صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ولا يجب ذلك إلا على مسلم ، فأما الكافر فإنه إن كان أصليا لم تجب عليه ) ; للخبر ، وإن كان مرتدا فعلى ما ذكرناه في أول الكتاب من [ ص: 63 ] الأقوال الثلاثة ، وأما المكاتب فالمذهب : أنها لا تجب عليه ; لأنه لا يلزمه زكاة المال ، فلا يلزمه زكاة فطر كالكافر . ومن أصحابنا من قال : تلزمه ; لأن زكاة الفطر تابعة للنفقة ونفقته على نفسه ، فكذلك فطرته . وهذا يبطل بالذمي ، فإن نفقته على نفسه ، ولا تلزمه الفطرة . ولا تجب إلا على من فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته وقت الوجوب ما يؤدي في الفطرة ، فإن لم يفضل عن نفقته شيء لم تلزمه ; لأنه غير قادر ، فإن فضل بعض ما يؤديه ففيه وجهان ( أحدهما ) : لا يلزمه ; لأنه عدم بعض ما يؤدي به الفرض فلم يلزمه ، كما لو وجبت عليه كفارة وهو يملك بعض رقبة ( والثاني ) : يلزمه ; لأنه لو ملك نصف عبد لزمه نصف فطرته ، فإذا ملك نصف الفرض لزمه إخراجه في فطرته .


( الشرح ) قال أصحابنا : شروط وجوب الفطرة ثلاثة : الإسلام والحرية واليسار .

( فالأول ) : الإسلام ، فلا فطرة على كافر أصلي عن نفسه ، ولا عن غيره إلا إذا كان له عبد مسلم ، أو قريب مسلم ، أو مستولدة مسلمة ، ففي وجوب فطرتهم عليه وجهان ( أصحهما ) : يجب ، وهما مبنيان على أن من لزمه فطرة غيره هل تجب على المؤدي ابتداء ؟ أم على المؤدى عنه ثم يتحملها المؤدي ؟ وفيه وجهان مشهوران ، وقد ذكرهما المصنف في الفصل الذي بعد هذا ، وهناك نوضحهما إن شاء الله تعالى ، ( فإن قلنا ) : يجب ، قال إمام الحرمين : لا صائر إلى أن المتحمل عنه ينوي ، بل يكفي إخراج الكافر ونيته ; لأنه المكلف بالإخراج ، ولو أسلمت ذمية تحت ذمي ودخل وقت وجوب الفطرة في حال تخلف الزوج ، ثم أسلم قبل انقضاء العدة ، ففي وجوب نفقتها في مدة التخلف خلاف مذكور في كتاب النفقات ، فإن لم نوجبها فلا فطرة ، وإلا فالفطرة على هذا الخلاف في عبده المسلم .

الأصح : الوجوب ، ذكره إمام الحرمين وغيره ، هذا كله في الكافر الأصلي . وأما المرتد فقال المصنف والأصحاب : فطرته كزكاة ماله وفيها ثلاثة أقوال سبقت في أول كتاب الزكاة ، وهي [ ص: 64 ] مبنية على بقاء ملكه وزواله وفيه ثلاثة أقوال ( أحدها ) : يزول فلا تجب زكاة ولا فطرة ( والثاني ) : يبقى فيجبان ( والثالث ) وهو الأصح : أنه موقوف .

فإن " عاد إلى الإسلام تبينا بقاءه فيجبان ، وإلا فلا . وحكم فطرة الرقيق المرتد حكم فطرة السيد المرتد ، ففيها الأقوال ، ذكره الماوردي وغيره وهو ظاهر ، هذا كله في مطالبة الكافر بالإخراج في الدنيا ، وأما أصل الخطاب فهو مخاطب بالزكاة والفطرة وسائر الفروع على الصحيح ، بمعنى أنه يزاد في عقوبته بسببها في الآخرة ، وقد سبقت المسألة موضحة في أول كتاب الصلاة ، وقد نقل الماوردي وغيره الإجماع : أن الكافر لا فطرة عليه لنفسه ( والشرط الثاني ) : الحرية ، فليس على الرقيق فطرة نفسه ولا فطرة غيره ، ولو ملكه السيد عبدا وقلنا : يملكه ، سقطت فطرته عن سيده لزوال ملكه ، ولا تجب على المتملك لضعف ملكه ، هذا هو المذهب وبه قطع الأصحاب كلهم إلا الماوردي والسرخسي : فحكيا قولا : أنها تجب على السيد ، وإن قلنا : يملكه العبد ، قال السرخسي : هذا قول أبي إسحاق المروزي ; لأنه قادر على انتزاعه ، وهذا شاذ وباطل ، ( وأما ) المكاتب ، فحاصل ما ذكره المصنف في هذا الفصل والذي بعده ثلاثة أوجه ، وهي مشهورة وبعض الأصحاب يسميها أقوالا ، وهي مترددة بين الأقوال والأوجه ( أصحها ) باتفاق الأصحاب ، وهو المنصوص في كتب الشافعي : أنه لا فطرة عليه ولا على سيده عنه ; لأن ملكه ضعيف ، وسيده لا تلزمه نفقته ، ( والثاني ) : على المكاتب في كسبه تبعا للنفقة ، ( والثالث ) : تجب على السيد عنه ، حكاه أبو ثور عن الشافعي ; لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، وإنما سقطت النفقة عن السيد لاستقلال المكاتب باكتسابه ، ولأنها تكثر .

قال أصحابنا : والخلاف في أن المكاتب هل عليه فطرة نفسه ؟ تجري في أنه هل يلزمه فطرة زوجته وعبيده ؟ والصحيح : لا يلزمه ، ونقل إمام الحرمين اتفاق الأصحاب على أن فطرة زوجته وعبيده كنفسه ، وفي وجوبها الخلاف .

الصحيح : [ ص: 65 ] لا تلزمه ، وأما المدبرة والمستولدة فكالقن فتجب فطرته على سيده لا على نفسه ، وأما من بعضه حر وبعضه رقيق فتجب فطرته بلا خلاف ، وتكون عليه وعلى مالك بعضه إن لم تكن مهايأة ، وسيأتي إيضاحه في الفصل الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى .

( الشرط الثالث ) : اليسار ، فالمعسر لا فطرة عليه بلا خلاف ، قال المصنف والأصحاب : والاعتبار باليسار والإعسار بحال الوجوب ، فمن فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته لليلة العيد ويومه صاع ، فهو موسر ، وإن لم يفضل شيء فهو معسر ولا يلزمه شيء في الحال ، ولا يستقر في ذمته ، فلو أيسر بعد ذلك لا يلزمه الإخراج عن الماضي بلا خلاف عندنا ، سواء أيسر عقب وقت الوجوب بلحظة أو أكثر ، وبه قال الشافعي والأصحاب ، لكن استحب له الإخراج ، وحكى أصحابنا عن مالك : أنه إن أيسر يوم العيد لزمه ، واحتج أصحابنا بأن الإسلام واليسار شرطان للوجوب ، وقد أجمعنا على أن طرآن الإسلام لا يقتضي الوجوب . فكذلك اليسار ، والله أعلم .

وإن فضل بعض صاع فوجهان مشهوران ، ذكرهما المصنف بدليليهما ( أصحهما ) عند الأصحاب : يلزمه إخراجه ، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ; لقوله صلى الله عليه وسلم : { وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } رواه البخاري من رواية أبي هريرة ، واتفق الأصحاب على تصحيح هذا الوجه ، ونقله صاحب " الحاوي " عن نص الشافعي قال : والوجه الآخر القائل بأنه لا يلزمه قياسا على بعض الرقبة غلط ، لما ذكرناه من الحديث والقياس ، والفرق بينه وبين الكفار من وجهين ( أحدهما ) : أن لها بدلا ( والثاني ) : أن بعض الرقبة لا يؤمر بإخراجه في موضع من المواضع ، وبعض الصاع يجب بالاتفاق على من يملك نصف عبد ، ونصفه لمعسر والله أعلم .

( فرع ) قال الرافعي رحمه الله : ومن فضل من قوته وقوت من عليه نفقته ليلة العيد ويومه ما يخرج في الفطرة من أي جنس كان من المال فهو موسر ، قال : ولم يذكر الشافعي وأكثر الأصحاب في ضبط [ ص: 66 ] اليسار والإعسار إلا هذا القدر ، وزاد إمام الحرمين فاعتبر كون الصاع فاضلا عن مسكنه وعبده المحتاج إليه لخدمته وقال : لا يحسب عليه في هذا الباب ما لا يحسب في الكفارة . قال الرافعي : وإذا نظرت كتب الأصحاب لم تجد ما ذكره ، وقد يغلب على ظنك أنه لا خلاف في المسألة ، وأن ما ذكره كالبيان والاستدراك لما أهمله الأولون ، وربما استشهدت بكونهم لم يذكروا دست ثوب يكتسبه ، ولا شك في اعتباره ، فإن الفطرة ليست بأشد من الدين ، وهو مبقى عليه في الدين لكن الخلاف ثابت ، فإن الشيخ أبا علي حكى وجها أن عبد الخدمة لا يباع في الفطرة كما لا يباع في الكفارة ، ثم أنكر عليه وقال : لا يشترط في الفطرة كونه فاضلا في كفايته ، بل المعتبر قوت يومه كالدين ، بخلاف الكفارة ; لأن لها بدلا ، وذكر البغوي ما يقتضي وجهين ، والأصح عنده موافقة الإمام . واحتج له البغوي بقول الشافعي : إن الابن الصغير إذا كان له عبد يحتاج إلى خدمته ، لزم الأب فطرته كفطرة الابن ، فلولا أن العبد غير محسوب لسقط بسببه فطرة الابن ، وإذا شرطنا كون المخرج فاضلا عن العبد والمسكن ، فإنما نشترطه في الابتداء ، فلو ثبتت الفطرة في ذمة إنسان بعنا خادمه ومسكنه فيها ; لأنها بعد الثبوت التحقت بالديون ، قال : واعلم أن الدين الآدمي يمنع وجوب الفطرة بالاتفاق ، كما أن الحاجة إلى صرفه في نفقة القريب تمنعه ، كذا قاله الإمام .

قال الإمام : ولو ظن ظان أنه لا يمنعه على قول كما لا يمنع وجوب الزكاة على قول كان مبعدا ، هذا لفظه وفيه شيء سنذكره في المسألة السابعة من المسائل المنثورة بعد انقضاء شرح الباب إن شاء الله تعالى ، فعلى هذا يشترط مع كون المخرج فاضلا عما سبق كونه فاضلا عن قدر ما عليه من الدين . هذا آخر كلام الرافعي رحمه الله .

والمسألة [ ص: 67 ] التي نقلها عن البغوي هذا لفظها . قال البغوي : لو كان له عبد يحتاج إلى خدمته هل يباع بعضه في الفطرة عن العبد والسيد ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) : لا يباع ، وهو كالمعدوم كما في الكفارة ، ولأن الشافعي نص على أنه لو كان لابنه الصغير عبد ، وذكر ما سبق ، وهذا الذي صححه البغوي والإمام هو الصحيح .

فرع في مذاهب العلماء في ضبط اليسار الذي تجب به الفطرة ، ذكرنا أن مذهبنا : أنه يشترط أن يملك فاضلا عن قوته وقوت من يلزمه نفقته ليلة العيد ويومه ، حكاه العبدري عن أبي هريرة وعطاء والشعبي وابن سيرين وأبي العالية والزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وأبي ثور . وقال أبو حنيفة : لا تجب إلا على من يملك نصابا من الذهب أو الفضة ، أو ما قيمته نصابا فاضلا عن مسكنه وأثاثه الذي لا بد منه .

قال العبدري : ولا يحفظ هذا عن أحد غير أبي حنيفة ، قال ابن المنذر : وأجمعوا على أن من لا شيء له فلا فطرة عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية