صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ولا يجب إلا في مال جاهلي يعلم أن مثله لا يضرب في الإسلام ; لأن الظاهر أنه لم يملكه مسلم إلى أن وجده ، وإن كان من ضرب الإسلام كالدراهم الأحدية وما عليه اسم المسلمين فهو لقطة ، وإن كان يمكن أن يكون من مال المسلمين ويمكن أن يكون من مال الجاهلية ، بأن لا يكون عليه علامة لأحد فالمنصوص : أنه لقطة ; لأنه يحتمل الأمرين فغلب حكم الإسلام ، ومن أصحابنا من قال : هو ركاز ; لأن الموضع الذي وجد فيه موات يشهد بأنه ركاز ) .


( الشرح ) قال أصحابنا رحمهم الله : الكنز الموجود في الموات ونحوه مما سبق ثلاثة أقسام ( أحدها ) : يعلم أنه من ضرب الجاهلية بأن يكون عليه اسم لملك من ملوكهم ، أو غير ذلك من العلامات ، فهذا ركاز بلا خلاف ، فيجب فيه الخمس والباقي لواجده ( والثاني ) : أن يعلم أنه من ضرب الإسلام بأن يكون عليه اسم ملك من ملوك الإسلام [ ص: 55 ] أو آية أو آيات من القرآن كالدراهم الأحدية بتخفيف الحاء - وهي التي عليها { قل هو الله أحد } - فهذا لا يملكه الواجد بلا خلاف بل يلزمه رده إلى مالكه إن علمه ، وإن لم يعلمه فطريقان ، قطع المصنف والجماهير في كل الطرق بأنه لقطة يعرفه واجده سنة ، ثم يتملكه إن لم يظهر مالكه .

( الطريق الثاني ) : حكاه إمام الحرمين والبغوي وفيه وجهان ( أصحهما ) : هذا ( والثاني ) : لا يكون لقطة ، بل يحفظه على مالكه أبدا ، حكاه البغوي عن القفال وحكاه إمام الحرمين عن الشيخ أبي علي السنجي ، قال : فعلى هذا يمسكه الواجد أبدا ، وأن للسلطان حفظه في بيت المال كسائر الأموال الضائعة ، فإن رأى الإمام حفظه أبدا فعل ، وإن رأى اقتراضه لمصلحة فعل ما سنذكره في الأموال الضائعة إن شاء الله تعالى ، وعلى هذا الوجه لا يملكه الواجد بحال .

وقال أبو علي : والفرق بينه وبين اللقطة : أن اللقطة تسقط من مالكها في مضيعة ، فجوز الشرع لواجدها تملكها بعد التعريف ترغيبا للناس في أخذها وحفظها ، وأما الكنز المذكور فمحرز بالدفن غير مضيع ، فأشبه الإبل الممتنعة من السباع إذا وجدها في الصحراء ، فإنه لا يجوز أخذها للتملك .

قال أبو علي : وهذا نظير من طيرت الريح ثوبا إلى داره أو حجره ، فإنه لا يملكه بالتعريف ، وقد خالف أبو علي غيره في هذا الاستشهاد ، وقال : الثوب المذكور لقطة يعرف ويملك ، والمذهب ما سبق عن الأصحاب : أن الكنز المذكور لقطة . قال إمام الحرمين : ولو انكشفت الأرض عن الكنز بسيل ونحوه ، فما أدري ما يقول أبو علي فيه ، وهذا المال البارز ضائع ، قال : واللائق بقياسه أن لا يثبت التقاطه للتملك اعتبارا بأصل الوضع ، كما حكينا عنه في مسألة الثوب ، هذا كلام الإمام ، وقد جزم صاحب " الحاوي " ، وصرح : بأن ما ظهر بالسيل فوجده إنسان كان ركازا [ ص: 56 ] قطعا ، قال : ولو رآه ظاهرا وشك هل أظهره السيل أم كان ظاهرا بغير السيل ، فهل هو لقطة ؟ أم ركاز ؟ فيه الخلاف الذي سنذكره إن شاء الله تعالى فيما إذا شك هل هو دفن إسلام ؟ أم جاهلية ؟ والله أعلم .

( القسم الثالث ) : أن لا يكون في الموجود علامة يعلم أنه من دفن الإسلام أو من الجاهلية ، بأن لا يكون عليه علامة أصلا ، أو يكون عليه علامة وجدت مثلها في الجاهلية والإسلام أو كان حليا أو إناء ، ففيه خلاف حكاه جماعة قولين ، وآخرون وجهين ، وحكاه المصنف وآخرون قولا ووجها ، والصواب : قولان نقل المصنف أحدهما عن نص الشافعي ، وكذا نقله الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والبغوي وآخرون .

ونقل ابن الصباغ وآخرون عن نص الشافعي في " الأم : " أنه ركاز ، وقال صاحب " الحاوي " : قال أصحابنا البصريون : يكون ركازا ، وحكوه عن نص الشافعي ، واتفق الأصحاب على أن الأصح أنه لقطة ، وبه قطع السرخسي في " الإملاء " والجرجاني في " التحرير " وآخرون ، وصححه الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والبغوي والمصنف والباقون ; لأنه مملوك ، فلا يستباح إلا بيقين . وعن الشيخ أبي علي السنجي هنا روايتان حكاهما الرافعي ( أحدهما ) : موافقة الأصحاب في كونه لقطة ( والثانية ) : على وجهين ( أحدهما ) : هذا ( والثاني ) : أنه مال ضائع كما قال في القسم الثاني .

قال الرافعي : واعلم أن الحكم مدار على كونه من دفن الجاهلية لا أنه من ضربهم ، فقد يكون من ضربهم ويدفنه مسلم بعد أن وجده وأخذه وملكه ، وهذا الذي قاله الرافعي تفريع على الأصح من هذين القولين أن الكنز الذي لا علامة فيه يكون لقطة ، فأما إذا قلنا بالقول الآخر : إنه ركاز فالحكم مدار على ضرب الجاهلية ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية