإن قلنا بالتقسيط ، فالواجب ينقص عن العشر وينقص عن نصفه ، فيأخذ اليقين ويقف عن الباقي حتى يتبين . قال : وإن شككنا هل استويا أو زاد أحدهما ؟ فإن قلنا بالغالب وجب نصف العشر ; لأنه اليقين ، وإن قسطنا فوجهان : ( أحدهما ) : يجب ثلاثة أرباع العشر ( والثاني ) : يجب زيادة على نصف العشر بشيء وإن قل . هذا كلام صاحب الحاوي والمذهب ما قدمناه .

( الحال الثاني ) يزرع ناويا السقي بأحدهما ، ثم يقع الآخر ، فهل يستصحب حكم ما نواه أولا ؟ أم يعتبر الحكم ؟ فيه وجهان حكاهما الخراسانيون والدارمي وآخرون ( أصحهما ) وأشهرهما : يعتبر الحكم ، وصححه الرافعي وغيره . وهو مقتضى إطلاق العراقيين . قالوا : وعلى هذا ففي كيفية اعتبارهما الخلاف السابق . والله تعالى أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر : ولو اختلف المالك والساعي في أنه بماذا سقي ؟ فالقول قول المالك فيما يمكن ; لأن الأصل عدم وجوب الزكاة ، فإن اتهمه الساعي حلفه ، وهذه اليمين مستحبة بالاتفاق ، صرح به الدارمي والبندنيجي والماوردي وغيرهم ; لأنه لا يخالف الظاهر . والله تعالى أعلم .

( فرع ) : لو كان له حائطان من النخل والعنب أو قطعتان من الزرع سقي أحدهما بماء السماء والآخر بالنضح ولم يبلغ واحد منهما نصابا وجب ضم أحدهما إلى الآخر في إكمال النصاب وأخرج من المسقي بماء السماء العشر ، ومن الآخر نصفه والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية