صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ولا يصح أداء الزكاة إلا بالنية ; لقوله صلى الله عليه وسلم { إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } ; ولأنها عبادة محضة فلم تصح من غير نية كالصلاة ، وفي وقت النية وجهان : ( أحدهما ) يجب أن ينوي حال الدفع ; لأنه عبادة يدخل فيها بفعله فوجبت النية في ابتدائها كالصلاة .

( والثاني ) يجوز تقديم النية عليها ; لأنه يجوز التوكيل فيها ونيته غير مقارنة لأداء الوكيل ، فجاز تقديم النية بخلاف الصلاة ، ويجب أن ينوي الزكاة أو الصدقة الواجبة أو صدقة المال ، فإن نوى صدقة مطلقة لم تجزه ; لأن الصدقة قد تكون نفلا فلا تنصرف إلى الفرض إلا بالتعيين . ولا يلزمه تعيين المال المزكى عنه . وإن كان له نصاب حاضر ونصاب غائب فأخرج الفرض فقال : هذا عن الحاضر أو الغائب أجزأه ; لأنه لو أطلق النية لكانت عن ( أحدهما ) فلم يضر تقييده بذلك . فإن قال : إن كان مالي الغائب سالما فهذا عن زكاته ، وإن لم يكن سالما فهو عن الحاضر فإن كان الغائب هالكا أجزأه ; لأنه لو أطلق وكان الغائب هالكا لكان هذا عن الحاضر . وإن قال : إن كان مالي الغائب سالما فهذا عن زكاته أو تطوع لم يجزه ; لأنه لم يخلص النية للفرض .

وإن قال : إن كان مالي الغائب سالما فهذا عن زكاته ، وإن لم يكن سالما فهو تطوع وكان سالما أجزأه ; لأنه أخلص النية للفرض ; ولأنه لو أطلق النية لكان هذا مقتضاه فلم يضر التقييد . وإن كان له من يرثه فأخرج مالا وقال : إن كان قد مات مورثي فهذا عن زكاة ما ورثته منه وكان قد مات لم يجزه [ ص: 157 ] لأنه لم يبن النية على أصل ; لأن الأصل بقاؤه ، وإن كل من يؤدي الزكاة ونوى عند الدفع إلى الوكيل ، ونوى الوكيل عند الدفع إلى الفقراء أجزأه . وإن نوى الوكيل ولم ينو الموكل لم يجزه ; لأن الزكاة فرض على رب المال فلم تصح من غير نية ، وإن نوى رب المال ولم ينو الوكيل ففيه طريقان ، من أصحابنا من قال : يجوز قولا واحدا ; لأن الذي عليه الفرض قد نوى في وقت الدفع إلى الوكيل ، فتعين المدفوع للزكاة ، فلا يحتاج بعد ذلك إلى النية . ومن أصحابنا من قال : يبني على جواز تقديم النية ، فإن قلنا : يجوز أجزأه ، وإن قلنا : لا يجوز لم يجزه ، وإن دفعها إلى الإمام ولم ينو ففيه وجهان : ( أحدهما ) يجزئه وهو ظاهر النص ; لأن الإمام لا يدفع إليه الفرض فاكتفى بهذا الظاهر عن النية . ومن أصحابنا من قال : لا يجزئه ، وهو الأظهر ; لأن الإمام وكيل للفقراء ، ولو دفع إلى الفقراء لم يجز إلا بالنية عند الدفع ، فكذلك إذا دفع إلى وكيلهم ، وتأول هذا القائل قول الشافعي رحمه الله على من امتنع من أداء الزكاة فأخذها الإمام منه قهرا فإنه لا يجزئه ; لأنه تعذرت النية من جهته ، فقامت نية الإمام مقام نيته ) .


( الشرح ) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وسبق بيانه في أول باب نية الوضوء . وسبق هناك بيان الاحتراز بقوله : عبادة محضة وإنما قاس على الصلاة للرد على الأوزاعي فإنه قال : لا تفتقر الزكاة إلى نية . ووافق على افتقار الصلاة إلى النية . وهذا القياس الذي ذكره المصنف ينتقض بالعتق والوقف والوصية .

وقوله : ( وفي وقت النية وجهان : " أحدهما " يجب أن ينوي في حال الدفع ; لأنها عبادة يدخل فيها بفعله فوجبت النية في ابتدائها كالصلاة ) فقوله : " بفعله " احتراز من الصوم - وفي الفصل مسائل : ( إحداها ) لا يصح أداء الزكاة إلا بالنية في الجملة ، وهذا لا خلاف فيه عندنا وإنما الخلاف في صفة النية وتفريعها وبوجوبها قال مالك وأبو حنيفة والثوري وأحمد وأبو ثور وداود وجماهير العلماء . وشذ عنهم الأوزاعي فقال : لا تجب ويصح أداؤها بلا نية كأداء الديون . ودليلنا ما ذكره المصنف وتخالف الدين فإن الزكاة عبادة محضة كالصلاة . وأجاب القاضي أبو الطيب في تعليقه بأن حقوق الآدمي لما لم يفتقر [ ص: 158 ] المتعلق منها بالبدن كالقصاص وحد القذف إلى نية ، لم يفتقر المتعلق بالمال وحقوق الله تعالى المتعلقة بالبدن إلى النية فكذا المتعلقة بالمال وأجاب صاحب الشامل والتتمة بأن الدين ليس عبادة وإن كان فيه حق الله تعالى ، ولهذا يسقط بإسقاط صاحبه ، فالمغلب فيه حقه . قال أصحابنا : فإن نوى بقلبه دون لفظ لسانه أجزأه بلا خلاف ، وإن لفظ بلسانه ولم ينو بقلبه ففيه طريقان : ( أحدهما ) لا يجزئه وجها واحدا ، وبه قطع العراقيون والسرخسي وغيره من الخراسانيين .

( والطريق الثاني ) فيه وجهان : ( أحدهما ) يكفيه اللفظ باللسان دون نية القلب .

( والثاني ) لا يكفيه ويتعين القلب ، وهذا الطريق مشهور في كتب الخراسانيين ، ذكره الصيدلاني والفوراني وإمام الحرمين والغزالي والبغوي وآخرون . قال الرافعي وهو الأشهر . قال : ومنهم من حكى هذا الخلاف قولين ، واتفق القائلون بهذا الطريق على أن الأصح اشتراط نية القلب ، وممن قال بالاكتفاء باللسان القفال ونقله الصيدلاني وإمام الحرمين والغزالي قولا للشافعي . وأشار القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد إلى هذا فقال : قال الشافعي في الأم : سواء نوى في نفسه أو تكلم فإنما أعطى فرض مال ، فأقام اللسان مقام النية ، كما أقام أخذ الإمام مقام النية . قال وبينه في الأم فقال إنما منعني أن أجعل النية في الزكاة كنية الصلاة افتراق الصلاة والزكاة في بعض حالهما ، ألا ترى أنه يجوز دفع الزكاة قبل وقتها ؟ ويجزئ أن يأخذها الوالي بغير طيب نفسه فتجزئ عنه وهذا لا يوجد في الصلاة . هذا آخر كلام القاضي أبي الطيب وقال إمام الحرمين : المنصوص للشافعي أن النية لا بد منها . قال : وقال الشافعي في موضع آخر : " إن قال بلسانه هذا زكاة مالي أجزأه " قال : واختلف أصحابنا في هذا النص فقال صاحب التقريب فيما حكاه عنه الصيدلاني : أراد الشافعي لفظ اللسان مع نية القلب ، قال : وقالت طائفة : " يكفي اللفظ ولا تجب نية القلب . " وهو اختيار القفال قال : واحتج القفال بأمرين : ( أحدهما ) أن الزكاة تخرج من مال المرتد ولا تصح نيته .

( والثاني ) جواز النية في أداء الزكاة . ولو كانت نية القلب متعينة لوجبت على المكلف بها مباشرتها ; لأن النيات [ ص: 159 ] سر العبادات والإخلاص فيها ، قال الإمام : فقد حصل في النية قولان : ( أحدهما ) يكفي اللفظ أو نية القلب ، أيهما أتى به كفاه .

( والثاني ) وهو المذهب تعيين نية القلب ، قال البغوي في توجيه قول القفال في الاكتفاء باللفظ : لأن النيابة في الزكاة جائزة ، فلما ناب شخص عن شخص فيها جاز أن ينوب القلب عن اللسان ، قال : ولا يرد علينا الحج حيث تجزئ فيه النيابة ويشترط فيه نية القلب ; لأنه لا ينوب فيه من ليس من أهل الحج ، وفي الزكاة ينوب فيها من ليس من أهل وجوب الزكاة عليه ، فإنه لو استناب عبدا أو كافرا في أداء الزكاة جاز ، هذا كلام البغوي ، وفي استنابة الكافر في إخراجها نظر ، ولكن الصواب الجواز كما يجوز استنابته في ذبح الأضحية .

( المسألة الثانية ) قال أصحابنا : صفة نية الزكاة أن ينوي : هذا فرض زكاة مالي أو فرض صدقة مالي أو زكاة مالي المفروضة ، أو الصدقة المفروضة [ فيتعرض ] لفرض المال ; لأن مثل هذا يقع كفارة ونذرا ، وهذه الصورة كلها تجزئه بلا خلاف . ولو نوى الصدقة فقط لم تجزئه على المذهب ، وبه قطع المصنف وإمام الحرمين والبغوي والجمهور ، وحكى الرافعي فيه وجها أنه يجزئه ، وهو ضعيف ; لأن الصدقة تكون فرضا وتكون نفلا فلا يجزئه بمجردها ، كما لو كان عليه كفارة فأعتق رقبة بنية العتق المطلق لا يجزئه بلا خلاف ، ولو نوى صدقة مالي أو صدقة المال فوجهان حكاهما البغوي : ( أصحهما ) لا يجزئه .

( والثاني ) يجزئه ; لأنه ظاهر في الزكاة . ولو نوى الزكاة ولم يتعرض للفرضية فطريقان : ( أصحهما ) وبه قطع المصنف والجمهور أنه يجزئه وجها واحدا .

( والثاني ) على وجهين : ( أحدهما ) يجزئه .

( والثاني ) لا يجزئه ، حكاه إمام الحرمين والمتولي وآخرون من الخراسانيين ، قالوا : وهما كالوجهين فيمن نوى صلاة الظهر ولم يتعرض للفريضة ، وضعف إمام الحرمين وغيره هذا الطريق وهذا الدليل ، وفرقوا بأن الظهر قد تكون نافلة في حق صبي ومن صلاها ثانيا ، وأما الزكاة فلا تكون إلا فرضا فلا وجه لاشتراطه نية الفريضة مع نية الزكاة ، وقال البغوي : إن قال : هذه زكاة مالي ، كفاه ; لأن الزكاة اسم للفرض المتعلق بالمال ، وإن قال : زكاة ، ففي إجزائه وجهان ، ولم يصحح شيئا ( وأصحهما ) الإجزاء . ولو قال : هذا فرضي . قال البندنيجي : [ ص: 160 ] فلم يجزئه بلا خلاف قال : ونص الشافعي أنه يجزئه ، وهو مؤول . والله أعلم .

( الثالثة ) في وقت نية الزكاة وجهان مشهوران ذكرهما المصنف والأصحاب : ( أحدهما ) تجب النية حالة الدفع إلى الإمام أو الأصناف ، ولا يجوز تقديمها عليه كالصلاة ( وأصحهما ) يجوز تقديمها على الدفع للغير قياسا على الصوم ; لأن القصد سد خلة الفقير ، وبهذا قال أبو حنيفة وصححه البندنيجي وابن الصباغ والرافعي ومن لا يحصى من الأصحاب ، وهو ظاهر نص الشافعي في الكفارة ، فإنه قال في الكفارة : لا تجزئه حتى ينوي معها أو قبلها . قال أصحابنا : والكفارة والزكاة سواء ، قالوا ومن قال بالأول تأول على من نوى قبل الدفع واستصحب النية إليه . وذكر المتولي تأويلا آخر أنه أراد المكفر بالصوم ، والتأويلان ضعيفان والصواب إجراء النص على ظاهره . قال أصحابنا والوجهان يجريان في الكفارة . قال المتولي وآخرون : صورة المسألة أن ينوي حين يزن قدر الزكاة ، ويعزله ولا ينوي عند الدفع ، وأشار إلى هذا التصويرالماوردي والبغوي .

( الرابعة ) قال أصحابنا : لا يشترط تعيين المال المزكى في النية فلو ملك مائتي درهم حاضرة ومائتي درهم غائبة ، فأخرج عشرة دراهم بنية زكاة ماله أجزأه بلا تعيين ، وكذا لو ملك أربعين شاة وخمسة أبعرة فأخرج شاتين بنية الزكاة أجزأه بلا تعيين ، ولو أخرج بلا تعيين خمسة دراهم بنية الزكاة مطلقا ثم بان تلف أحد المالين أو تلف أحدهما بعد الإخراج فله جعل الزكاة عن الباقي ، ولو عين مالا لم ينصرف إلى غيره ، فإذا نوى بالخمسة ( أحدهما ) بعينه فبان تالفا ، لا يجزئه عن الآخر ولو قال هذه الخمسة عن أحدهما فبان أحدهما تالفا والآخر سالما أجزأه عن السالم ; لأنه لو أطلق النية وقع عن السالم فلا يضره التقييد به ، وإن قال : إن كان الغائب سالما فهذا عن زكاته وإلا فهو عن الحاضر وكان الغائب تالفا فقد قطع المصنف والأصحاب بأنه يجزئ عن الحاضر وهو الصواب ، وكذا نقله إمام الحرمين والرافعي عن الجمهور . قالوا : ولا يضر هذا التردد ; لأن التعيين ليس بشرط حتى لو قال : هذا عن الحاضر أو عن الغائب أجزأه وعليه خمسة أخرى إن كانا سالمين [ ص: 161 ] بخلاف ما لو نوى الصلاة عن فرض الوقت إن كان الوقت دخل وإلا فعن الفائتة لا يجزئه بالاتفاق ; لأن التعيين شرط الصلاة ، وحكوا عن صاحب التقريب ترددا في إجزائه عن الحاضر مع اتفاقهم على إجزائه عن الغائب إن كان باقيا . والصواب الجزم بإجزائه أيضا عن الحاضر إن كان الغائب تالفا . ولو قال : هذه عن الغائب إن كان باقيا وإلا فعن الحاضر أو هي صدقة ، فإن كان الغائب سالما أجزأه عنه بلا خلاف ، وإن كان الغائب تالفا لم يقع عن الحاضر كما قال الشافعي والمصنف والأصحاب . واتفقوا على أنه لو قال : إن كان مالي الغائب سالما فهذا عن زكاته أو نافلة ، فكان سالما لم يجزئه ; لأنه لم يختص القصد للفرض ، وإن قال : إن كان مالي الغائب سالما فهذا عن زكاته ، وإلا فهو تطوع فكان سالما أجزأه عنه بلا خلاف ، صرح به المصنف والأصحاب ; لأنه اختص النية للفرض ; ولأنه لو أطلق النية لكان هذا مقتضاه فلا يضر التقييد به ، وكذا لو قال : هذا عن زكاة مالي الغائب فإن كان تالفا فهو صدقة تطوع فكان سالما أجزأه عنه بالاتفاق ; لما ذكرنا . قال أصحابنا : وفي هاتين الصورتين لو بان الغائب تالفا لا يجوز له الاسترداد . قالوا : وكذا لو اقتصر على قوله زكاة الغائب فبان تالفا لا يجوز إلا الاسترداد إلا إذا صرح . فقال : هذا عن زكاة الغائب . فإن كان تالفا استرددته . وأما إذا أخرج الخمسة وقال : إن كان مورثي مات وورثت ماله فهذه زكاته ، فبان أنه مات وورثه فلا تحسب الخمسة عن زكاته بلا خلاف . صرح به المصنف وجميع الأصحاب . قالوا : لأنه لم يبن على أصل فإن الأصل عدم الإرث بخلاف مسألة المال الغائب ; لأن الأصل بقاؤه فاعتضد التردد في النية بأصل البقاء . ونظيره من قال في آخر رمضان : أصوم غدا إن كان من رمضان ، فبان منه يجزئه . ولو قال ذلك في أوله لم يجزئه ; لما ذكرناه في مسألتي زكاة الغائب والإرث . قال صاحب البيان وغيره : وكذا لو جزم الوارث فقال : هذا زكاة ما ورثته عن مورثي وهو لا يعلم موته ، فلا يجزئه بالاتفاق أيضا . قال أصحابنا : والفرق بين هذا وبين ما لو باع مال أبيه ظانا حياته فبان ميتا فإنه يصح على الأصح ; لأن البيع لا يفتقر إلى نية بخلاف الزكاة . أما إذا قال : هذا عن مالي الغائب إن كان باقيا واقتصر [ ص: 162 ] على هذا القدر فكان باقيا أجزأه عنه ، وإن كان تالفا فليس له صرف المخرج إلى زكاة الحاضر على المذهب وبه قطع القاضي أبو الطيب في المجرد وآخرون ، وفيه وجه ضعيف حكاه الرافعي أن له صرفه إلى الحاضر . والله أعلم .

( فإن قيل ) : تصح هذه الصور على مذهب الشافعي وهو لا يجوز نقل الزكاة فكيف تصح عن الغائب ؟ ، قال أصحابنا : يتصور إذا جوزنا نقل الزكاة على أحد القولين ، وتتصور بالاتفاق إذا كان غائبا عن مجلسه ، ولكنه معه في البلد لا في بلد آخر ، وتتصور فيمن هو في سفينة أو برية ومعه مال ، وله مال آخر في أقرب البلاد إليه ، فموضع تفريق المالين واحد . والله أعلم .

( الخامسة ) إذا وكل في إخراج الزكاة ، فإن نوى الموكل عند الدفع إلى الوكيل ونوى الوكيل عند الصرف إلى الأصناف ، أو عند الصرف إلى الإمام أو الساعي أجزأه بلا خلاف ، وهو الأكمل ، وإن لم ينويا أو نوى الوكيل دون الموكل لم يجزئه بالاتفاق . وإن نوى الموكل عند الدفع إلى الوكيل دون الوكيل فطريقان حكاهما المصنف والأصحاب : ( أحدهما ) القطع بالإجزاء ; لأن المكلف بالزكاة هو المالك وقد نوى ( وأصحهما ) فيه وجهان بناء على تقديم النية على التفريق ، إن جوزنا أجزأ هذا وإلا فلا ، والمذهب الإجزاء . ولو وكله وفوض إليه النية ونوى الوكيل . قال إمام الحرمين والغزالي : أجزأه بلا خلاف ، ولو دفع إلى الوكيل بلا نية ودفع الوكيل ولم ينو ، لكن نوى الموكل حال دفع الوكيل إلى الأصناف أجزأ بلا خلاف ; لأن نية الموكل قارنت الصرف إلى المستحق ، فأشبه تفريقه بنفسه ، ولو دفع إلى الوكيل بلا نية ، ثم نوى قبل صرف الوكيل إلى الأصناف فقد جزم صاحب البيان بالإجزاء ويحتمل أن فرعه على الأصح ، وهو تقدم النية على الدفع . والله أعلم . فإن قيل : قلتم هنا : إن النائب لو نوى وحده لا يجزئ بلا خلاف ، ولو نوى الموكل وحده أجزأ على المذهب وفي الحج عكسه يشترط نية النائب ، وهو الأجير ولا تشترط نية المستأجر ولا تنفع ( فالجواب ) [ ص: 163 ] ما أجاب به المتولي وغيره أن الفرض في الفعل يقع بفعل الوكيل ، فاشترط قصده الأداء عن المستأجر ، لينصرف الفعل إليه ، وأما هنا فالفرض يقع بمال الموكل ، فاكتفى بنيته ، قالوا : ونظير الحج أن يقول الموكل : أد زكاة مالي من مالك ، فيشترط نية الوكيل . والله أعلم .

( السادسة ) ولي الصبي والمجنون والسفيه يلزمه إخراج زكاة أموالهم ويلزمه النية بالاتفاق ، فلو دفع بلا نية لم يقع زكاة ويدخل في ضمانه ، وعليه استرداده فإن تعذر فعليه ضمانه من مال نفسه لتفريطه ، صرح به ابن كج والرافعي وغيرهما وهو ظاهر .

( السابعة ) إذا تولى السلطان قسم زكاة إنسان ، فإن كان المالك دفعها طوعا ونوى عند الدفع ، كفاه وأجزأ ولا يشترط نية السلطان عند الدفع إلى الأصناف بلا خلاف ; لأنه نائبهم في القبض ، فإن لم ينو المالك ونوى السلطان أو لم ينو أيضا فوجهان مشهوران حكاهما المصنف والأصحاب .

( أحدهما ) يجزئه . قال المصنف والأصحاب : وهو ظاهر النص في المختصر وبه قطع جماعة من العراقيين منهم المحاملي والقاضي أبو الطيب في المجرد وصححه الماوردي : لأن الإمام لا يدفع إليه إلا الفرض فاكتفى بهذا الظاهر عن النية .

( والثاني ) لا يجزئه ; لأنه لم ينو ، والنية واجبة بالاتفاق ; ولأن الإمام إنما يقبض نيابة عن المساكين ، ولو دفع المالك إلى المساكين بلا نية لم يجزئه فكذا إذا دفع إلى نائبهم ، وهذا هو الأصح صححه المصنف هنا وفي التنبيه وشيخه القاضي أبو الطيب والبندنيجي والبغوي وآخرون ، وصححه الرافعي في المحرر قال الرافعي في الشرح : هذا هو الأصح عند جمهور المتأخرين ، وتأولوا نص الشافعي في المختصر ، على أن المراد به الممتنع من دفع الزكاة فيجزئه إذا أخذها الإمام لكن نص الشافعي في الأم أنه يجزئه إذا أخذها الإمام . وإن لم ينو المالك طائعا كان أو مكرها ، قلت : وهذا نص يمكن تأويله أيضا على أن المراد يجزئه في الظاهر فلا يطالب بالزكاة مرة أخرى . وأما في الباطن فمسكوت عنه وقد قام دليل على أنه لا يجزئه في الباطن . وهو ما ذكرناه . [ ص: 164 ] هذا كله إذا دفع رب المال إلى الإمام باختياره . فأما إذا امتنع فأخذها منه الإمام قهرا - فإن نوى رب المال حال الأخذ - أجزاه ظاهرا وباطنا وإن لم ينو الإمام ، وهذا لا خلاف فيه ، كما سبق في حال الاختيار . وإن لم ينو رب المال نظر إن نوى الإمام أجزأه في الظاهر فلا يطالب ثانيا وهل يجزئه باطنا ؟ فيه وجهان مشهوران في طريقة الخراسانيين ( أصحهما ) يجزئه وهو ظاهر كلام المصنف وجمهور العراقيين . وتقوم نية الإمام مقام نيته للضرورة كما تقوم نية ولي الصبي والمجنون والسفيه مقام نيته للضرورة . وإن لم ينو الإمام أيضا لم يسقط الفرض في الباطن قطعا . وهل يسقط في الظاهر ؟ فيه وجهان مشهوران أيضا ( الأصح ) لا يسقط . هكذا ذكره البغوي وآخرون ( وأما ) وجوب النية على الإمام فالمذهب وجوبها عليه وأنها تقوم مقام نية المالك . وأن الإمام إذا لم ينو عصى . هكذا قال هذا كله القفال في شرحه التلخيص والرافعي وآخرون . وقال إمام الحرمين والغزالي : إن قلنا : لا تسقط الزكاة عن الممتنع في الباطن لم تجب النية على الإمام . وإلا فوجهان : ( أحدهما ) تجب كالولي .

( والثاني ) لا ; لئلا يتهاون المالك بالواجب عليه . والله أعلم .

( الثامنة ) لو تصدق بجميع ماله ولم ينو الزكاة لم تسقط عنه الزكاة بلا خلاف ، كما لو وهبه أو أتلفه وكما لو كان عليه صلاة فرض فصلى مائة صلاة نافلة لا يجزئه بلا خلاف . هذا مذهبنا . وقال أصحاب أبي حنيفة : يجزئه ، ولو تصدق ببعضه لم يجزئه أيضا عن الزكاة وبه قال أبو يوسف وقال محمد : يجزئه عن زكاة ذلك البعض ، ولو أخرج خمسة دراهم ونوى بها الفرض والتطوع لم يجزئه عن الزكاة وكانت تطوعا . وبه قال محمد وقال أبو يوسف : تجزئه عن الزكاة . دليلنا أنه لم تمحض للفرض فلم تصح عنه كالصلاة . والله أعلم . وفي كتاب الزيادات لأبي عاصم أنه لو دفع مالا إلى وكيله ليفرقه تطوعا ثم نوى به الفرض ثم فرقها الوكيل وقع عن الفرض إذا كان القابض مستحقا .

التالي السابق


الخدمات العلمية