صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( فإن أصاب النخل عطش بعد بدو الصلاح وخاف أن يهلك جاز أن يقطع الثمار ; لأن الزكاة تجب على سبيل المواساة ، فلو ألزمناه تركها لحق المساكين كان ذلك سببا لهلاك ماله ، فيخرج عن المواساة ; ولأن حفظ النخيل أنفع للمساكين في مستقبل الأحوال ، ولا يجوز أن يقطع إلا بحضرة المصدق ; لأن الثمرة مشتركة بينه وبين المساكين ، فلا يجوز قطعها إلا بمحضر من النائب عنهم ولا يقطع إلا ما تدعو الحاجة إليه ، فإن قطع من غير حضور المصدق ، وهو عالم عزره إن رأى ذلك ، ولا يغرمه ما نقص ; لأنه لو حضر لوجب عليه أن يأذن له في قطعه وإن نقصت به الثمرة ) .


( الشرح ) : قال الشافعي رضي الله عنه والأصحاب رحمهم الله : إذا أصاب النخل عطش بعد بدو الصلاح وخاف هلاكها أو هلاك الثمرة أو هلاك بعضها إن لم تقطع الثمرة ، أو خاف ضرر النخل أو الثمرة جاز قطع ما يندفع به الضرر إما بعضها أو كلها ، فإن لم يندفع إلا بقطع الجميع قطع الجميع ، وإن اندفع بقطع البعض ، لم تجز الزيادة ; لأن حق المساكين إنما هو في التمر يابسا ، وإنما جوزنا القطع للحاجة ، فلا يجوز زيادة عليها ، ، ثم إن أراد القطع ، فينبغي للمالك أن يستأذن العامل ، فإن استأذنه وجب عليه أن يأذن له ، لما فيه من المصلحة ودفع المفسدة عن المالك والمساكين كما ذكره المصنف فإن لم يستأذن العامل ، بل استقل المالك بقطعها فوجهان : ( أصحهما ) وبه قطع المصنف وسائر العراقيين والسرخسي وغيره من الخراسانيين ، ونقله القاضي أبو الطيب في المجرد عن أصحابنا أن الاستئذان واجب ، فيأثم بتركه ، وإن كان عالما بتحريم الاستقلال عزر ، ودليله ما ذكره المصنف .

( والثاني ) : أن الاستئذان مستحب ، فلا يأثم بتركه ولا يعزر ، وبهذا قال الصيدلاني والبغوي وطائفة ، وسواء قلنا : يجب الاستئذان أم يستحب لا يغرم المالك ما نقص بالقطع لما ذكره المصنف وإذا أعلم المالك الساعي قبل القطع وأراد القسمة بأن يخرص الثمار [ ص: 457 ] ويعين حق المساكين في نخلة أو نخلات بأعيانها فقولان منصوصان للشافعي رحمه الله تعالى قال الأصحاب : هما مبنيان على أن القسمة بيع أم إفراز حق ، فإن قلنا إفراز ، وهو الأصح جاز ، ثم للساعي بيع نصيب المساكين للمالك أو غيره وأن يقطعه ويفرقه بينهم ، يفعل من ذلك ما فيه مصلحتهم ، وإن قلنا : إنها بيع لم يجز ، ولو لم يميز للفقراء شيئا ، بل قطعت الثمار مشتركة . قال الأصحاب : ففي جواز القسمة خلاف مبني على أنها بيع أو إفراز ، إن قلنا إفراز ، وهو الأصح جازت المقاسمة كيلا ووزنا ، هكذا صرح به المصنف في آخر الباب والأصحاب ، وإن قلنا بيع ، ففي جوازها خلاف مبني على جواز بيع الرطب الذي لا يتميز بمثله . وفيه قولان للشافعي رضي الله عنه مذكوران في باب الربا ( أصحهما ) : لا يجوز . فإن جوزناه جازت القسمة بالكيل وإلا فوجهان : ( أحدهما ) : يجوز مقاسمة الساعي ; لأنها ليست معاوضة فلا يكلف فيه تعبدات الربا ; ولأن الحاجة داعية إليها وهذا الوجه حكاه المصنف في آخر الباب والأصحاب عن أبي إسحاق وأبي علي بن أبي هريرة ، لكن قال المصنف : إنهما يجوزان البيع كيلا ووزنا .

وقال غيره : كيلا فقط وهو الأقيس ( وأصحهما ) عند المصنف والأكثرين ، وبه قطع جماعة تفريعا على هذا الرأي لا يجوز ، فعلى هذا له في الأخذ مسلكان ( أحدهما ) : يأخذ قيمة عشر الرطب المقطوع ، ( والثاني ) : يسلم عشره مشاعا إلى الساعي ليتعين حق المساكين ، وطريقه في تسليم عشره أن يسلمه كله ، فإذا تسلمه الساعي برئ المالك من العشر ، وصار مقبوضا للمساكين بقبض نائبهم ، ثم للساعي بعد قبضه بيع نصيب المساكين للمالك أو لغيره ، أو يبيع هو والمالك الجميع ويقسمان الثمن . وهذا المسلك جائز بلا خلاف . وأما المسلك الأول فحكى إمام الحرمين وغيره وجها في جوازه للضرورة . كما سبق في آخر الباب الذي قبل هذا بيان جواز أخذ القيمة في مواضع الضرورة والصحيح الذي عليه الأكثرون منعه . وحكى الإمام وغيره وجها آخر أن الساعي يتخير بين أخذ القيمة والقسمة ، قال : لأن كل واحد منهما [ ص: 458 ] خلاف القاعدة واحتمل للحاجة فيفعل ما هو أصلح للمساكين ، والصحيح تعين المسلك الثاني . قال الأصحاب : ثم ما ذكرناه هنا من الخلاف ، والتفصيل في كيفية إخراج الواجب يجري بعينه في إخراج الواجب عن الرطب الذي لا يتتمر والعنب الذي لا يتزبب ، وفي المسألتين استدراك حسن لإمام الحرمين قال : إنما يتصور الإشكال على قولنا : المساكين شركاء في النصاب بقدر الزكاة ، وحينئذ ينتظم الترجيح على القولين في القسمة . فأما إذا لم نجعلهم شركاء ، فليس تسليم حق الساعي قسمة حتى يأتي فيه القولان في القسمة ، بل هو توفية حق إلى مستحق .

هذا كلام الإمام واستحسنه الرافعي . والله تعالى أعلم . هذا كله إذا كانت الثمرة باقية ، فإن قطعها المالك وأتلفها أو تلفت عنده ، فعليه قيمة عشرها رطبا حين أتلفها . قال صاحب الحاوي وغيره : ( فإن قيل ) لو أتلفها رطبا من غير عطش لزمه عشرها تمرا ، فهلا لزمه في إتلافها للعطش عشرها تمرا ؟ ، ( قلنا ) الفرق أنه إذا لم يخف العطش ولا ضررا في تركها لزمه تركها ودفع التمر بعد الجفاف ، فإذا قطع فهو مفرط متعد ، فلزمه ذلك ، فإذا خاف العطش لم يكن عليه إبقاؤها ولا التمر بل له القطع ، ودفع الرطب ، فلم يلزمه غيره ; الله تعالى أعلم . واعلم أن الشافعي رضي الله عنه قال في المختصر : " وإن أصابها عطش كان له قطع الثمرة ، ويؤخذ منه ثمن عشرها أو عشرها مقطوعة " هكذا نقله المزني في المختصر . ونقل الربيع في الأم " أنه يؤخذ عشرها مقطوعة " واختلف الأصحاب في هذين النصين ، فذكر العراقيون والخراسانيون فيه تأويلين يتخرجان مما سبق ( أحدهما ) : أنه يبيع الثمرة بعد قبضها من المالك أو لغيره ، ويأخذ ثمن العشر إن كانت مصلحة المساكين في بيعها وإلا فعشرها ، وتنزل رواية المزني على هذا ، وتحمل رواية الربيع على أنه رأى المصلحة في عشر الثمرة لا ثمن عشرها ، ( التأويل الثاني ) : إن كانت الثمرة باقية أخذها وإن تلفت فقيمتها ، وعبر عن القيمة بالثمن ، وقد استعمل الشافعي مثل هذا في مواضع ، وسبق بسطه في باب التيمم ، فتنزل رواية المزني على هذا ، وتحمل رواية الربيع على أن الثمرة كانت باقية ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية