صفحة جزء
قال المصنف رحمهم الله : ( وسهم للمساكين ، والمسكين هو الذي يقدر على ما يقع موقعا من كفايته ، إلا أنه لا يكفيه ، وقال أبو إسحاق : هو الذي لا يجد ما يقع موقعا من كفايته ، فأما الذي يجد ما يقع موقعا من كفايته فهو الفقير والأول أظهر ; لأن الله تعالى بدأ بالفقراء ، والعرب لا تبدأ إلا بالأهم فالأهم ، فدل على أن الفقير أمس حاجة ; ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا } " { وكان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الفقر } فدل على أن الفقر أشد ، ويدفع إلى المسكين تمام الكفاية ، فإن ادعى عيالا لم يقبل منه إلا ببينة ; لأنه يدعي خلاف الظاهر " ) .


. ( الشرح ) أما قوله : { إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الفقر } فهو ثابت في الصحيحين من رواية عائشة رضي الله عنها . وأما حديث { أحيني مسكينا وأمتني مسكينا } فرواه الترمذي في جامعه في [ ص: 178 ] كتاب الزهد ، والبيهقي في سننه وغيرهما من رواية أنس رضي الله عنه وإسناده ضعيف ، ورواه ابن ماجه في سننه في كتاب الزهد من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وإسناده أيضا ضعيف ، ورواه البيهقي أيضا من رواية عبادة بن الصامت . قال البيهقي : قال أصحابنا : فقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من الفقر وسأل المسكنة . وقد كان له صلى الله عليه وسلم بعض الكفاية فدل على أن المسكين من له بعض الكفاية قال البيهقي : وقد روي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم : استعاذ من المسكنة والفقر فلا يجوز أن يكون استعاذ من الحال التي شرفها في أخبار كثيرة ، ولا من الحال التي سأل صلى الله عليه وسلم أن يحيى ويمات عليها ، قال : ولا يجوز أن تكون مسألته صلى الله عليه وسلم مخالفة لما مات عليه صلى الله عليه وسلم فقد مات مكفيا بما أفاء الله تعالى عليه وقال : ووجه الأحاديث عندي أنه استعاذ من فتنة الفقر والمسكنة اللذين يرجع معناهما إلى القلة ، كما استعاذ صلى الله عليه وسلم من فتنة الغنى ، فقد روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول { اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار ، وفتنة الفقر ، وعذاب القبر ، وشر فتنة الغنى ، وشر فتنة الفقر ، اللهم إني أعوذ بك من شر فتنة الدجال } رواه البخاري ومسلم ، وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم إنما استعاذ من شر فتنة الفقر دون حال الفقر ، ومن فتنة الغنى دون حال الغنى ، قال : وأما قوله صلى الله عليه وسلم إن كان قال { أحيني مسكينا وأمتني مسكينا } فإن صح طريقه وفيه نظر فالذي يدل عليه حاله عند وفاته صلى الله عليه وسلم أنه لم يسأل مسكنة يرجع معناها إلى القلة ، بل مسكنة معناها الإخبات والتواضع ، وأن لا يكون من الجبابرة المتكبرين وأن لا يحشر في زمرة الأغنياء المترفين ، قال القتيبي : المسكنة مشتقة من السكون يقال : تمسكن الرجل ، إذا لان وتواضع وخشع ، هذا آخر كلام البيهقي .

ومذهب أبي حنيفة ومالك أن المسكين أسوأ حالا من الفقير ، كما حكاه المصنف عن أبي إسحاق المروزي ، قال أصحابنا : والخلاف بيننا وبين أبي حنيفة في الفقير والمسكين لا يظهر له فائدة في الزكاة [ ص: 179 ] لأنه يجوز عنده صرف الزكاة إلى صنف واحد بل إلى شخص واحد من صنف ، لكن يظهر في الوصية للفقراء دون المساكين أو للمساكين دون الفقراء ، وفيمن أوصى بألف للفقراء وبمائة للمساكين وفيمن نذر أو حلف ليتصدقن على أحد الصنفين دون الآخر ، أما إذا أطلق أحد الصنفين في الوصية والوقف والنذر وجميع المواضع غير الزكاة ولم ينف الآخر فإنه يجوز عندنا أن يعطي الصنف الآخر بلا خلاف ، صرح به أصحابنا واتفقوا عليه ، وضابطه أنه متى أطلق الفقراء أو المساكين تناول الصنفين ، وإن جمعا أو ذكر ( أحدهما ) ونفى الآخر وجب التمييز حينئذ ، ويحتاج عند ذلك إلى بيان النوعين أيهما أسوأ حالا ؟ والمشهور عندنا ، وهو الذي نص عليه الشافعي وجماهير أصحابنا المتقدمين والمتأخرين أن الفقير أسوأ حالا كما ذكره المصنف ، وبهذا قال خلائق من أهل اللغة .

( أما ) حقيقة المسكين فقال الشافعي والأصحاب : هو من يقدر على ما يقع موقعا من كفايته ولا يكفيه ، قال أصحابنا : مثاله : يحتاج إلى عشرة ويقدر على ثمانية أو سبعة ، وسبق في فصل الفقير أن القدرة على الكسب كالقدرة على المال وتقدم بيان الكسب المعتبر والمال المعتبر ، وأن الفقير والمسكين يعطيان تمام كفايتهما وسبق كيفية إعطاء الكفاية وجميع الفروع السابقة لا فرق فيها بين الفقير والمسكين ، قال أصحابنا : وسواء كان المال الذي يملكه المسكين نصابا أو أقل أو أكثر إذا لم يبلغ كفايته فيعطى تمام الكفاية وقال أبو حنيفة : لا يعطى من يملك نصابا . دليلنا أن هذا لا أصل له ، والنصوص مطلقة فلا يقبل تقييدها إلا بدليل صحيح ، ولوادعى الفقير أو المسكين عيالا وطلب أن يعطى كفايته وكفايتهم فهل يقبل قوله في العيال بغير بينة ؟ أم لا بد من البينة ؟ فيه وجهان مشهوران ، حكاهما الشيخ أبو حامد وصاحب البيان وآخرون ( أصحهما ) لا يعطى إلا ببينة لإمكانها وبهذا قطع المصنف والأكثرون .

التالي السابق


الخدمات العلمية