صفحة جزء
. قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وإن منع الزكاة أو غل أخذ منه الفرض وعزره على المنع والغلول . وقال في القديم : يأخذ الزكاة وشطر ماله ، ومضى توجيه القولين [ ص: 148 ] في أول الزكاة ، وإن وصل الساعي قبل وجوب الزكاة ورأى أن يستسلف فعل ، وإن لم يسلفه رب المال لم يجبره على ذلك ; لأنها لم تجب بعد فلا تجبره على أدائه . وإن رأى أن يوكل من يقبضه إذا حال الحول فعل ، فإن رأى أن يتركه حتى يأخذه من زكاة القابل فعل ، وإن قال رب المال : لم يحل الحول على المال فالقول قوله ، وإن رأى تحليفه حلفه احتياطا ، وإن قال : بعته ثم اشتريته ولم يحل الحول عليه . أو قال : أخرجت الزكاة عنه وقلنا : يجوز أن يفرق بنفسه ، ففيه وجهان : ( أحدهما ) يجب تحليفه ; لأنه يدعي خلاف الظاهر ، فإن نكل عن اليمين أخذ منه الزكاة .

( والثاني ) يستحب تحليفه ولا يجب ; لأن الزكاة موضوعة على الرفق ، فلو أوجبنا اليمين خرجت عن باب الرفق ويبعث الساعي لزكاة الثمار والزرع في الوقت الذي يصادف فيه الإدراك ويبعث معه من يخرص الثمار ، فإن وصل قبل وقت الإدراك ورأى أن يخرص الثمار ويضمن رب المال زكاتها فعل ، وإن وصل وقد وجبت الزكاة وبذل له أخذها ودعا له ، فإن كان الإمام أذن للساعي في تفريقها فرقها ، وإن لم يأذن له حملها إلى الإمام ) .


( الشرح ) فيه مسائل : ( إحداها ) إذا لزمته زكاة فمنعها أو غلها أي كتمها وخان فيها أخذ الإمام أو الساعي الفرض منه ، والقول الصحيح الجديد أنه لا يأخذ شطر ماله . وقال في القديم يأخذه ، وسبق شرح القولين بدليليهما وفروعهما في أول كتاب الزكاة . قال الشافعي في المختصر في آخر باب صدقة الغنم السائمة : ولو غل صدقته عزر إذا كان الإمام عادلا إلا أن يدعي الجهالة ولا يعزر إن لم يكن الإمام عادلا هذا نصه ، قال أصحابنا : إذا كتم ماله أو بعضه عن الساعي أو الإمام ثم اطلع عليه أخذ فرضه ، فإن كان الإمام أو الساعي جائرا في الزيادة ، بأن يأخذ فوق الواجب أو لا يصرفها مصارفها لم يعزره ; لأنه معذور في كتمه ، وإن كان عادلا فلم يدع المالك شبهة في الإخفاء عزره ; لأنه عاص آثم بكتمانه ، وإن ادعى شبهة بأن قال : لم أعلم تحريم كتمانها ، أو قال : ظننت أن تفرقتي بنفسي أفضل ، أو نحو ذلك فإن كان ذلك ، محتملا في حقه لقرب إسلامه أو لقلة اختلاطه بالعلماء ونحوهم لم يعزره ، [ ص: 149 ] قال السرخسي : فإن اتهمه فيه حلفه ، وإن كان ممن لا يخفى عليه لاختلاطه بالعلماء ونحوهم ، لم يقبل قوله وعزره ، وأما مانع الزكاة فيعزر على كل تقدير ، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام ، يخفى عليه وجوبها أو نحوه .

( الثانية ) : إذا وصل الساعي أصحاب الأموال ، فإن كان حول صاحب المال قد تم أخذ الزكاة ودعا له كما سبق . وإن كان الحول لم يتم على جميعهم أو بعضهم سأله الساعي تعجيل الزكاة ، ويستحب للمالك إجابته وتعجيلها ، فإن عجلها برضاه أخذها ودعا له وإن امتنع لم يجبر ; لما ذكره المصنف ، ثم إن رأى الساعي المصلحة في أن يوكل من يأخذها عند حلولها ويفرقها على أهلها فعل ، وإن رأى أن يؤخرها ليأخذها منه في العام المقبل فعل ، ويكتبها لئلا ينساها أو يموت فلا يعلمها الساعي بعده . ورووا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه " أخر الزكاة عام الرمادة وكان عام مجاعة " وإن رأى أن يرجع في وقت حلولها ليأخذها فعل ، وإن وثق بصاحب المال فوض التفريق إليه ; لأنه يجوز تفريقه بغير إذن فبالإذن أولى .

( الثالثة ) : إذا اختلف الساعي ورب المال . قال أصحابنا : إن كان قول المالك لا يخالف الظاهر بأن قال : لم يحل الحول بعد ، أو قال : هذه السخال اشتريتها ، وقال الساعي : بل تولدت من النصاب ، أو قال : تولدت بعد الحول ، فقال الساعي : قبله . أو قال الساعي : كانت ماشيتك نصابا ثم توالدت ، فقال المالك : بل تمت نصابا بالتوالد ، فالقول قول المالك في جميع هذه الصور ونظائرها مما لا يخالف الظاهر فإن رأى الساعي تحليفه حلفه . واليمين هنا مستحبة ، فإن امتنع منها لم يكلف بها ولا زكاة عليه بلا خلاف ; لأن الأصل براءته ولم يعارض الأصل ظاهر ، وإن كان قول المالك مخالفا للظاهر بأن قال : بعته ثم اشتريته في أثناء الحول ولم يحل حوله بعد ، أو قال : فرقت الزكاة بنفسي وجوزنا ذلك له ونحو ذلك ، فالقول قول المالك بيمينه بلا خلاف . وهل اليمين مستحبة أم واجبة ؟ فيه وجهان مشهوران ، ذكرهما المصنف بدليليهما ( أصحهما ) مستحبة ، وصححه المحاملي في كتابيه وآخرون ، [ ص: 150 ] وقطع به جماعة منهم المحاملي في المقنع . وإن قلنا : مستحبة فنكل ، لم يجبر على اليمين ولا زكاة عليه ، وإن قلنا : واجبة ، فامتنع أخذت منه الزكاة . قال أصحابنا : وليس هذا أخذا بالنكول بل بالوجوب السابق والسبب المتقدم ، ومعناه أن الزكاة انعقد سبب وجوبها ، ويدعي مسقطها ولم يثبته بيمينه ولا بغيرها ، والأصل عدمه فبقي الوجوب ، هذا هو المشهور وبه قطع الأصحاب إلا أبا العباس بن القاص فقال : هذه المسألة حكم فيها بالنكول على هذا الوجه . قال أصحابنا : وهذا غلط . قال القاضي أبو الطيب والأصحاب : ونظير هذا اللعان ، فإن الزوج إذا لاعن لزم المرأة حد الزنا ، فإن لاعنت سقط ، وإن امتنعت لزمها الحد لا بامتناعها بل بلعان الزوج ، وإنما لعانها مسقط لما وجب بلعانه ، فإذا لم تلاعن بقي الوجوب وهكذا الزكاة . والله أعلم . ولو قال المالك : هذا المال الذي في يدي وديعة ، وقال الساعي : بل هو ملك لك ، فوجهان مشهوران في الشامل وغيره : ( أحدهما ) أن دعواه لا تخالف الظاهر فيكون القول قوله بيمينه استحبابا قطعا ; لأن ما في يد الإنسان قد يكون لغيره .

( وأصحهما ) أنها مخالفة للظاهر وصححه صاحب الشامل ، وبه قطع القاضي أبو الطيب في تعليقه والبندنيجي والمحاملي في كتابيه وغيرهم . والله أعلم .

( الرابعة ) يستحب أن يخرج الساعي لأخذ زكاة الثمار والزروع في الوقت الذي يصادف إدراكها وحصولها ، وقد سبق شرح هذه المسألة قريبا ، ويستحب أن يكون مع الساعي من يخرص ليخرص ما يحتاج إلى خرصه ، وينبغي أن يكون خارصان ذكران حران ; ليخرج من الخلاف السابق في ذلك . والله أعلم .

( الخامسة ) : إذا قبض الساعي الزكاة فإن كان الإمام أذن له في تفريقها في موضعها فرقها ، وإن أمره بحملها حيث يجوز الحمل إما لعدم من يصرف إليه في ذلك الموضع أو لقرب المسافة إذا قلنا به أو لكون الإمام والساعي يريان جواز النقل حملها ، وإن لم يأذن له في التفرقة ولا أمره بالحمل فمقتضى عبارة المصنف وغيره وجوب الحمل إلى الإمام . وهكذا هو ; لأن الساعي نائب الإمام فلا يتولى إلا [ ص: 151 ] ما أذن له فيه . وإذا أطلق الولاية في أخذ الزكوات لم يقتض الصرف إلى المستحقين . واعلم أن عبارة المصنف تقتضي الجزم بجواز نقل الزكاة للإمام والساعي . وإن الخلاف المشهور في نقل الزكاة إنما هو في نقل رب المال خاصة وهذا هو الأصح ، وقد قال الرافعي : ربما اقتضى كلام الأصحاب طرد الخلاف في الإمام والساعي . وربما اقتضى جواز النقل للإمام والساعي التفرقة حيث شاء . قال : وهذا أشبه ، وهذا الذي رجحه هو الراجح الذي تقتضيه الأحاديث . والله أعلم .

( فرع ) : قال أصحابنا : لا يجوز للإمام ولا للساعي بيع شيء من مال الزكاة من غير ضرورة ، بل يوصلها إلى المستحقين بأعيانها ; لأن أهل الزكاة أهل رشد لا ولاية عليهم . فلم يجز بيع مالهم بغير إذنهم ، فإن وقعت ضرورة بأن وقف عليه بعض الماشية أو خاف هلاكه أو كان في الطريق خطر ، أو احتاج إلى رد جبران ، أو إلى مؤنة النقل ، أو قبض بعض شاة ، وما أشبهه جاز البيع للضرورة كما سبق في آخر باب صدقة الغنم أنه يجوز دفع القيمة في مواضع للضرورة . قال أصحابنا : ولو وجبت ناقة أو بقرة أو شاة واحدة ، فليس للمالك بيعها وتفرقة ثمنها على الأصناف بلا خلاف ، بل يجمعهم ويدفعها إليهم ، وكذا حكم الإمام عند الجمهور ، وخالفهم البغوي فقال : إن رأى الإمام ذلك فعله ، وإن رأى البيع وتفرقة الثمن فعله ، والمذهب الأول . قال أصحابنا : وإذا باع في الموضع الذي لا يجوز فيه البيع فالبيع باطل ، ويسترد المبيع ، فإن تلف ضمنه . والله أعلم .

( فرع ) : قال أصحابنا : إذا تلف من الماشية شيء في يد الساعي أو المالك إن كان بتفريط ، بأن قصر في حفظها أو عرف المستحقين وأمكنه التفريق عليهم ، فأخر من غير عذر ضمنها ; لأنه متعد بذلك ، وإن لم يفرط لم يضمن كالوكيل ، وناظر مال اليتيم ، إذا تلف في يده شيء بلا تفريط لا يضمن والله أعلم . وفي فتاوى القفال أن الإمام إذا لم يفرق الزكاة بعد التمكن ولا عذر له حتى تلفت عنده ، ضمنها كما سبق ، قال : والوكيل بتفرقة الزكاة ، لو أخر تفرقتها حتى تلف المال لم يضمن ، قال : لأن الوكيل لا يجب عليه التفريق بخلاف الإمام .

[ ص: 152 ] فرع ) قال أصحابنا : لو جمع الساعي الزكاة ثم تلفت في يده بلا تفريط قبل أن تصل إلى الإمام استحق أجرته في بيت المال ; لأنه أجير ، وممن صرح به صاحب الشامل والبيان ، ونقله صاحب البيان عن صاحب الفروع .

التالي السابق


الخدمات العلمية