صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( إذا دفع إلى رجل ألف درهم قراضا على أن الربح بينهما نصفان فحال الحول وقد صار ألفين بنيت على أن المضارب متى يملك الربح ؟ وفيه قولان .

( أحدهما ) : يملكه بالمقاسمة .

( والثاني ) : يملكه بالظهور ، فإن قلنا بالأول كانت زكاة الجميع على رب المال ، فإن أخرجها من عين المال فمن أين تحسب ؟ فيه ثلاثة أوجه .

( أحدها ) : أنها تحسب من الربح ; لأنها من مؤن المال فتحسب من الربح كأجرة النقال والوزان والكيال .

( والثاني ) : تحتسب من رأس المال ; لأن الزكاة دين عليه في الذمة في أحد القولين ، فإذا قضاه من المال حسب من رأس المال كسائر الديون .

( والثالث ) : أنها تحسب من رأس المال والربح جميعا ; لأن الزكاة تجب في رأس المال ، والربح في حسب المخرج منها . وإن قلنا : إن العامل يملك حصته من الربح بالظهور ، وجب على رب المال [ ص: 30 ] زكاة ألف وخمسمائة وإخراجها على ما ذكرناه .

وتجب على العامل زكاة خمسمائة ، غير أنه لا يلزمه إخراجها ; لأنه لا يدري هل يسلم له أم لا ؟ فلم يلزمه إخراج زكاته كالمال الغائب ، فإن أخرج زكاته من غير المال جاز ، وإن أراد إخراجه من المال ففيه وجهان .

( أحدهما ) : ليس له ; لأن الربح وقاية لرأس المال فلا يخرج منه الزكاة .

( والثاني ) : أن له ذلك ; لأنهما دخلا على حكم الإسلام ووجوب الزكاة ) .


( الشرح ) عامل القراض لا يملك حصته من الربح إلا بالقسمة في أصح القولين . وفي الثاني يملكها بالظهور ، فإذا دفع إلى رجل نقدا قراضا وهما جميعا من أهل الزكاة فحال عليه الحول - فإن قلنا : العامل لا يملك حصته من الربح إلا بالقسمة - لزم المالك زكاة رأس المال والربح جميعا - فإن الجميع ملكه .

هكذا قطع به المصنف والأصحاب . وأشار إمام الحرمين إلى احتمال في تخريج الوجوب على المالك في نصيب العامل على الخلاف في المغصوب والمجحود لتأكد حق العامل في حصته ، والمذهب : ما قاله الأصحاب . قال أصحابنا : وحول الربح مبني على حول الأصل إلا إذا صار ناضا في أثناء الحول ففيه الخلاف السابق ، ثم إن أخرج المالك الزكاة من موضع آخر فذاك ، وإن أخرجها من نفس مال القراض فهو جائز بلا خلاف ، وفي حكم المخرج ثلاثة أوجه مشهورة حكاها المصنف والأصحاب .

( أصحها ) عند الشيخ أبي حامد والبغوي والجمهور وهو المنصوص : أنه يحسب من الربح كالمؤن التي تلزم المال ، كأجرة حمال وكيال ووزان وغير ذلك ، وكما أن فطرة عبيد التجارة من الربح بلا خلاف ، ونقله البغوي عن نص الشافعي ، وكذا أروش جنايتهم ( والثاني ) : يحسب من رأس المال ; لأن الزكاة دين على المالك ، فحسب على المالك كما لو أخذ قطعة من المال وقضى بها دينا آخر ( والثالث ) : يحسب من رأس المال والربح جميعا ; لأنها تجب فيهما فحسبت فيهما ، ويكون المخرج كالطائفة من المال استردها المالك ويقسط عليهما .

[ ص: 31 ] مثاله ) : رأس المال مائتان والربح مائة فثلثا المخرج من رأس المال وثلثه من الربح . قال الخراسانيون : هذا الخلاف مبني على أن تعلق الزكاة بالعين أم بالذمة ؟ إن قلنا بالعين فكالمؤن وإلا فهو استرداد . ومنهم من قال : إن قلنا بالعين فكالمؤنة وإلا فوجهان ، واستبعد إمام الحرمين هذا البناء وقال : ليس هو بمرضي . قال : ولا يمتنع إثبات الخلاف على قول تعلق الزكاة بالعين من جهة شيوع تعلق الزكاة في الجميع . أما إذا قلنا : العامل يملك حصته بالظهور فعلى المالك زكاة رأس المال وحصته من الربح بلا خلاف ، ولا يلزمه زكاة حصة العامل بلا خلاف .

قال المصنف والأصحاب : وحكم الإخراج والحول كما سبق ، وهو أنه إن بقيت السلعة إلى آخر الحول زكى الربح بحول الأصل ، وإن نض الربح قبل الحول فهل يضم إلى حول الأصل ؟ أم يفرد بحول ؟ فيه الخلاف السابق ، ثم إن أراد إخراج الزكاة من مال القراض من أين يحسب ؟ فيه الأوجه الثلاثة .

هذا حكم المالك . أما العامل على هذا القول فهل يلزمه زكاة نصيبه من الربح ؟ فيه ثلاث طرق حكاها الفوراني وإمام الحرمين وآخرون ( وأصحها ) وبه قطع المصنف وجمهور العراقيين وصاحب " التقريب " والصيدلاني وغيرهم : القطع بوجوبها ; لأنه مالك قادر على الفسخ والمقاسمة في كل وقت ، والتصرف بعد القسمة في نصيبه ، فلزمه الزكاة .

( والثاني ) : أنه على قول المغصوب والمجحود ; لأنه غير متمكن في الحال من كمال التصرف .

( والثالث ) : القطع بعدم الزكاة عليه لضعف ملكه وعدم استقراره لاحتمال الخسران فأشبه المكاتب . وهذه طريقة القفال وضعفها إمام الحرمين ، فحصل أن المذهب الإيجاب على العامل ، وفي ابتداء حوله في نصيبه خمسة أوجه : ( أصحها ) : المنصوص من حين الظهور ; لأنه ملك من حينئذ .

( والثاني ) : من حين يقوم المال على المالك لأجل الزكاة ; لأنه لا يتحقق الربح إلا بذلك ، حكاه الشيخ أبو حامد والأصحاب . [ ص: 32 ] والثالث ) : حكاه أبو حامد أيضا والأصحاب من حين المقاسمة ; لأنه لا يستقر ملكه إلا من حينئذ ، وهذا غلط وإن كان مشهورا ; لأن حاصله أن العامل لا زكاة في نصيبه ; لأنه بعد المقاسمة ليس بعامل ، بل مالك ملكا مستقرا كامل التصرف فيه ، والتفريع على أنه يملك بالظهور . فالقول بأنه لا يكون حوله إلا من المقاسمة رجوع إلى أنه لا زكاة عليه قبل القسمة .

( والوجه الرابع ) : حوله حول رأس المال ، حكاه إمام الحرمين والغزالي وغيرهما . وهذا أيضا غلط صريح ; لأنه حينئذ لم يكن مالكا فكيف يبنى ملكه وحوله على حول غيره ؟ ، ولا خلاف أن حول الإنسان لا يبنى على حول غيره إلا الوارث على قول ضعيف ; لكونه قائما مقام المورث .

( الخامس ) : أنه من حين اشترى العامل السلعة . حكاه البندنيجي وغيره . قالوا : وهو غلط . قال أصحابنا : ثم إذا تم حول العامل ونصيبه لا يبلغ نصابا ، لكنه مع جملة المال يبلغ نصابا - فإن أثبتنا الخلطة في النقدين - فعليه الزكاة وإلا فلا ، إلا أن يكون له من جنسه ما يكمل به النصاب ، وهذا إذا لم نقل : ابتداء الحول من المقاسمة ، فإن جعلناه منها سقط اعتبار الخلطة . قال أصحابنا : وإذا أوجبنا الزكاة على العامل لم يلزمه إخراجها قبل القسمة . وهذا هو المذهب وبه قطع المصنف وسائر العراقيين والجمهور .

فإذا اقتسما زكى ما مضى ، وفيه وجه : أنه يلزمه الإخراج في الحال ; لتمكنه من القسمة وهو قول صاحب " التقريب " حكاه صاحب " الإبانة " و " البيان " وآخرون عنه ، والصواب : الأول ; لأن المال ليس في يده ولا تصرفه ، فلا يكون أكبر من المال الغائب الذي ترجى سلامته ويخاف تلفه .

قال أصحابنا : فإن أخرج الزكاة من موضع آخر فذاك ، وإن أراد إخراجها من مال القراض ، فهل له الاستقلال به أم للمالك منعه ؟ فيه [ ص: 33 ] وجهان مشهوران ذكرهما المصنف والأصحاب : ( أصحهما ) عند جماهير الأصحاب وهو المنصوص : يستقل به بغير إذن المالك ; لأن الزكاة وجبت فيه ; ولأنه مقتضى القراض على هذا القول .

( والثاني ) : ليس له ذلك وللمالك منعه ; لأن الربح وقاية لرأس المال فلعله يخسر . قال البندنيجي : هذان الوجهان مبنيان على أن الزكاة هل تتعلق بالعين أم بالذمة ؟ إن قلنا : بالعين ، فله ذلك وإلا فلا . هذا كله إذا كان المالك والعامل من أهل وجوب الزكاة جميعا ، فأما إذا كان المالك من أهلها دون العامل وقلنا : الجميع للمالك ما لم يقسم فعليه زكاة الجميع . وإن قلنا بالقول الآخر فعليه زكاة رأس المال ونصيبه من الربح ، ولا يكمل نصيبه إذا لم يبلغ نصابا بنصيب العامل ; لأنه ليس من أهل الزكاة فلا تصح خلطته . وأما إذا كان العامل من أهل وجوب الزكاة دون المالك - فإن قلنا : كله للمالك قبل القسمة - فلا زكاة - وإن قلنا : للعامل حصته من الربح ففي وجوب الزكاة عليه الخلاف السابق ، فإن أوجبناها فذلك إذا بلغت حصته نصابا أو كان له ما يتم به نصاب ، ولا تثبت الخلطة ولا يجيء في اعتبار الحول هنا إلا الوجه الأول والثالث ، وليس له إخراج الزكاة من غير المال بلا خلاف ; لأن المالك لم يدخل في العقد على إخراج زكاة من المال . هكذا قاله الأصحاب .

قال الرافعي : والمانع منع ذلك ; لأنه عامل من عليه الزكاة . والله أعلم .

فرع في مسائل تتعلق بالتجارة ( إحداها ) : إذا باع عرض التجارة بعد وجوب الزكاة قبل إخراجها ففيه ثلاث طرق .

( أصحها ) وبه قطع جمهور الأصحاب في الطريقين : صحة بيعه قولا واحدا .

( والطريق الثاني ) : فيه الخلاف السابق في بيع غيره من أموال الزكاة قبل إخراجها ، كبيع السائمة والثمرة والحب والنقد بعد وجوب الزكاة قبل إخراجها . حكاه صاحب " البيان " وآخرون ( والثالث ) : إن قلنا : يخرج زكاة التجارة من نفس العرض فهو على الخلاف ، وإن قلنا : يخرج من القيمة فهو كما لو وجبت شاة في خمس من الإبل ، فباعها قبل إخراج الشاة ، وفيه طريقان سبقا في موضعهما .

وهذا [ ص: 34 ] الطريق قاله وحكاه الرافعي ، قال الرافعي : وهذان الطريقان شاذان ، والمذهب القطع بالجواز ، كما قطع به الجمهور ، وسواء باع بقصد التجارة ، أم بقصد اقتناء المال ، أم بلا قصد ; لأن تعلق الزكاة به لا يبطل ، ، وإن صار مال قنية ، كما لو نوى الاقتناء بلا بيع . ولو وهب مال التجارة أو أعتق عبدها ، قال الرافعي : هو كبيع الماشية بعد وجوب الزكاة فيها ; لأن الهبة والإعتاق يبطلان متعلق زكاة التجارة ، كما أن بيع الماشية يبطل متعلق زكاتها ، قال : ولو باع مال التجارة بعد وجوبها بمحاباة فقدر المحاباة كالموهوب ، فإن لم تصحح الهبة بطل في ذلك القدر ، وفي الثاني قولا تفريق الصفقة .

( الثانية ) : إذا كان مال التجارة حيوانا فله حالان .

( أحدهما ) : أن يكون مما تجب الزكاة في عينه كنصاب الماشية وسبق حكمه .

( والثاني ) : أنه لا يجب في عينه كالعبيد والجواري والخيل والحمير والمعلوفة من الغنم ، فهل يكون نتاجها مال تجارة ؟ فيه وجهان مشهوران . أصحهما : يكون ; لأن الولد جزء من أمه ، قالوا : والوجهان فيما إذا لم تنقص قيمة الأم بالولادة ، فإن نقصت بأن كانت قيمتها ألفا فصارت بالولادة ثمانمائة وقيمة الولد مائتان ، جبر نقص الأم بالولد وزكى الألف ، ولو صارت قيمة الأم تسعمائة جبرت المائة من قيمة الولد ، كذا قاله ابن سريج والأصحاب .

قال إمام الحرمين : وفيه احتمال ظاهر ومقتضى قولنا : إنه ليس مال تجارة لا يجبر به الأم كالمستفاد بسبب آخر . قال أصحابنا : وثمار أشجار التجارة كأولاد حيوانها ففيها الوجهان ، فإن لم يجعل الأولاد والثمار مال تجارة فهل يجب فيها في السنة الثانية فما بعدها زكاة ؟ قال إمام الحرمين : الظاهر أنا لا نوجب ; لأنه منفصل عن تبعية الأم وليس أصلا في التجارة ، وأما إذا ضممناها إلى الأصل وجعلناها مال تجارة ففي حولها طريقان .

( أصحهما ) : حولها [ ص: 35 ] حول الأصل كنتائج السائمة وكالزيادة المتصلة .

( والثاني ) : على قولي ربح الناض ، فعلى أحدهما ابتداء حولها من انفصال الولد وظهور الثمار .

( الثالثة ) حكى البغوي والأصحاب عن ابن الحداد فرعا ووافقوه عليه ، وهو إذا اشترى شقصا مشفوعا بعشرين دينارا للتجارة فحال الحول وقيمته مائة ، لزمه زكاة مائة ، ويأخذه الشفيع بعشرين ، ولو اشتراه بمائة فحال عليه الحول وقيمته عشرون ، لزمه زكاة عشرين ويأخذه الشفيع بمائة ، وحكى إمام الحرمين ما ذكره ابن الحداد في الصورة ، ثم قال : قال الشيخ أبو علي : ومن أصحابنا من خرج قولا : إنه لا زكاة عليه ; لأن ملكه معرض للزوال بتسلط الشفيع عليه ، ولو تصرف في الدار فتصرفه معرض للنقض من جهة الشفيع ، بخلاف الصداق ، فإن تصرف المرأة فيه لا ينقض لو فرض فرقة قبل الدخول .

قال الإمام : وهذا الذي ذكره ، وإن كان يتوجه تفريعه فالوجه : أن يستثنى منه قدر عشرين دينارا ، فإن ملكه [ وإلا ] كان معرضا للزوال في الشقص فيبذل في مقابلته عشرون دينارا ، وعين المال ليست مقصودة في زكاة التجارة ، وإنما المقصود المالية وهي موجودة دائما في مقدار عشرين دينارا .

قال الإمام : ثم ذكر الشيخ أبو علي وجها أن للمشتري أن يقول : قد وجبت الزكاة في مالية الدار فيخرج الزكاة منها ، ويكون ذلك كنقصان صفة في الشقص فيأخذ الشفيع الباقي بجميع العشرين كما لو نقص بآفة سماوية ، قال الإمام : وهذا الوجه ضعيف ; لأن نقصه بالزكاة بسبب قصده التجارة لا في نفسه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية