صفحة جزء
قال المصنف رحمهم الله : ( وسهم للفقراء ، والفقير هو الذي لا يجد ما يقع موقعا من كفايته فيدفع إليه ما تزول به حاجته من أداة يعمل بها إن كان فيه قوة ، أو بضاعة يتجر فيها حتى لو احتاج إلى مال كثير للبضاعة التي [ ص: 170 ] تصلح له ، ويحسن التجارة فيه وجب أن يدفع إليه ، وإن عرف لرجل مال وادعى أنه افتقر لم يقبل منه إلا ببينة ; لأنه ثبت غناه فلا تقبل دعوى الفقر إلا ببينة ، كما لو وجب عليه دين آدمي وعرف له مال فادعى الإعسار ، فإن كان قويا وادعى أنه لا كسب له أعطي ، لما روى عبيد الله بن عبد الله بن الخيار { أن رجلين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة فصعد بصره إليهما وصوب ثم قال : أعطيكما بعد أن أعلمكما أنه لا حظ فيها لغني ولا قوي مكتسب } وهل يحلف ؟ فيه وجهان : ( أحدهما ) لا يحلف ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحلف الرجلين .

( الثاني ) يحلف ; لأن الظاهر أنه يقدر على الكسب مع القوة ) .


( الشرح ) هذا الحديث صحيح رواه أبو داود والنسائي وغيرهما بأسانيد صحيحة عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال : { أخبرني رجلان أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها ، فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين فقال : إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب } هذا لفظ إسناد الحديث ومتنه في كتاب السنن وقوله : ( جلدين ) بفتح الجيم أي قويين . ووقع في أكثر نسخ المهذب عبيد الله بن عبد الله بن الخيار ، ووقع في بعضها عبيد الله بن عدي بن الخيار . وهذا الثاني هو الصواب ، والأول غلط صريح وهو عبيد الله بن عدي بن الخيار . بكسر الخاء المعجمة وبعدها ياء مثناة من تحت : ابن نوفل بن عبد مناف بن قصي وهذا لا خلاف فيه بين العلماء من جميع الطوائف . وكذا في سنن أبي داود والنسائي والبيهقي وغيرهما من كتب الحديث . وينكر على المصنف فيه شيء آخر وهو أنه قال : عن عبيد الله أن رجلين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعبيد الله تابعي فجعل الحديث مرسلا وهو غلط ، بل الحديث متصل عن عبيد الله عن الرجلين كما ذكرناه . وهكذا هو في جميع كتب الحديث ، والرجلان صحابيان لا يضر جهالة عينهما ; لأن الصحابة كلهم عدول .

وقوله : ( صعد بصره ) هو بتشديد العين ، أي رفعه . وقوله : ( وصوبه ) أي خفضه ، وقوله في أول الفصل ( من أداة يعمل بها ) هي بفتح الهمزة وبدال مهملة ، وهي الآلة . [ ص: 171 ] أما الأحكام ) ففيه مسائل : ( إحداها ) في حقيقة الفقير الذي يستحق سهما في الزكاة . قال الشافعي والأصحاب : هو الذي لا يقدر على ما يقع موقعا من كفايته لا بمال ولا بكسب ، وشرحه الأصحاب فقالوا : هو من لا مال له ولا كسب أصلا أو له ما لا يقع موقعا من كفايته ، فإن لم يملك إلا شيئا يسيرا بالنسبة إلى حاجته بأن كان يحتاج كل يوم إلى عشرة دراهم وهو يملك درهمين أو ثلاثة كل يوم فهو فقير ; لأن هذا القدر لا يقع موقعا من الكفاية قال البغوي وآخرون : ولو كان له دار يسكنها أو ثوب يلبسه متجملا به فهو فقير ، ولا يمنع ذلك فقره لضرورته إليه . قال الرافعي : ولم يتعرضوا لعبده الذي يحتاج إليه للخدمة ، وهو في سائر الأصول ملحق بالمسكن ( قلت ) : قد صرح ابن كج في كتابه التجريد بأن العبد الذي يحتاج إليه للخدمة كالمسكن ، وأنهما لا يمنعان أخذه الزكاة ; لأنهما مما يحتاج إليه كثيابه قال الرافعي : ولو كان عليه دين فيمكن أن يقال : القدر الذي يؤدي به الدين لا حكم لوجوده ولا يمنع الاستحقاق من سهم الفقراء ، كما لا اعتبار به في وجوب نفقة القريب . قال : وفي فتاوى البغوي أنه لا يعطي سهم الفقراء حتى يصرف ما عنده إلى الدين . قال البغوي : يجوز أخذ الزكاة لمن ماله على مسافة القصر إلى أن يصل ماله . قال : ولو كان له دين مؤجل فله أخذ كفايته إلى حلول الأجل . قال الرافعي : وقد يتردد الناظر في اشتراطه مسافة القصر . وأما الكسب فقال أصحابنا : يشترط في استحقاقه سهم الفقراء أن لا يكون له كسب يقع موقعا من كفايته كما ذكرنا في المال ، ولا يشترط العجز عن أصل الكسب ، قالوا : والمعتبر كسب يليق بحاله ومروءته ، وأما ما لا يليق به فهو كالمعدوم . قالوا : ولو قدر على كسب يليق بحاله إلا أنه مشتغل بتحصيل بعض العلوم الشرعية بحيث لو أقبل على الكسب لانقطع عن التحصيل حلت له الزكاة ; لأن تحصيل العلم فرض كفاية .

( وأما ) من يتأتى منه التحصيل فلا تحل له الزكاة إذا قدر على الكسب ، وإن كان مقيما بالمدرسة ، هذا الذي ذكرناه هو الصحيح المشهور [ ص: 172 ] وذكر الدارمي في المشتغل بتحصيل العلم ثلاثة أوجه : ( أحدها ) يستحق وإن قدر على الكسب .

( والثاني ) لا .

( والثالث ) إن كان نجيبا يرجى تفقهه ونفع المسلمين به استحق وإلا فلا ، ذكرها الدارمي في باب صدقة التطوع وأما من أقبل على نوافل العبادات - والكسب يمنعه منها . أو من استغراق الوقت بها - فلا تحل له الزكاة بالاتفاق ; لأن مصلحة عبادته قاصرة عليه ، بخلاف المشتغل بالعلم . قال أصحابنا : وإذا لم يجد الكسوب من يستعمله حلت له الزكاة ; لأنه عاجز .

( فرع ) هل يشترط في الفقير الزمانة والتعفف عن السؤال ؟ فيه طريقان المذهب لا يشترط . وبه قطع الجمهور من العراقيين وغيرهم ( والثاني ) حكاه الخراسانيون فيه قولان ( أصحهما ) لا يشترط ( والثاني ) يشترط ، قالوا : الجديد لا يشترط ، والقديم يشترط ، وتأول العراقيون وغيرهم القديم .

( فرع ) قال أصحابنا : والمعتبر في قولنا يقع موقعا من كفايته المطعم والملبس والمسكن وسائر ما لا بد منه على ما يليق بحاله بغير إسراف ولا إقتار لنفس الشخص ولمن هو في نفقته .

( فرع ) المكفى بنفقة أبيه أو غيره ممن يلزمه نفقته ، والفقيرة التي لها زوج غني ينفق عليها هل يعطيان من سهم الفقراء ؟ فيه خلاف منتشر ذكره جماعة منهم إمام الحرمين ، ولخصه الرافعي فقال : هو مبني على مسألة ، وهي لو وقف على فقراء أقاربه أو أوصى لهم فكانا في أقاربه هل يستحقان سهما في الوقف والوصية ؟ فيه أربعة أوجه : ( أصحها ) لا يستحقان قاله الشيخ أبو زيد والخضري وصححه الشيخ أبو علي السنجي وغيره .

( والثاني ) يستحقان قاله ابن الحداد .

( والثالث ) يستحق القريب دون الزوجة ; لأنها تستحق عوضا يثبت في ذمة الزوج ويستقر ، قاله الأودني .

( والرابع ) عكسه ، والفرق أن القريب يلزمه كفايته من كل وجه حتى الدواء ، وأجرة الطبيب ، فاندفعت حاجته ، والزوجة ليس لها إلا مقدر ، وربما لا يكفيها . قال : فأما مسألة الزكاة - فإن قلنا - لا حق لهما في الوقف والوصية فالزكاة أولى ، وإلا فوجهان : ( الأصح ) يعطيان كالوقف والوصية [ ص: 173 ]

( والثاني ) لا .

وبه قال ابن الحداد ، والفرق أن الاستحقاق في الوقف باسم الفقر ، ولا يزول اسم الفقر بقيام غيره بأمره . وفي الزكاة بالحاجة ولا حاجة مع توجه النفقة ، فأشبه من يكتسب كل يوم كفايته ، فإنه لا يجوز له الأخذ من الزكاة ، وإن كان معدودا من الفقراء ، والخلاف في القريب إذا أعطاه غير من تلزمه نفقته من سهم الفقراء ، أو المساكين ، ويجوز له أن يعطيه من غيرهما بلا خلاف . وأما المنفق فلا يجوز له أن يعطيه من سهم الفقراء والمساكين بلا خلاف ; لأنه مستغن بنفقته ، ولأنه يدفع عن نفسه النفقة وله أن يعطيه من سهم العامل والغارم والغازي والمكاتب إذا كان بتلك الصفة ، وكذا من سهم المؤلفة إلا أن يكون فقيرا ، فلا يجوز أن يعطيه ; لئلا يسقط النفقة عن نفسه ، ويجوز أن يعطيه من سهم ابن السبيل مؤنة السفر دون ما يحتاج إليه سفرا وحضرا ; لأن هذا القدر هو المستحق عليه بسبب القرابة .

( وأما ) في مسألة الزوجة فالوجهان جاريان في الزوج كغيره ; لأنه بالصرف إليها لا يدفع عن نفسه النفقة ، بل نفقتها عوض لازم سواء كانت غنية أو فقيرة فصار كمن استأجر فقيرا ، فإن له دفع الزكاة إليه مع الأجرة ، وقطع العراقيون بأنه ليس له الدفع إليها ، فإن قلنا : لا يجوز الدفع إليها ، فلو كانت ناشزة فوجهان : ( أحدهما ) وهو الذي ذكره البغوي يجوز إعطاؤها ; لأنه لا نفقة لها .

( وأصحهما ) لا يجوز ، وبه قطع الشيخ أبو حامد والأكثرون ; لأنها قادرة على النفقة بترك النشوز ، فأشبهت القادر على الكسب ، وللزوج أن يعطيها من سهم المكاتب والغارم بلا خلاف ، ومن سهم المؤلفة على الأصح ، وبه قطع المتولي ، وقال الشيخ أبو حامد : لا تكون المرأة من المؤلفة ، وهو ضعيف . قال أصحابنا : ولا تكون المرأة عاملة ولا غازية . وأما سهم ابن السبيل فإن سافرت مع الزوج لم تعط منه سواء سافرت بإذنه أو بغير إذنه ; لأن نفقتها عليه في الحالين ; لأنها في قبضته ولا تعطى مؤنة السفر إن سافرت معه بغير إذنه ; لأنها عاصية ، وإن سافرت وحدها - فإن كان بإذنه - أوجبنا نفقتها ، أعطيت مؤنة السفر فقط من سهم ابن السبيل ، [ ص: 174 ] وإن لم نوجبها أعطيت جميع كفايتها ، وإن سافرت وحدها بغير إذنه لم تعط ; لأنها عاصية . قال الشيخ أبو حامد والأصحاب : ويجوز أن تعطى هذه من سهم الفقراء والمساكين بخلاف الناشزة ; لأنها تقدر على العود إلى طاعته والمسافرة لا تقدر . فإن تركت سفرها وعزمت على العود إليه أعطيت من سهم ابن السبيل لخروجها عن المعصية . هذا آخر ما نقله الرافعي . والله أعلم . قال أصحابنا : ولو كانت الزوجة ذات مال فلها صرف زكاتها إلى الزوج إذا كان بصفة الاستحقاق ، سواء صرفت من سهم الفقراء والمساكين أو نحوهم ، لأنه لا يلزمها نفقته فهو كالأجنبي وكالأخ وغيره من الأقارب الذين لا تجب نفقتهم ودفعها إلى الزوج أفضل من الأجنبي كما سنوضحه في أواخر الباب إن شاء الله .

( فرع ) إذا كان له عقار ينقص دخله عن كفايته فهو فقير أو مسكين ، فيعطى من الزكاة تمام كفايته ولا يكلف بيعه ، ذكره أبو العباس الجرجاني في التحرير والشيخ نصر المقدسي وآخرون .

( فرع ) قال الغزالي في الإحياء : لو كان له كتب فقه لم تخرجه عن المسكنة - يعني والفقر - قال : فلا يلزمه زكاة الفطر ، وحكم كتابه حكم أثاث البيت ; لأنه محتاج إليه ، قال لكن ينبغي أن يحتاط في فهم الحاجة إلى الكتاب ، فالكتاب يحتاج إليه لثلاثة أغراض : التعليم والتفرج بالمطالعة والاستفادة ، فالتفرج لا يعد حاجة كاقتناء كتب الشعر والتواريخ ونحوهما مما لا ينفع في الآخرة ولا في الدنيا فهذا يباع في الكفارة وزكاة الفطر ويمنع اسم المسكنة . وأما حاجة التعليم فإن كان للتكسب كالمؤدب والمدرس بأجرة فهذه آلته ، فلا تباع في الفطرة كآلة الخياط ، وإن كان يدرس لقيام فرض الكفاية لم تبع . ولا تسلبه اسم المسكنة ; لأنها حاجة مهمة أي حاجة . وأما الاستفادة والتعلم من الكتاب كادخاره كتاب طب ليعالج نفسه به . أو كتاب وعظ ليطالعه ويتعظ به ، فإن كان في البلد طبيب أو واعظ فهو مستغن عن الكتاب وإن لم يكن فهو محتاج ، ثم ربما لا يحتاج إلى مطالعته إلا بعد مدة . قال فينبغي أن يضبط ، فيقال : ما لا يحتاج إليه في السنة فهو [ ص: 175 ] مستغن عنه ، فتقدر حاجة أثاث البيت وثياب البدن بالسنة فلا يباع ثياب الشتاء في الصيف ولا ثياب الصيف في الشتاء ، والكتب بالثياب أشبه ، وقد يكون له من كتاب نسختان فلا حاجة له إلا إلى ( أحدهما ) ، فإن قال : أحدهما أصح والأخرى أحسن ، قلنا : اكتف بالأصح وبع الأحسن ، وإن كانا كتابين من علم واحد أحدهما مبسوط والآخر وجيز ، فإن كان مقصوده الاستفادة فليكتف بالمبسوط ، وإن كان قصده التدريس احتاج إليهما .

هذا آخر كلام الغزالي وهو حسن إلا قوله في كتاب الوعظ أنه يكتفي بالوعظ فليس كما قال ; لأنه ليس كل أحد ينتفع بالواعظ كانتفاعه في خلوته ، وعلى حسب إرادته . وقال أبو عاصم العبادي في كتابه الزيادات : لو كان له كتب علم وهو عالم جاز دفع سهم الفقراء إليه ، قال : ولا تباع كتبه في الدين . والله أعلم .

( فرع ) سئل الغزالي عن القوي من أهل البيوتات الذين لم تجر عادتهم بالتكسب بالبدن ، هل له أخذ الزكاة من سهم الفقراء والمساكين ؟ فقال : نعم وهذا صحيح جاز على ما سبق أن المعتبر حرفة تليق به . والله أعلم .

( المسألة الثانية ) في قدر المصروف إلى الفقير والمسكين ، قال أصحابنا العراقيون وكثيرون من الخراسانيين : يعطيان ما يخرجهما من الحاجة إلى الغنى ، وهو ما تحصل به الكفاية على الدوام . وهذا هو نص الشافعي رحمه الله واستدل له الأصحاب بحديث قبيصة بن المخارق الصحابي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة ، رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ، أو قال سدادا من عيش ، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه : لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ، أو قال سدادا من عيش ، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا } رواه مسلم في صحيحه ، والقوام والسداد بكسر أولهما ، وهما بمعنى .

قال أصحابنا : فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة حتى يصيب ما يسد حاجته فدل على ما ذكرناه . قالوا : وذكر الثلاثة في [ ص: 176 ] الشهادة للاستظهار لا للاشتراط قال أصحابنا : فإن كانت عادته الاحتراف أعطي ما يشتري به حرفته أو آلات حرفته ، قلت قيمة ذلك أم كثرت ، ويكون قدره بحيث يحصل له من ربحه ما يفي بكفايته تقريبا . ويختلف ذلك باختلاف الحرف والبلاد والأزمان والأشخاص . وقرب جماعة من أصحابنا ذلك فقالوا : من يبيع البقل يعطى خمسة دراهم أو عشرة ، ومن حرفته بيع الجوهر يعطى عشرة آلاف درهم مثلا إذا لم يتأت له الكفاية بأقل منها . ومن كان تاجرا أو خبازا أو عطارا أو صرافا أعطي بنسبة ذلك ، ومن كان خياطا أو نجارا أو قصارا أو قصابا أو غيرهم من أهل الصنائع أعطي ما يشتري به الآلات التي تصلح لمثله ، وإن كان من أهل الضياع يعطى ما يشتري به ضيعة أو حصة في ضيعة تكفيه غلتها على الدوام . قال أصحابنا : فإن لم يكن محترفا ولا يحسن صنعة أصلا ولا تجارة ولا شيئا من أنواع المكاسب أعطي كفاية العمر الغالب لأمثاله في بلاده ولا يتقدر بكفاية سنة ، قال المتولي : وغيره : يعطى ما يشتري به عقارا يستغل منه كفايته ، قال الرافعي : ومنهم من يشعر كلامه بأنه يعطى ما ينفق عينه في مدة حياته ، والصحيح بل الصواب هو الأول ، هذا الذي ذكرناه من إعطائه كفاية عمره هو المذهب الصحيح الذي قطع به العراقيون وكثيرون من الخراسانيين ، ونص عليه الشافعي وذكر البغوي والغزالي وغيرهما من الخراسانيين أنه يعطى كفاية سنة ولا يزاد ; لأن الزكاة تتكرر كل سنة فيحصل كفايته منها سنة سنة ، وبهذا قطع أبو العباس بن القاص في المفتاح ، والصحيح الأول وهو كفاية العمر . قال الشيخ نصر المقدسي : هو قول عامة أصحابنا ، قال : وهو المذهب ، وقال الرافعي : وهو قول أصحابنا العراقيين وآخرين ، وقال صاحب البيان : هو المنصوص وقول جمهور أصحابنا .

( المسألة الثالثة ) إذا عرف لرجل مال فادعى تلفه وأنه فقير أو مسكين لم يقبل منه إلا ببينة ; لما ذكره المصنف ، وهذا لا خلاف فيه ، وفي هذه البينة وصفتها كلام سيأتي إن شاء الله تعالى في فصل المكاتب . قال الرافعي : ولم يفرقوا بين دعواه الهلاك بسبب خفي كالسرقة ، أو ظاهر كالحريق ، وإن لم يعرف مال وادعى الفقر [ ص: 177 ] أو المسكنة قبل قوله ولا يطالب ببينة بلا خلاف ; لأن الأصل في الإنسان الفقر .

( المسألة الرابعة ) إذا ادعى أنه لا كسب له ، فإن كان ظاهره عدم الكسب كشيخ هرم أو شاب ضعيف البنية ونحوهما ، قبل قوله بغير يمين بلا خلاف ; لأن الأصل والظاهر عدم الكسب ، وإن كان شابا قويا لم يكلف البينة بلا خلاف بل يقبل قوله ، وهل يحلف ؟ فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) يقبل قوله بلا يمين للحديث ; ولأن مبنى الزكاة على المسامحة والرفق ، فلا يكلف يمينا ، والقائل الآخر يتأول الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم من حالهما عدم الكسب والقدرة . وهذا تأويل ضعيف ، فإن آخر الحديث يخالف هذا ( فإن قلنا ) : يحلف ، فهل اليمين مستحبة أو شرط ؟ فيه وجهان ، فإن نكل ، فإن قلنا : شرط لم يعط وإلا أعطي . ولو قال : لا مال لي واتهمه فهو كقوله لا كسب لي فيجيء في تحليفه ما ذكرناه ، هكذا نقلوه ، وهو ظاهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية