صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وإن كان له دين نظرت فإن كان دينا غير لازم كمال الكتابة لم يلزمه زكاته ; لأن ملكه غير تام عليه ، فإن العبد يقدر أن يسقطه ، وإن كان لازما نظرت - فإن كان على مقر مليء - لزمه زكاته ، لأنه مقدور على قبضه فهو كالوديعة ، وإن كان على مليء جاحد ، أو مقر معسر فهو كالمال المغصوب وفيه قولان ، وقد بيناه في زكاة الماشية ، وإن كان له دين مؤجل ، ففيه وجهان قال أبو إسحاق : هو كالدين الحال على فقير أو مليء جاحد فيكون على قولين وقال أبو علي بن أبي هريرة : لا تجب فيه الزكاة ، فإذا قبضه استقبل به الحول ; لأنه لا يستحقه . ولو حلف أنه لا يستحقه كان بارا ، والأول أصح ، لأنه لو لم يستحقه لم ينفذ فيه إبراؤه ، وإن كان له مال غائب - فإن كان مقدورا على قبضه - وجبت فيه الزكاة إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يرجع إليه وإن لم يقدر عليه فهو كالمغصوب ) .


[ ص: 506 ] الشرح ) قال أصحابنا : الدين ثلاثة أقسام : ( أحدها ) غير لازم كمال الكتابة ، فلا زكاة فيه بلا خلاف لما ذكره المصنف ، ( الثاني ) أن يكون لازما وهو ماشية بأن كان له في ذمة إنسان أربعون شاة سلما أو قرضا ، فلا زكاة فيها أيضا بلا خلاف ، لأن شرط زكاة الماشية السوم ، ولا توصف التي في الذمة بأنها سائمة .

( الثالث ) أن يكون دراهم أو دنانير أو عرض تجارة ، وهو مستقر ، ففيه قولان مشهوران ، " القديم " : لا تجب الزكاة في الدين بحال لأنه غير معين " ، والجديد " الصحيح باتفاق الأصحاب : وجوب الزكاة في الدين على الجملة ، وتفصيله أنه إن تعذر استيفاؤه لإعسار من عليه أو جحوده ولا بينة أو مطله أو غيبته فهو كالمغصوب وفي وجوب الزكاة فيه طرق تقدمت في باب زكاة الماشية ، والصحيح وجوبها . وقيل : تجب في الممطول . والدين على مليء غائب بلا خلاف . وإنما الخلاف فيما سواهما ، وبهذا الطريق قطع صاحب الحاوي وغيره وليس كذلك بل المذهب طرد الخلاف . فإن قلنا بالصحيح وهو الوجوب لم يجب الإخراج قبل حصوله بلا خلاف ولكن في يده أخرج عن المدة الماضية . هذا معنى الخلاف . وأما إذا لم يتعذر استيفاؤه بأن كان على مليء باذل أو جاحد عليه بينة أو كان القاضي يعلمه وقلنا : القاضي يقضي بعلمه فإن كان حالا وجبت الزكاة بلا شك ووجب إخراجها في الحال ، وإن كان مؤجلا فطريقان مشهوران ذكرهما المصنف بدليليهما ( أصحهما ) عند المصنف والأصحاب أنه على القولين في المغصوب ، ( أصحهما ) تجب الزكاة ، ( والثاني ) لا تجب وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي .

( والطريق الثاني ) طريقة ابن أبي هريرة لا زكاة فيه قولا واحدا ، كالمال الغائب الذي يسهل إحضاره ; فإن قلنا بوجوب الزكاة ، فهل يجب إخراجها في الحال ؟ فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين وآخرون ( أصحهما ) [ ص: 507 ] لا يجب ، وبه قطع الجمهور كالمغصوب . قال إمام الحرمين : ولأن الخمسة نقدا تساوي ستة مؤجلة ، ويستحيل أن يسلم أربعة نقدا تساوي خمسة مؤجلة ، فوجب تأخير الإخراج إلى القبض ، قال : ولا شك أنه لو أراد أن يبرئ فقيرا عن دين له عليه ، ليوقعه عن الزكاة لم يقع عنها ; لأن شرط أداء الزكاة أن يتضمن تمليكا محققا ، والله تعالى أعلم .

وأما المال الغائب فإن لم يكن مقدورا عليه لانقطاع الطريق أو انقطاع خبره فهو كالمغصوب ، هكذا قال المصنف والجمهور ، وقيل : تجب الزكاة قطعا ; لأن تصرفه فيه نافذ بخلاف المغصوب ، ولا خلاف أنه لا يجب الإخراج عنه قبل عوده وقبضه ، وإن كان مقدورا على قبضه وجبت الزكاة منه بلا خلاف ، ووجب إخراجها في الحال بلا خلاف ويخرجها في بلد المال ، فإن أخرجها في غيره ففيه خلاف نقل الزكاة . هذا إذا كان المال مستقرا فإن كان سائرا غير مستقر لم يجب إخراج زكاته قبل أن يصل إليه ، فإذا وصل أخرج عن الماضي بلا خلاف ، هذا هو الصواب في مسألة الغائب ، وما وجدته خلافه في بعض الكتب فنزله عليه ، ومما يظن مخالفا قول المصنف ( فإن كان مقدورا على قبضه وجبت فيه الزكاة ، إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يرجع إليه ) وهكذا قاله ابن الصباغ ، وكلامهما محمول على ما ذكرنا إذا كان سائرا غير مستقر ، هكذا صرح به أبو المكارم في العدة وغيره ، وجزم الشيخ أبو حامد بأنه يخرجها في الحال ، وهو محمول على ما إذا كان المال مستقرا في بلد ، والله تعالى أعلم .

قال أصحابنا : كل دين وجب إخراج زكاته قبل قبضه ، وجب ضمه إلى ما معه من جنسه لإكمال النصاب ، ويلزمه إخراج زكاتهما في الحال ، وكل دين لا يجب إخراج زكاته قبل قبضه ، ويجب بعد قبضه فإن كان معه من جنسه مالا يبلغ وحده نصابا ، ويبلغ بالدين نصابا فوجهان مشهوران ( أحدهما ) وبه قطع صاحب البيان : لا يلزمه زكاة ما معه في الحال ، فإذا قبض الدين لزمه زكاتهما عن الماضي ( وأصحهما ) عند الرافعي وغيره يجب إخراج قسط ما معه . قالوا : وهما مبنيان على أن التمكن [ ص: 508 ] شرط في الوجوب أو في الضمان إن قلنا بالأول لا يلزمه لاحتمال أن لا يحصل الدين وإن قلنا بالثاني لزمه . والله تعالى أعلم .

وكل دين لا زكاة فيه في الحال ولا بعد عوده عن الماضي ، بل يستأنف له الحول إذا قبض ، فهذا لا يتم به نصاب ما معه ، وإذا قبضه لا يزكيها عن الماضي بلا خلاف ، بل يستأنف لهما الحول ، والله تعالى أعلم .

أما إذا كان له مائة درهم حاضرة ومائة غائبة ، فإن كانت الغائبة مقدورا عليها لزمه زكاة الحاضر في الحال في موضعها وإن لم يكن مقدورا عليه ، فإن قلنا : لا زكاة فيه إذا عاد فلا زكاة في الحاضر لنقصه عن النصاب . وإن قلنا : يجب زكاته فهل يلزمه زكاة الحاضر في الحال ؟ فيه الوجهان السابقان في الدين بناء على أن التمكن شرط في الوجوب ، أما الضمان فإن لم نوجبها في الحال أوجبناها فيه ، وفي الغائب إن عاد وإلا فلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية