صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ويجب على الإمام أن يبعث السعاة لأخذ الصدقة ; لأن { النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السعاة } ; ولأن في الناس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه ، ومنهم من يبخل ، فوجب أن يبعث من يأخذ ، ولا يبعث إلا حرا عدلا ثقة ; لأن هذا ولاية وأمانة . والعبد والفاسق ليسا من أهل الولاية والأمانة . ولا يبعث إلا فقيها ; لأنه يحتاج إلى معرفة ما يؤخذ وما لا يؤخذ ويحتاج إلى الاجتهاد فيما يعرض من مسائل الزكاة وأحكامها . ولا يبعث هاشميا ولا مطلبيا . ومن أصحابنا من قال : يجوز ; لأن ما يأخذه على وجه العوض . والمذهب الأول ; لما روي { أن الفضل بن العباس رضي الله عنهما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يوليه العمالة على الصدقة فلم يوله . وقال : أليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ الناس ؟ } وفي مواليهم وجهان : ( أحدهما ) لا يجوز ; لما روى أبو رافع قال : { ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني مخزوم على الصدقة فقال : اتبعني تصب منها . فقلت : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 141 ] فسألته فقال لي : إن مولى القوم من أنفسهم ، وإنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة } .

( والثاني ) يجوز ; لأن الصدقة إنما حرمت على بني هاشم وبني المطلب للشرف بالنسب . وهذا لا يوجد في مواليهم . وهو بالخيار بين أن يستأجر العامل بأجرة معلومة ثم يعطيه ذلك من الزكاة . وبين أن يبعثه من غير شرط ثم يعطيه أجرة المثل من الزكاة ) .


( الشرح ) : أما الحديث الأول وهو بعث النبي صلى الله عليه وسلم فصحيح مشهور مستفيض رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الصدقة } وفي الصحيحين عن سهل بن سعد { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل ابن اللتبية على الصدقات } والأحاديث في الباب كثيرة وأما حديث الفضل فرواه مسلم من رواية عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قال : { أتيت أنا والفضل بن العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه أن يؤمرنا على بعض الصدقات فنؤدي إليه كما يؤدي الناس ونصيب كما يصيبون ، فسكت طويلا ثم قال : إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس } وفي رواية لمسلم أيضا { : إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس ، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد } وليس في صحيحه { : أليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ الناس ؟ } أما حديث أبي رافع فرواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح وقول المصنف : " لا يبعث إلا حرا عدلا ثقة " لا حاجة إلى قوله : ثقة ; لأن العدل لا يكون إلا ثقة .

وقوله : " روي أن الفضل " ينكر عليه قوله : روي بصيغة تمريض في حديث صحيح ، وقد سبق التنبيه عن أمثال هذا ، والغرض بتكراره التأكيد في تحفظه ، وقوله : " يوليه العمالة " بفتح العين ، وهي العمل . وأما بضمها فهي المال المأخوذ على العمل ، وليس مرادا هنا .

( أما الأحكام ) ففيها مسائل : ( إحداها ) قال أصحابنا : يجب على الإمام بعث السعاة لأخذ الصدقات ; لما ذكره المصنف ، والسعاة جمع ساع وهو العامل ، واتفقوا [ ص: 142 ] على أن يشترط فيه كونه مسلما حرا عدلا فقيها في أبواب الزكاة ولا يشترط فقهه في غير ذلك . قال أصحابنا : هذا إذا كان التفويض للعامل عاما في الصدقات ، فأما إذا عين له الإمام شيئا معينا يأخذه فلا يعتبر فيه الفقه . قال الماوردي في الأحكام السلطانية : وكذا لا يعتبر في هذا المعين الإسلام والحرية ; لأنه رسالة لا ولاية ، وهذا الذي قاله من عدم اشتراط الإسلام مشكل والمختار اشتراطه .

( الثانية ) : هل يجوز كون العامل هاشميا أو مطلبيا ؟ فيه وجهان مشهوران ، ذكر المصنف دليلهما ( أصحهما ) عند المصنف والبغوي وجمهور الأصحاب لا يجوز قال أصحابنا الخراسانيون : هذان الوجهان مبنيان على أن ما يأخذه العامل أجرة أو صدقة ، وفيه وجهان ( إن قلنا ) : أجرة جاز وإلا فلا . وهو يشبه الإجارة من حيث التقدير بأجرة المثل ، ويشبه الصدقة من حيث إنه لا يشترط عقد الإجارة ، ولا مدة معلومة ، ولا عمل معلوم . قال البغوي وآخرون : ويجري الوجهان فيما لو كان العامل من أهل الفيء ، وهم المرتزقة الذين لهم حق في الديوان ، قال صاحب الشامل والأصحاب : والوجهان في الهاشمي والمطلبي هما فيمن طلب على عمله سهما من الزكاة . فأما إذا تبرع بعمله بلا عوض أو دفع الإمام إليه أجرته من بيت المال فإنه يجوز كونه هاشميا أو مطلبيا بلا خلاف . قال الماوردي في الأحكام السلطانية : يجوز كونه هاشميا ومطلبيا إذا أعطاه من سهم المصالح .

( الثالثة ) : هل يجوز أن يكون العامل من موالي بني هاشم وبني المطلب ؟ فيه وجهان ذكر المصنف دليلهما ( أصحهما ) لا يجوز ، وهذان الوجهان تفريع على قولنا : لا يجوز أن يكون العامل هاشميا ولا مطلبيا ، فأما إذا جوزناه فمولاهم أولى قال الرافعي : ومنهم من حكى هذين الوجهين قولين .

( الرابعة ) : الإمام بالخيار إن شاء بعث العامل من غير شرط وأعطاه بعد مجيئه أجرة المثل من الزكاة ، وإن شاء استأجره بأجرة معلومة من الزكاة وكلاهما جائز باتفاق الأصحاب .

( أما ) الأول فللأحاديث [ ص: 143 ] الصحيحة في ذلك ; لأن الحاجة تدعو إليه لجهالة العمل فتؤخر الأجرة حتى يعرف عمله فيعطى بقدره .

( وأما الثاني ) فهو القياس والأصل ولا شك في جوازه ، قال أصحابنا : وإذا سمى له شيئا فإن شاء سماه إجارة ، وإن شاء جعالة ، ولا يسمي أكثر من أجرة المثل ، فإن زاد فوجهان حكاهما جماعة منهم الدارمي : ( أصحهما ) تفسد التسمية وله أجرة المثل من الزكاة .

( والثاني ) لا تفسد ، بل يكون قدر أجرة المثل من الزكاة والباقي يجب في مال الإمام ; لأنه صحيح العبارة والالتزام .

التالي السابق


الخدمات العلمية