صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ويبعث لما سوى زكاة الزروع والثمار في المحرم ; لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال في المحرم : " هذا شهر زكاتكم " ; ولأنه أول السنة فكان البعث فيه أولى . والمستحب للساعي أن يعد الماشية [ على أهلها ] على الماء إن كانت الماشية ترد الماء . وفي أفنيتهم إن لم ترد الماء ; لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { تؤخذ صدقات المسلمين عند مياههم أو عند أفنيتهم } فإن أخبره صاحب المال بالعدد وهو ثقة قبل منه . وإن بذل له الزكاة أخذها . ويستحب أن يدعوا له ; لقوله تعالى { : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } ، والمستحب أن يقول : اللهم صل على آل فلان ; لما روى عبد الله بن أبي أوفى { قال : جاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة ماله فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى } وبأي شيء دعا جاز . قال الشافعي رضي الله عنه أحب أن يقول : " آجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهورا وبارك لك فيما أبقيت " وإن ترك الدعاء جاز ; لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ { : أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم } ولم يأمره بالدعاء ) .


( الشرح ) : حديث عثمان سبق قريبا ، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رواه أبو داود والبيهقي وغيرهما ، وهذا لفظ رواية البيهقي ، ( وأما ) لفظ رواية أبي داود ففيها { لا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم } وقوله : في رواية الكتاب { عند مياههم أو عند أفنيتهم } . [ ص: 144 ] قال البيهقي : هو شك من أبي داود الطيالسي أحد الرواة ، ورواه البيهقي أيضا من رواية عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : تؤخذ صدقات أهل البادية على مياههم وبأفنيتهم } ويحتمل أن " أو " في رواية الكتاب ليست للشك كما قاله البيهقي بل للتقسيم كما هو مقتضى حديث عائشة ، ومعناه إن كانت ترد الماء فعلى الماء ، وإلا فعند دورهم . ، وأما حديث ابن أبي أوفى فرواه البخاري ومسلم .

وحديث معاذ رواه البخاري ومسلم أيضا من رواية ابن عباس ومن رواية معاذ .

( وقوله ) : أفنيتهم جمع فناء بكسر الفاء وبالمد - وهو ما امتد مع جوانب الدار وقوله تعالى { : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } أي تطهرهم بها من ذنوبهم ، والقراءة المشهورة التي قرأ بها القراء السبعة " تطهرهم " برفع الراء على أنه صفة لا جواب ، وقرئ في غير السبع بالجزم على الجواب . وقوله تعالى وتزكيهم قيل : تصلحهم ، وقيل : ترفعهم من منازل المنافقين إلى منازل المخلصين ، وقيل : تنمي أموالهم " وصل عليهم " أي ادع لهم ، وقرئ في السبع إن صلواتك سكن لهم ، وإن صلاتك سكن لهم أي رحمة ، وقيل : طمأنينة ، وقيل : وقار ، وقيل : تثبيت . واسم أبي أوفى : علقمة بن خالد بن الحارث كنية ابنه : عبد الله أبو محمد ، ويقال : أبو إبراهيم وأبو معاوية الأسلمي ، وأبو أوفى وابنه صحابيان جليلان مشهوران ، وشهد ابنه بيعة الرضوان ، وهو آخر من توفي من الصحابة بالكوفة ، وفي سنة ست ، وقيل : سبع أو ثمان وثمانين من الهجرة رضي الله عنه . رضي الله عنه ، وقوله : ( آجرك الله ) فيه لغتان : قصر الهمزة ومدها ، والقصر أجود ، وطهورا - بفتح الطاء - أي مطهرا ، وقوله : ( آجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهورا ، وبارك لك فيما أبقيت ) أحسن من قوله في التنبيه فإنه وسط قوله وبارك لك فيما أبقيت وتأخيره أولى لتكون الدعوتان الأولتان اللتان من نوع واحد المتعلقتان بالمدفوع متصلتين ، ولا يفصل بينهما ، والله أعلم .

( أما الأحكام ) ففيه مسائل : ( إحداها ) قال أصحابنا : الأموال ضربان : ( ضرب ) لا يتعلق [ ص: 145 ] بالحول وهو المعشرات فيبعث الإمام الساعي لأخذ زكواتها وقت وجوبها ، وهو إدراكها بحيث يصلهم وقت الجزاز والحصاد ، ( وضرب ) يتعلق بالحول وهو المواشي وغيرها ، فالحول يختلف في حق الناس . قال الشافعي في المختصر والأصحاب : ينبغي للساعي أن يعين شهرا يأتيهم فيه . قال الشافعي والأصحاب : ويستحب أن يكون ذلك الشهر هو المحرم صيفا كان أو شتاء ; لأنه أول السنة الشرعية ، قالوا : وينبغي أن يخرج إليهم قبل المحرم ليصلهم في أوله ، وهذا الذي ذكرناه من تعيين الشهر مستحب ومتى خرج جاز ، هذا هو المذهب ، وبه قطع الأصحاب وفيه وجه شاذ حكاه الرافعي أنه واجب والصواب الأول .

( الثانية ) : يستحب للساعي عد الماشية على الماء إن كانت ترده ، وإلا فعند أفنيتهم ، ولا يكلفهم ردها من الماء إلى الأفنية ولا يلزمه أن يتبعها في المراعي فإن كان لرب المال ماشيتان عند ماءين أمر بجمعهما عند أحدهما ، وإن كانت لا ترد ماء لكنها تكتفي بالكلأ في الربيع ولا تحضر الأفنية ، فللساعي أن يكلفهم إحضارها إلى الأفنية صرح به المحاملي وغيره وهو مفهوم من نص الشافعي ولو خرج إليها كان أفضل قال أصحابنا : وإذا أخبره صاحبها بعددها وهو ثقة ، فله أن يصدقه ويعمل بقوله ; لأنه أمين ، وإن لم يصدقه أو لم يختبره أو اختبره وصدقه وأراد الاحتياط بعدها عدها ، والأولى أن تجمع في حظيرة ونحوها ، وينصب على الباب خشبة معترضة ، وتساق لتخرج واحدة واحدة ، ويثبت كل شاة إذا بلغت المضيق ، فيقف المالك أو نائبه من جانب ، والساعي أو نائبه من جانب ، وبيد كل واحد منهما قضيب يشير به إلى كل شاة أو يصيبان به ظهرها ونحو ذلك فهو أضبط فإن اختلفا بعد العد وكان الفرض يختلف بذلك أعاد العد .

( الثالثة ) : إذا أخذ الساعي الزكاة استحب أن يدعو للمالك ; للآية والحديث المذكورين ، ولا يتعين دعاء ، لكن يستحب ما حكاه المصنف عن الشافعي ، وهذا الدعاء سنة وليس بواجب ، هذا هو المذهب وبه قطع المصنف والأصحاب وقال صاحب الحاوي : إن لم يسأله المالك الدعاء لم يجب ، وإن سأله فوجهان : أصحهما : يندب ولا يجب ، والثاني : يجب ، وحكى الحناطي والرافعي وجها أنه يجب مطلقا ; لظاهر القرآن [ ص: 146 ] والسنة ولقول الشافعي في مختصر المزني ، فحق على الوالي إذا أخذ الصدقة أن يدعو له ، ويجيب هذا القائل عن حديث معاذ بأنه كان معلوما عنده ; لأنه كان من حفاظ القرآن ، والآية صريحة فلا يحتاج إلى بيانه له ، كما لم يبين له في هذا الحديث نصب الزكاة لكونها كانت معلومة له ، وهذا الوجه حكاه أصحابنا عن داود وأهل الظاهر ، ووافقونا على أن المالك إذا دفع الزكاة إلى الفقراء لا يلزمهم الدعاء ، فحمل الأصحاب الآية والحديث وكلام الشافعي على الاستحباب قياسا على أخذ الفقراء .

وأما إذا دفع المالك إلى الأصناف دون الساعي ، فالمذهب الصحيح وبه قطع الجمهور أنه [ يستحب لهم أن يدعوا له كما ] يستحب للساعي ، وحكى صاحب البيان عن الشيخ أبي حامد أنه لا يستحب ، وليس بشيء وأما صفة الدعاء فقد ذكرناها ، وقال المصنف : يستحب أن يقول : اللهم صل على آل فلان ، وتابعه على هذا صاحب البيان ، وقال صاحب الحاوي : إن قال : اللهم صل عليهم ، فلا بأس وهذا الذي قالوه خلاف المذهب وخلاف ما قطع به الأكثرون ، فقد صرح الأكثرون بأنه تكره الصلاة على غير الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ابتداء في هذا الموضع وغيره ، وإنما يقال تبعا فيقال : صلى الله على النبي وعلى آله وأزواجه ، ونحو ذلك . وقال المتولي : لا تجوز الصلاة على غير الأنبياء ابتداء ، ومقتضى عبارته التحريم ، والمشهور الكراهة ، وقيل : إنه خلاف الأولى ولا يسمى مكروها فحصل أربعة أوجه :

( أصحها ) مكروه ، ( والثاني ) حرام ، ( والثالث ) خلاف الأولى ، ( والرابع ) مستحب عند من أخذ الصدقة ، وقد جمع الرافعي كلام إمام الحرمين وسائر الأصحاب فيه ولخصه فقال : قال الأئمة لا يقال : اللهم صل على فلان وإن ورد في الحديث ; لأن الصلاة صارت مخصوصة في لسان السلف بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كما أن قولنا : عز وجل ، مخصوص بالله تعالى ، وكما لا يقال : محمد عز وجل وإن كان عزيزا جليلا ، لا يقال : أبو بكر أو علي صلى الله عليهما وسلم وإن صح المعنى ، قالوا : وإنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه منصبه ، فله أن يقوله لمن شاء بخلافنا ، قال : وهل ذلك مكروه [ ص: 147 ] كراهة تنزيه أم مجرد ترك أدب ؟ فيه وجهان : ( الصحيح ) الأشهر أنه مكروه ، وبه قطع القاضي حسين والغزالي في الوسيط ، ووجه إمام الحرمين بأن المكروه ما ثبت فيه نهي مقصود ، وقد ثبت نهي مقصود عن التشبه بأهل البدع وقد صار هذا شعارا لهم ، وظاهر كلام الصيدلاني والغزالي في الوجيز أنه خلاف الأولى . وصرح صاحب العدة بنفي الكراهة . وقال : الصلاة بمعنى الدعاء تجوز على كل أحد . أما بمعنى التعظيم فتختص بالأنبياء ولا خلاف أنه يجوز أن يجعل غير الأنبياء تبعا لهم ، فيقال : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته وأتباعه وأصحابه ; لأن السلف استعملوه وأمرنا به في التشهد .

قال الشيخ أبو محمد : والسلام بمعنى الصلاة ، فإن الله تعالى قرن بينهما فلا يفرد به غائب غير الأنبياء ، ولا بأس به على سبيل المخاطبة للأحياء والأموات من المؤمنين ، فيقال : سلام عليكم . هكذا قال : لا بأس به ، وليس بجيد بل الصواب أنه سنة للأحياء والأموات ، وهذه الصيغة لا تستعمل في المسنون ، وكأنه أراد أنه لا يمنع منه في المخاطبة بخلاف الغيبة . وأما استحبابه في المخاطبة فمعروف . والله تعالى أعلم .

( فرع ) : يستحب الترضي والترحم على الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء والعباد وسائر الأخيار فيقال : رضي الله عنه أو رحمة الله عليه أو رحمه الله ونحو ذلك ، وأما ما قاله بعض العلماء : إن قول رضي الله عنه عنه مخصوص بالصحابة ، ويقال في غيرهم : رحمه الله فقط فليس كما قال ، ولا يوافق عليه ، بل الصحيح الذي عليه الجمهور استحبابه ، ودلائله أكثر من أن تحصر ، فإن كان المذكور صحابيا ابن صحابي قال : قال ابن عمر رضي الله عنهما : وكذا ابن عباس ، وكذا ابن الزبير وابن جعفر وأسامة بن زيد ونحوهم ليشمله وأباه جميعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية