صفحة جزء
[ ص: 348 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ويجب الختان لقوله تعالى : ( { أن اتبع ملة إبراهيم } ) وروي " أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم ختن نفسه بالقدوم " ولأنه لو لم يكن واجبا لما كشفت له العورة ; لأن كشف العورة محرم فلما كشفت له العورة دل على وجوبه ) .


( الشرح ) روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { اختتن إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم } " رواه البخاري ومسلم ، وينكر على المصنف قوله : " روي " بصيغة التمريض الموضوعة للتضعيف مع أنه في الصحيحين وقد سبق له نظيره ونبهنا عليه هناك . وقد سبق إيضاح هذه القاعدة في مقدمة الكتاب . وفي القدوم روايتان التخفيف والتشديد ، والأكثرون رووه بالتشديد ، وعلى هذا هو اسم مكان بالشام ورواه جماعة بالتخفيف ، وقيل : إنه قول أكثر أهل اللغة . واختلفوا على هذا فقيل : المراد به أيضا موضع بالشام ، وأنه يجوز فيه التشديد والتخفيف وقال الأكثرون : المراد به آلة النجار وهي مخففة لا غير وجمعها قدم ، قال أبو حاتم السجستاني : ويجمع أيضا على قدائم ، ولا يقال قداديم قال : وهي مؤنثة ، واتفقوا على فتح القاف في الآلة والمكان والله أعلم . فإن قيل : لا دلالة في الآية على وجوب الختان لأنا أمرنا بالتدين بدينه فما فعله معتقدا وجوبه فعلناه معتقدين وجوبه ، وما فعله ندبا فعلناه ندبا ، ولم يعلم أنه كان يعتقده واجبا . فالجواب أن الآية صريحة في اتباعه فيما فعله ، وهذا يقتضي إيجاب كل فعل فعله إلا ما قام دليل على أنه سنة في حقنا كالسواك ونحوه ، وقد نقل الخطابي أن خصال الفطرة كانت واجبة على إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأما الاستدلال بكشف العورة فقد ذكره آخرون مع المصنف وقاله قبلهم أبو العباس بن سريج - رحمه الله - أورد عليه كشفها للمداواة التي لا تجب ، والجواب أن كشفها لا يجوز لكل مداواة وإنما يجوز في موضع يقول أهل [ ص: 349 ] العرف : إن المصلحة في المداواة راجحة على المصلحة في المحافظة على المروءة وصيانة العورة كما سنوضحه إن شاء الله تعالى في أول كتاب النكاح حيث ذكره المصنف والأصحاب . فلو كان الختان سنة لما كشفت العورة المحرم كشفها له . واعتمد المصنف في كتابه في الخلاف والغزالي في الوسيط وجماعة قياسا فقالوا : الختان قطع عضو سليم ، فلو لم يجب لم يجز كقطع الأصبع ، فإن قطعها إذا كانت سليمة لا يجوز إلا إذا وجب بالقصاص والله أعلم .

( فرع ) الختان واجب على الرجال والنساء عندنا وبه قال كثيرون من السلف ، كذا حكاه الخطابي ، وممن أوجبه أحمد وقال مالك وأبو حنيفة : سنة في حق الجميع وحكاه الرافعي وجها لنا ، وحكى وجها ثالثا أنه يجب على الرجل وسنة في المرأة ، وهذان الوجهان شاذان ، والمذهب الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي رحمه الله وقطع به الجمهور أنه واجب على الرجال والنساء ، ودليلنا ما سبق . فإن احتج القائلون بأنه سنة بحديث : الفطرة عشرة ومنها الختان ، فجوابه قد سبق عند ذكرنا تفسير الفطرة والله أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : الواجب في ختان الرجل قطع الجلدة التي تغطي الحشفة بحيث تنكشف الحشفة كلها ، فإن قطع بعضها وجب قطع الباقي ثانيا ، صرح به إمام الحرمين وغيره ، وحكى الرافعي عن ابن كج أنه قال : عندي أنه يكفي قطع شيء من القلفة وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها ، وهذا الذي قاله ابن كج شاذ ضعيف ، والصحيح المشهور الذي قطع به الأصحاب في الطرق ما قدمناه أنه يجب قطع جميع ما يغطي الحشفة . والواجب في المرأة قطع ما ينطلق عليه الاسم من الجلدة التي كعرف الديك فوق مخرج البول ، وصرح بذلك أصحابنا واتفقوا عليه . قالوا : ويستحب أن يقتصر في المرأة على شيء يسير ولا يبالغ في القطع واستدلوا فيه بحديث عن أم عطية رضي الله عنها { أن امرأة كانت تختن بالمدينة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل } " رواه أبو داود . ولكن قال : ليس هو بالقوي ، وتنهكي بفتح التاء والهاء أي لا تبالغي في القطع والله أعلم .

[ ص: 350 ] فرع ) قال أصحابنا : وقت وجوب الختان بعد البلوغ ، لكن يستحب للولي أن يختن الصغير في صغره لأنه أرفق به ، وقال صاحب الحاوي وصاحبا المستظهري والبيان وغيرهم : يستحب أن يختن في اليوم السابع لخبر ورد فيه إلا أن يكون ضعيفا لا يحتمله فيؤخره حتى يحتمله ، قال صاحبا الحاوي والمستظهري ، وهل يحسب يوم الولادة من السبعة ؟ فيه وجهان ، قال أبو علي بن أبي هريرة : يحسب ، وقال الأكثرون : لا يحسب ، فيختن في السابع بعد يوم الولادة ذكره صاحب المستظهري في باب التعزير . قال صاحب الحاوي : فإن ختنه قبل اليوم السابع كره . قال : وسواء في هذا الغلام والجارية قال : فإن أخر عن السابع استحب ختانه في الأربعين ، فإن أخر استحب في السنة السابعة . واعلم أن هذا الذي ذكرناه من أنه يجوز ختانه في الصغر ولا يجب لكن يستحب هو المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور ، وفي المسألة وجه أنه يجب على الولي ختانه في الصغر لأنه من مصالحه فوجب . حكاه صاحب البيان عن حكاية القاضي أبي الفتوح عن الصيدلاني وأبي سليمان قال : وقال سائر أصحابنا : لا يجب . ووجه ثالث أنه يحرم ختانه قبل عشر سنين ، لأن ألمه فوق ألم الضرب ولا يضرب على الصلاة إلا بعد عشر سنين ، حكاه جماعة منهم القاضي حسين في تعليقه ، وأشار إليه البغوي في أول كتاب الصلاة وليس بشيء ، وهو كالمخالف للإجماع والله أعلم

( فرع ) لو كان لرجل ذكران قال صاحب البيان : إن عرف الأصلي منهما ختن وحده ، قال صاحب الإبانة : يعرف الأصلي بالبول ، وقال غيره : بالعمل فإن كانا عاملين أو يبول منهما وكانا على منبت الذكر على السواء وجب ختانهما . وأما الخنثى المشكل فقال في البيان : قال القاضي أبو الفتوح : يجب ختانه في فرجيه جميعا ; لأن أحدهما واجب ولا يتوصل إليه إلا بختانهما ، كما أن من تزوج بكرا لما لم يتمكن من وصوله إلى الوطء المستحق إلا بقطع بكارتها كان له ذلك بلا ضمان ، قال : فإن كان الخنثى صغيرا ختنه الرجال والنساء إذا قلنا بالوجه الضعيف : إن الصغير يجب ختانه ، وإن قلنا بالمذهب [ ص: 351 ] إنه لا يجب ختان الصغير لم يختن الخنثى الصغير حتى يبلغ فيجب ، وحينئذ إن كان هو يحسن الختان ختن نفسه وإلا اشترى له جارية تختنه ، فإن لم توجد جارية تحسن ذلك ختنه الرجال والنساء للضرورة كالتطبيب ، هذا كلام صاحب البيان وقطع البغوي بأن لا يختن الخنثى المشكل لأن الجرح على الإشكال لا يجوز ، ذكره قبل كتاب الصداق بأسطر في فصلين ذكر فيهما أحكام الخنثى ، وهذا الذي ذكره البغوي هو الأظهر المختار والله أعلم .

( فرع ) قد ذكرنا أنه لا يجب الختان حتى يبلغ فإذا بلغ وجب على الفور . قال صاحب الحاوي وإمام الحرمين وغيرهما : فإن كان الرجل ضعيف الخلقة بحيث لو ختن خيف عليه لم يجز أن يختن ، بل ينتظر حتى يصير بحيث يغلب على الظن سلامته ، قال صاحب الحاوي : لأنه لا تعبد فيما يفضي إلى التلف .

( فرع ) لو مات غير مختون فثلاثة أوجه : الصحيح الذي قطع به الجمهور لا يختن ; لأن ختانه كان تكليفا وقد زال بالموت ( والثاني ) : يختن الكبير والصغير ( والثالث ) : يختن الكبير دون الصغير ، حكاهما في البيان وهما شاذان ضعيفان ، وهذه المسألة موضعها كتاب الجنائز ، وهناك ذكرها الأصحاب وسنوضحها هناك إن شاء الله تعالى

( فرع ) قال القاضي حسين والبغوي : يجب على السيد أن يختن عبده أو يخلي بينه وبين كسبه ليختن به نفسه ، قال القاضي : فإن كان العبد زمنا فأجرة ختانه في بيت المال ، وهذا الذي قاله فيه نظر وينبغي أن يجب على السيد كالنفقة

( فرع ) أجرة ختان الطفل في ماله ، فإن لم يكن له مال فعلى من عليه نفقته والله أعلم .

( فرع ) قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه التبصرة في الوسوسة : لو ولد مختونا بلا قلفة فلا ختان لا إيجابا ولا استحبابا ، فإن كان من القلفة [ ص: 352 ] التي تغطي الحشفة شيء موجود وجب قطعه كما لو ختن ختانا غير كامل فإنه يجب تكميله ثانيا حتى يبين جميع القلفة التي جرت العادة بإزالتها في الختان

( فرع ) في مذاهب العلماء في وقت الختان . قد ذكرنا أن أصحابنا استحبوه يوم السابع من ولادته ، قال ابن المنذر في كتاب الختان من كتابه الأشراف وهو عقب الأضحية وهي عقب كتاب الحج : روي عن أبي جعفر عن فاطمة أنها كانت تختن ولدها يوم السابع ، قال : وكره الحسن البصري ومالك الختان يوم سابعه لمخالفة اليهود ، قال مالك : عامة ما رأيت الختان ببلدنا إذا ثغر الصبي ، قال أحمد بن حنبل : لم أسمع في ذلك شيئا ، وقال الليث بن سعد : يختن ما بين السبع إلى العشر ، قال : وروي عن مكحول أو غيره أن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ختن ابنه إسحاق لسبعة أيام ، وإسماعيل لسبع عشرة سنة ، قال ابن المنذر بعد حكايته هذا كله : ليس في باب الختان نهي يثبت ، ولا لوقته حد يرجع إليه ، ولا سنة تتبع ، والأشياء على الإباحة ، ولا يجوز حظر شيء منها إلا بحجة ، ولا نعلم مع من منع أن يختن الصبي لسبعة أيام حجة . هذا آخر كلام ابن المنذر

التالي السابق


الخدمات العلمية