صفحة جزء
[ ص: 48 ] قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ويجب في الركاز الخمس لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { وفي الركاز الخمس } ; ولأنه اتصل إليه من غير تعب ولا مؤنة ، فاحتمل فيه الخمس ، ولا يجب ذلك إلا على من تجب عليه الزكاة ; لأنه زكاة ، ولا تجب إلا فيما وجد في موات أو مملوك لا يعرف مالكه ، لأن الموات لا مالك له ، وما لا يعرف مالكه بمنزلة ما لا مالك له . فأما إذا وجده في أرض يعرف مالكها ، فإن كان ذلك لحربي فهو غنيمة ، وإن كان لمسلم أو لمعاهد فهو لمالك الأرض ، فإن لم يدعه مالك الأرض ، فهو لمن انتقلت الأرض منه إليه ) .


( الشرح ) حديث أبي هريرة رواه البخاري ومسلم . والركاز : هو المركوز بمعنى المكتوب . ومعناه في اللغة : المثبوت . ومنه ركز رمحه يركزه - بضم الكاف - إذا غوره وأثبته . وهو في الشرع دفين الجاهلية . ويجب فيه الخمس بلا خلاف عندنا .

قال ابن المنذر : وبه قال جميع العلماء . قال : ولا نعلم أحدا خالف فيه إلا الحسن البصري فقال : إن وجد في أرض الحرب ففيه الخمس ، وإن وجده في أرض العرب ففيه الزكاة . دليلنا : ما ذكره المصنف . قال الشافعي والأصحاب : لا يجب ذلك إلا على من عليه الزكاة ، سواء أكان رجلا أو امرأة ، رشيدا أو سفيها ، أو صبيا أو مجنونا . وحكم وجود العبد ما سبق في المعدن ، ولا يجب على مكاتب وذمي ، وفيهما قول ضعيف ، ووجه : أنه يلزمهما . قال صاحب " البيان " : حكاه أبو ثور عن الشافعي أنه يجب على الذمي ، ونقله ابن المنذر عن الشافعي ، ولم يحك عنه خلافه ، بل زاد ونقل الإجماع على وجوبه على الذمي . وهذا لفظه في الأشراف .

قال : قال كل من أحفظ عنه من أهل العلم : إن على الذمي في الركاز الخمس ، وبه قال مالك ، وأهل المدينة والثوري وأهل العراق من أصحاب الرأي وغيرهم ، والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وغيرهم . قال : وبه أقول . قال : وهذا يدل على أن سبيل الركاز سبيل الفيء لا سبيل الصدقات ، وهذا الذي نقله ابن المنذر عن الشافعي غريب [ ص: 49 ] مردود . وحكى صاحب " الحاوي " والقاضي أبو الطيب وجها : أن الكافر لا يملك ما يأخذه من المعدن والركاز كما لا يملك بالإحياء ، وهذا غلط ، وقد سبق في أول الباب الفرق بينهما عن صاحب " الحاوي " ، وأما السفيه فيملك الركاز كما يملك الصبي والمجنون . وحكى الماوردي عن سفيان الثوري : أن المرأة والعبد والصبي لا يملكون الركاز ، وهذا باطل ; لأن الركاز كسب لواجده ، وهؤلاء من أهل الاكتساب كما يكسبون بالاصطياد والاحتطاب ، وإذا ملكوا بالاكتساب وجبت الزكاة ; لأنهم من أهلها .

وأما الموضع الذي وجد فيه الركاز فقال أصحابنا : له حالان ( أحدهما ) : أن يكون في دار الإسلام ، فإن وجده في موضع لم يعمره مسلم ولا ذو عهد فهو ركاز ، سواء أكان مواتا أو من القلاع العادية التي عمرت في الجاهلية ، وهذا لا خلاف فيه ، وإن وجده في طريق مسلوك فالمذهب الصحيح الذي قطع به العراقيون والقفال : أنه لقطة ، وقيل : ركاز ، وقيل : فيه وجهان ( أصحهما ) : لقطة ( والثاني ) : ركاز . ولو وجده في المسجد فلقطة . هذا هو المذهب وبه قطع البغوي والجمهور . قال الرافعي : ويجيء فيه الوجه الذي في الطريق أنه ركاز ، وما عدا هذا الموضع ( قسمان ) مملوك وموقوف والمملوك نوعان له ولغيره ، فالذي لغيره إذا وجد فيه كنزا لم يملكه الواجد ، بل إن ادعاه مالك الأرض فهو له بلا يمين ، كالأمتعة التي في داره . وهذا الذي ذكرناه من كونه بلا يمين متفق عليه ، ونص عليه في " الأم " ، فإن لم يدعه فهو لمن انتقل إليه منه ملك الأرض ، فإن لم يدعه فلمن قبله ، وهكذا حتى ينتهي إلى الذي أحيا الأرض فيكون له ، سواء ادعاه أم لا ; لأن بالإحياء ملك ما في الأرض ، وبالبيع لم يزل ملكه عنه ، فإنه مدفون منقول لا يعد جزءا من الأرض فلم يدخل في البيع ، فإن كان الذي انتقل منه الملك ميتا فورثته قائمون مقامه . فإن قال [ ص: 50 ] بعضهم : هو لمورثنا وأباه بعضهم ، سلم إلى المدعي نصيبه وسلك بالباقي ما ذكرناه . وذكر الرافعي هذا الكلام ثم قال : هذا كلام الأصحاب تصريحا وإشارة ، قال : ومن المصرحين بأن الركاز يملك بإحياء الأرض القفال ، ورأى إمام الحرمين تخريج ملك الركاز بالإحياء على ما لو دخلت ظبية دارا فأغلق صاحبها الباب لا على قصد ضبطها ، وفيه وجهان ( أصحهما ) : لا يملكها لكن يصير أولى بها ، كذلك المحيي لا يملك الكنز لكن يصير أولى به ، والمذهب ما سبق : أنه يملكه بالإحياء . فعلى هذا إذا زال ملكه عن الأرض وجب طلبه ورد الكنز إليه ; لأنه ملكه عن رقبة الأرض ولم يدخل في البيع . وإن قلنا : لا يملكه ويصير أولى به ، فلا يبعد أن يقال : إذا زال ملكه عن رقبة الأرض بطل اختصاصه ، كما أن في مسألة الظبية إذا قلنا : لا يملكها ، ففتح الباب وأفلتت ملكها من اصطادها .

( قلت ) : وهذا احتمال أبداه إمام الحرمين . وقد نقل الإمام عن الأئمة : أنه يملك الكنز بالإحياء ولا يبطل حقه كالبيع . وهذا هو المذهب المعروف قال الرافعي : فإن قلنا : المحيي لا يملك الكنز بالإحياء ، فإذا دخل في ملكه أخرج الخمس ، ( وإن قلنا ) : يملكه بالإحياء ، فإذا احتوت يده على الكنز الذي كان في يد المشتري للأرض وقد مضت سنون وجب إخراج خمس الذي كان موجودا يوم ملكه وفيما بعده من السنين ، إلى أن صار في يده هل يلزمه زكاة ربع العشر من الأخماس الأربعة الباقية ؟ فيه الخلاف السابق في الضال والمغصوب ، وفي الخمس كذلك إن قلنا : لا تتعلق الزكاة بالعين ، وإن علقناها بها فعلى ما سبق من زكاة المواشي فيما إذا ملك نصابا وتكرر الحول عليه .

( النوع الثاني ) : أن تكون الأرض مملوكة له ، فإن كان أحياها فما وجده ركاز وعليه خمسه والباقي له ، ويجب الخمس في وقت دخوله في [ ص: 51 ] ملكه كما سبق . هذا هو المذهب .

وقال الغزالي : فيه وجهان بناء على احتمال الإمام الذي سبق بيانه . والصحيح ما سبق ، وإن كانت الأرض انتقلت إليه من غيره لم يحل له أخذه . بل يلزمه عرضه على من ملك الأرض منه ، ثم الذي قبله إن لم يدعه ، ثم هكذا ينتهي إلى المحيي كما سبق . ( القسم الثاني ) : إذا كانت الأرض موقوفة فالكنز لمن في يده الأرض كذا ذكره البغوي .

( الحالة الثانية ) : أن يجده في دار الحرب ، فينظر إن وجده في موات ، فإن كانوا لا يذبون عنه فهو كموات دار الإسلام بلا خلاف عندنا . وقال أبو حنيفة : هو غنيمة ولا يخمس بل كله للواجد ، وقال مالك : يكون بين الجيش ، وقال الأوزاعي : يؤخذ خمسه والباقي بين الجيش . دليلنا عموم الحديث : { وفي الركاز الخمس } والقياس على الموجود في دار أهل العهد فقد وافقونا فيها ، وإن كانوا يذبون عن ذبهم عن العمران فالصحيح الذي قطع به جماهير الأصحاب في الطريقتين : أنه ركاز كالذي لا يذبون عنه ; لعموم الحديث .

وقال الشيخ أبو علي السنجي : هو كعمرانهم ، وإن وجد في موضع مملوك لهم نظر - إن أخذ بقهر وقتال - فهو غنيمة ، كأخذ أموالهم ونقودهم من بيوتهم فيكون خمسه لأهل خمس الغنيمة ، وأربعة أخماسه لواجده . وإذا أخذ بغير قتال ولا قهر فهو فيء ومستحقه أهل الفيء .

وكذا ذكره إمام الحرمين . قال الرافعي : هذا محمول على ما إذا دخل دار الحرب بغير أمان . أما إذا دخل بأمان فلا يجوز له أخذ الكنز لا بقتال ولا بغيره . كما [ أنه ] ليس له خيانتهم في أمتعتهم ، فإن لزمه رده . قال : وقد نص على هذا الشيخ أبو علي قال : ثم في كونه فيئا إشكال ; لأن من دخل بغير أمان وأخذ [ ص: 52 ] مالهم بلا قتال ، إما أن يأخذه خفية فيكون سارقا ، وإما جهارا فيكون مختلسا ، وكلاهما ملك خاص للسارق والمختلس . قال : وتأييد هذا الإشكال بأن كثيرا من الأئمة أطلقوا القول بأنه غنيمة ، منهم الصيدلاني وابن الصباغ . قلت : وكذا أطلق المصنف وآخرون : أنه غنيمة . وحيث قلنا : غنيمة - فإن كان الواجد وجده - اختص بأربعة أخماس وخمسه لأهل خمس الغنيمة ، وإن كان في جيش كان مشتركا بين الجيش ، نص عليه الشافعي والأصحاب . قال الشافعي : وهو كالمأخوذ من منازلهم . قال الدارمي : ولو وجد في قبر جاهلي أو في خربة فهو ركاز .

( فرع ) إذا وجد الركاز في دار الإسلام أو في دار أهل العهد وعرف مالك أرضه لم يكن ركازا ولا يملكه الواجد ، بل يجب حفظه حتى يجيء صاحبها فيدفعه إليه . فإن أيس من مجيئه كان لبيت المال كسائر الأموال الضائعة . هكذا نقله الأصحاب . قال صاحب الحاوي : فإن قيل : هلا كان لقطة كما لو وجد ضرب الإسلام ( فالجواب ) : أن ضرب الإسلام وجد في غير ملك فكان لقطة كالثوب الموجود وغيره ، وهذا وجد في ملك فهو لمالك الأرض في ظاهر الحكم .

قال : وما ذكره الشافعي من إطلاق اللفظ فهو على التفصيل الذي ذكرناه .

( فرع ) قال في البيان : قال الشيخ أبو حامد : قال أبو إسحاق المروزي : إذا بنى كافر بناء ، وكنز فيه كنزا وبلغته الدعوة وعاند فلم يسلم ثم هلك وباد أهله فوجد ذلك الكنز ، كان فيئا لا ركازا ; لأن الركاز إنما هو أموال الجاهلية العادية الذين لا يعرف هل بلغتهم دعوة أم لا ؟ [ ص: 53 ] فأما من بلغتهم فمالهم فيء فخمسه لأهل الخمس وأربعة أخماسه للواجد . وحكى القاضي أبو الطيب أيضا هذه المسألة كما سبق . قال : لأنه مال مشرك رجع إلينا بلا قتال ، وإنما يكون الكنز ركازا إذا لم يعلم حاله ، وهل بلغته الدعوة فيحل ماله ؟ أم لا فلا يحل ؟ .

( فرع ) قال صاحب " الحاوي " : لو أقطع الإمام إنسانا أرضا فظهر فيها ركاز ، فهو للمقطع سواء وجده هو أو غيره ; لأنه ملك الأرض بالإقطاع كما يملكها بالشرى وكما لو أحيا أرضا فوجد فيها ركازا ، فإنه للمحيي سواء وجده هو أو غيره ; لأنها ملكه . هذا كلامه . ومراده : أقطعه الأرض تمليكا لرقبتها . وكذا قال الدارمي : إذا أقطعه السلطان أرضا ملكها سواء عمرها أم لا ، فمن وجد فيها ركازا فهو للمقطع ، قال : وقيل : لا يملكه إلا بالإحياء قال : وهو غلط مخالف لنصه .

( فرع ) لو تنازع بائع الدار ومشتريها في ركاز وجد فيها فقال المشتري : هو لي وأنا دفنته ، وقال البائع مثل ذلك ، أو قال : ملكته بالإحياء أو تنازع معير ومستعير ، أو مؤجر ومستأجر هكذا ، فالقول قول المشتري ، والمستعير والمستأجر بأيمانهم ; لأن اليد لهم ، فهو كالنزاع في متاع الدار ، هذا مذهب الشافعي والأصحاب ،

وقال المزني : القول قول المؤجر والمعير ; لأنه مالك الأرض ، قال الأصحاب : هذا غلط ; لأن الدار وما فيها في يد المستأجر والمستعير ، هذا إذا احتمل صدق صاحب اليد ، ولو على بعد ، فأما إذا لم يحتمل لكون مثله لا يحتمل دفنه في مدة يده ، فلا يصدق صاحب اليد بلا خلاف . ولو اتفقا على أنه ركاز لم يدفنه صاحب اليد ، فهو لصاحب الأرض بلا خلاف ، ولو وقع نزاع المستأجر والمؤجر أو المعير والمستعير بعد رجوع الدار إلى يد المالك ، فإن قال المعير أو المؤجر : أنا دفنته بعد عود الدار إلي ، فالقول قوله بيمينه بشرط الإمكان ، ولو قال : دفنته قبل خروج الدار من يدي فوجهان حكاهما إمام الحرمين والغزالي وآخرون ( أحدهما ) : القول قوله أيضا ; لأنه في يده في الحالين ( وأصحهما ) : القول قول المستأجر والمستعير ; لأن المالك اعترف بحصول الكنز [ ص: 54 ] في يده ، فيده تنسخ اليد السابقة ، ولهذا لو تنازعا قبل الرجوع كان القول قوله . قال إمام الحرمين : ولو وجد ركازا في ملك غيره ، وكان ذلك الملك مستطرقا يستوي الناس في استطراقه من غير منع ، فقد ذكر صاحب " التقريب " فيه خلافا ، قال إمام الحرمين : وموضع الخلاف فيه تأمل ، قال : وظاهر كلامه أنه أورده في حكمين ( أحدهما ) : إذا وجد غير مالك تلك الساحة الكنز ، ولم يكن مالك الأرض محييا ابتداء - وجهلنا محييها - فهل يحل للواجد أخذه ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) : لا يحل ; لأنه لم يصادفه في مكان مباح لا اختصاص به لأحد ، وهذا شرط ( والثاني ) : يحل ; لأن الملك وإن كان مختصا ، فالاستطراق شائع والمنع زائل ، وليس مالك الأرض محييا . قال الإمام : والظاهر عندي : أن الواجد لا يملكه ، وإنما الخلاف في حكم التنازع ، فإذا قال كل منهما : أنا وضعته فأيهما يصدق ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) : مالك الأرض لليد على الأرض ( والثاني ) : الواجد ; لثبوت يده على الكنز في الحال ، ولو تنازعا قبل إخراج الكنز من الأرض صدق مالك الأرض بيمينه بلا خلاف .

التالي السابق


الخدمات العلمية