صفحة جزء
قال المصنف رحمهم الله : ( وسهم للرقاب وهم المكاتبون ، فإذا لم يكن مع المكاتب ما يؤدي في الكتابة وقد حل عليه نجم أعطي ما يؤديه ، وإن كان معه ما يؤديه لم يعط ; لأنه غير محتاج ، وإن لم يكن معه شيء ولا حل عليه نجم ففيه وجهان : ( أحدهما ) لا يعطى ; لأنه لا حاجة [ به ] إليه قبل حلول النجم .

( والثاني ) يعطى ; لأنه يحل عليه النجم ، والأصل أنه ليس معه ما يؤدي ، فإن دفع إليه ثم أعتقه المولى أو أبرأه من المال أو عجز نفسه قبل أن يؤدي المال إلى المولى . رجع عليه ; لأنه دفع إليه [ ص: 184 ] ليصرفه في دينه ولم يفعل ، فإن سلمه إلى المولى وبقيت عليه بقية فعجزه المولى ففيه وجهان : ( أحدهما ) لا يسترجع من المولى ; لأنه صرفه فيما عليه .

( والثاني ) يسترجع ; لأنه إنما دفع إليه ليتوصل به إلى العتق ولم يحصل ذلك ، وإن ادعى أنه مكاتب لم يقبل إلا ببينة ، فإن صدقه المولى ففيه وجهان : ( أحدهما ) يقبل ; لأن ذلك إقرار على نفسه .

( والثاني ) لا يقبل ; لأنه متهم ، لأنه ربما واطأه حتى يأخذ الزكاة ) .


( الشرح ) في الفصل مسائل : ( أحدها ) قال الشافعي والأصحاب : يصرف سهم الرقاب إلى المكاتبين . هذا مذهبنا وبه قال أكثر العلماء . كذا نقله عن الأكثرين البيهقي في السنن الكبير والمتولي . وبه قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسعيد بن جبير والزهري والليث بن سعد والثوري وأبو حنيفة وأصحابه . وقالت طائفة : المراد بالرقاب أن يشترى بسهمهم عبيد ويعتقون . وبهذا قال مالك ، وهو أحد الروايتين عن أحمد وحكاه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس والحسن البصري وعبيد الله بن الحسن العنبري وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور . واحتج أصحابنا بأن قوله عز وجل { وفي الرقاب } كقوله تبارك وتعالى { وفي سبيل الله } وهناك يجب الدفع إلى المجاهدين ، فكذا يجب هنا الدفع إلى الرقاب ، ولا يكون دفعا إليهم إلا على مذهبنا .

وأما من قال : يشترى به عبيد فليس يدفع إليهم وإنما هو دفع إلى سادتهم ; ولأن في جميع الأصناف يسلم السهم إلى المستحق ويملكه إياه ، فينبغي هنا أن يكون كذلك ; لأن الشرع لم يخصهم بقيد يخالف غيرهم ، ولأن ما قالوه يؤدي إلى تعطيل هذا السهم في حق كثير من الناس ; لأن من الناس ؟ من لا يجب عليه من الزكاة لهذا السهم ما يشتري به رقبة يعتقها ، وإن أعتق بعضها قوم عليه الباقي ، ولا يلزمه صرف زكاة الأموال الباطنة إلى الإمام بالإجماع فيؤدي إلى تفويته . وأما على مذهبنا فيمكنه صرفه إليهم ولو كان درهما . فإن قيل : الرقاب جمع رقبة وكل موضع ذكرت فيه الرقبة فالمراد [ ص: 185 ] عتقها . فالجواب ما أجاب به الأصحاب أن الرقبة تطلق على العبد القن وعلى المكاتب جميعا ، وإنما خصصناها في الكفارة بالعبد القن بقرينة ، وهي أن التحرير لا يكون إلا في القن ، وقد قال الله تعالى : { فتحرير رقبة } ولم توجد هذه القرينة في مسألتنا فحملناه على المكاتبين لما ذكرناه أولا . فإن قيل : لو أراد المكاتبين لذكرهم باسمهم الخاص ، فالجواب أن هذا منتقض بقوله عز وجل { وفي سبيل الله } فإن المراد به بعضهم ، وهم المتطوعون الذين لا حق لهم في الديوان ولم يذكروا باسمهم الخاص ، فإن قيل : لو أراد المكاتبين لاكتفى بالغارمين ، فإنهم منهم ، فالجواب أنه لا يفهم أحد الصنفين من الآخر ، ولأنه جمع بينهما للإعلام بأنه لا يجوز الاقتصار على ( أحدهما ) ، وأن لكل صنف منهما سهما مستقلا كما جمع بين الفقراء والمساكين ، وإن كان كل واحد منهما يقوم مقام الآخر في غير الزكاة ، والله تعالى أعلم .

( المسألة الثانية ) قال أصحابنا : إنما يعطى المكاتب كتابة صحيحة . أما الفاسدة فلا يعطى بها ; لأنها ليست لازمة من جهة السيد فإن له التصرف فيه بالبيع وغيره وممن صرح بالمسألة الدارمي وابن كج والرافعي .

( والثالثة ) إذا حل على المكاتب نجم ولم يكن معه وفاء دفع إليه وفاء بلا خلاف . وإن كان معه وفاء لم يعط ; لاستغنائه عنه ، وإن لم يكن معه شيء ولا حل عليه نجم ففي إعطائه وجهان مشهوران حكاهما المصنف بدليلهما ، وقل من بين الأصح منهما مع شهرتهما والأصح أنه يعطى ، صححه الجرجاني في التحرير والرافعي وغيرهما .

( الرابعة ) إذا دفعت إليه الزكاة ثم أعتقه أو أبرأه أو عجز نفسه قبل دفع المال إلى السيد والمال باق في يد المكاتبرجع الدافع فيه ; لما ذكره المصنف . هذا هو المذهب وبه قطع العراقيون وجماعة من الخراسانيين . وذكر جماعة من الخراسانيين فيما إذا حصل العتق بالإعتاق أو الإبراء قولين ، ومنهم من يحكيهما وجهين ( أصحهما ) يرجع ( والثاني ) لا يرجع بل يبقى ملكا للمكاتب .

قال الرافعي : وهذا هو الأظهر عند المتولي ، ولم أر أنا في كتاب المتولي ترجيحا له بل ذكر وجهين [ ص: 186 ] مطلقين ، وذكر الغزالي وغيره في طريقين ( أصحهما ) الرجوع ( والثاني ) على قولين ، والصحيح القطع بالرجوع ، قال أصحابنا : وهكذا الحكم ، وعلى هذا ففرض الزكاة باق على الدافع ، كما لو دفع إلى من لا يجوز الدفع إليه . قال أصحابنا : وهكذا الحكم لو دفع الزكاة إلى المكاتب فقضى مال الكتابة من كسبه أو غيره ، وبقي مال الزكاة في يده ، وكذا لو قضاه أجنبي . قالوا : وضابطه أنه متى استغنى عما دفع إليه من الزكاة ، وعتق وهو باق في يده فالمذهب أنه يرجع عليه به ; لاستغنائه عنه ، وهذا كله إذا كان المال باقيا في يده ، فإذا تلف في يده قبل العتق ثم عتق فطريقان ( المذهب ) وبه قطع الغزالي والبغوي وغيرهما أنه لا غرم ووقعت الزكاة موقعها ولا شيء على الدافع ، قال الغزالي وغيره : وكذا لو تلف بإتلافه ، وحكى السرخسي وجها أنه يغرمه المكاتب بعد العتق ، وحكاه الدارمي أيضا فيما إذا أتلفه المكاتب ، هذا إذا تلف في يد المكاتب قبل العتق ، فإن تلف في يده بعد العتق وقلنا بالمذهب إنه يرجع عليه لو كان باقيا غرمه وجها واحدا ; لأنه بالعتق صار مالا مضمونا عليه في يده فإذا تلف غرمه ، هذا كله فيما إذا أعتق فأما إذا عجز نفسه والمال باق في يده فإنه يرجع عليه بلا خلاف في جميع الطرق فإن تلف في يده ثم عجز نفسه فوجهان ( أحدهما ) لا يرجع عليه ، ونقله ابن كج عن أكثر أصحابنا ( وأصحهما ) عند الرافعي وغيره ، وأشار البغوي إلى القطع به أنه يرجع عليه .

قال الرافعي : وعلى هذا ففي الأمالي للسرخسي أن الضامن يتعلق بذمته لا برقبته ; لأن المال حصل عنده برضى صاحبه ، وما كان كذلك فمحله الذمة على القاعدة المشهورة ، قال : وذكر بعضهم أنه يتعلق بالرقبة ( قلت ) : الصحيح الأول ، هذا كله في مال لم يسلمه إلى السيد ، فلو سلمه إلى السيد وبقيت فعجزه السيد بها وفسخ الكتابة فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ، وهكذا حكاهما الجمهور وجهين ، وحكاهما القاضي أبو الطيب في المجرد قولين ، وذكر أن أبا إسحاق المروزي حكاهما قولين . واتفقوا على أن أصحهما أنه يرجع على السيد ، وممن صححه الغزالي والبغوي والرافعي وغيرهم ولو كان قد تلف في يد السيد ( فإن قلنا ) : يرجع فيه لو كان باقيا يرجع ببدله ويكون فرض الزكاة باقيا على الدافع ، وإلا فلا رجوع وقد سقط الفرض عن الدافع ، [ ص: 187 ] ولو نقل السيد الملك في المقبوض إلى غيره ثم عجز المكاتب لم يسترد من المنتقل إليه ولكن يرجع الدافع على السيد إذا قلنا بالرجوع ، ولو سلم المكاتب المال إلى السيد وبقيت منه بقية فأعتقه السيد ، قال صاحب البيان : مقتضى المذهب أنه لا يسترد من السيد لاحتمال أنه إنما أعتقه للمقبوض ، وهذا الذي قاله متعين ، ولو لم يعجز نفسه واستمر في الكتاب وتلف المال في يده أجزأ عن الدافع بلا خلاف ، والله تعالى أعلم . ولو قبض السيد الدين من المكاتب وعتق ، والغريم من المدين ثم رده إليه هبة لم يرجع الدافع عليهما ، بل أجزأه عن الزكاة ثم ملكه هذا بجهة أخرى ، وهذا لا خلاف فيه ، وممن صرح به الدارمي والله تعالى أعلم .

( المسألة الخامسة ) إذا ادعى أنه مكاتب لم يقبل إلا ببينة باتفاق الأصحاب ; لأن الأصل والظاهر عدم الكتابة مع إمكان إقامة البينة ، فإن صدقه سيده فهل يقبل ؟ فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) عند الجمهور يقبل ، ممن صححه القاضي أبو الطيب في المجرد وابن الصباغ والمتولي والبغوي والغزالي والرافعي وآخرون ، وشذ الجرجاني فصحح في التحرير عدم القبول ، والصحيح القبول ، قال أصحابنا : وأما ما احتج به القائل الآخر من احتمال المواطأة فضعيف ; لأن هذا الدفع يكون مرعيا في حق السيد ، فإن أعتق العبد وإلا استرجع المال منه .

( فرع ) قال الغزالي وآخرون : يقوم مقام البينة الاستفاضة وضبط الرافعي هذه المسألة ضبطا حسنا فنذكر كلامه مختصرا وإن كان بعضه قد سبق في الباب مفرقا قال : قال الأصحاب : من سأل الزكاة وعلم الإمام أنه ليس مستحقا لم يجز له صرف الزكاة إليه ، وإن علم استحقاقه جاز الصرف إليه بلا خلاف ، ولم يخرجوه على الخلاف في قضاء القاضي بعلمه ، مع أن للتهمة ههنا مجالا أيضا .

[ ص: 188 ] قلت ) : الفرق أن الزكاة مبنية على الرفق والمساهلة ، وليس هنا إضرار بمعين بخلاف قضاء القاضي ، وإن لم يعرف حاله فالصفات قسمان خفية وجلية ، فالخفي الفقر والمسكنة فلا يطالب مدعيهما ببينة لعسرها ، فلوعرف له مال وادعى هلاكه لم يقبل إلا ببينة ، ولو ادعى عيالا فلا بد من البينة في الأصح . وأما الجلي فضربان ( أحدهما ) يتعلق بالاستحقاق فيه بمعنى في المستقبل ، وذلك في الغازي وابن السبيل فيعطيان بقولهما بلا بينة ولا يمين ، ثم إن لم يحققا ما ادعيا ولم يخرجا استرد منهما ما أخذا ، وإلى متى يحتمل تأخير الخروج ؟ قال السرخسي : ثلاثة أيام قال الرافعي : ويشبه أن يكون هذا على التقريب ، وأن يعتبر ترصده للخروج ، وكون التأخير لانتظار أو للتأهب بأهب السفر ونحوها .

( الضرب الثاني ) : يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى الحال . وهذا الضرب يشترك فيه بقية الأصناف ، فالعامل إذا ادعى العمل طولب بالبينة ، وكذا المكاتب والغارم ، فإن صدقهما السيد وصاحب الدين فوجهان ( أصحهما ) يكفي ويعطيان : وأما المؤلف فإن قال : نيتي ضعيفة في الإسلام قبل . وإن ادعى أنه شريف مطاع طولب بالبينة . هذا هو المذهب ، وقيل : يطالب بالبينة مطلقا ، قال الرافعي : واشتهار الحال بين الناس قائم مقام البينة لحصول العلم أو الظن ، قال : ويشهد لما ذكرناه من اعتبار غلبة الظن ثلاثة أمور : ( أحدها ) قول بعض الأصحاب : لو أخبر عن الحال واحد يعتمد كفى .

( الثاني ) قال إمام الحرمين : رأيت للأصحاب رمزا إلى تردد في أنه لو حصل الوثوق بقول مدعي الغرم وغلب على الظن صدقه هل يجوز الاعتماد عليه ؟ ( الثالث ) حكى بعض المتأخرين أنه لا يعتبر في البينة في هذه الصور سماع القاضي وتقدم الدعوى والإنكار والاستشهاد ، بل المراد إخبار عدلين على صفات الشهود . قال : ثم إن سياق كلام الغزالي في الوسيط والوجيز قد يوهم أن إلحاق الاستفاضة بالبينة مختص بالمكاتب والغارم ، ولكن الوجه تعميم ذلك في كل من يطالب بالبينة من الأصناف . هذا آخر كلام الرافعي رحمه الله . والله أعلم .

[ ص: 189 ] ( فرع ) قال القاضي أبو الطيب في المجرد والشيخ نصر المقدسي وصاحب البيان وخلائق من الأصحاب : يجوز للمكاتب أن يتجر فيما أخذه من الزكاة طلبا للزيادة وتحصيل الوفاء ، وهذا لا خلاف فيه . قال الرافعي : والغارم في هذا كالمكاتب .

( فرع ) قطع الدارمي وصاحبا الشامل والبيان بأن المكاتب ليس له أن ينفق على نفسه ما أخذه من الزكاة . قال الدارمي : فكذلك الغارم . قال الرافعي : نقل بعض أصحاب إمام الحرمين أن له إنفاقه ويؤدي من كسبه ، قال الرافعي : ويجب أن يكون الغارم كالمكاتب ، والصحيح الأول ; لأن في إنفاقه مخاطرة بمال الزكاة .

( فرع ) قال البغوي في الفتاوى : لو استقرض المكاتب ما أدى به النجوم وعتق لم يجز الصرف إليه من سهم الرقاب ، لكن يصرف إليه من سهم الغارمين كما لو قال لعبده : أنت حر على ألف فقبل ، عتق ويعطى الألف من سهم الغارمين لا من سهم الرقاب . وهذا الذي قاله متعين .

( فرع ) قال الشافعي والأصحاب : يجوز صرف الزكاة إلى المكاتب بغير إذن سيده ، ويجوز الصرف إلى سيده بإذن المكاتب ، ولا يجوز الصرف إلى السيد بغير إذن المكاتب ; لأنه المستحق . فلو صرف إلى السيد بغير إذن المكاتب ، لم يجزئ الدافع عن الزكاة بلا خلاف . قال البغوي وغيره : لكن يسقط عن المكاتب من نجومه قدر المصروف ; لأن قضاء الدين يجوز بغير إذن من هو عليه . قال الشافعي والأصحاب : والأحوط والأفضل أن يصرف إلى السيد بإذن المكاتب فهو أفضل من الصرف إلى المكاتب ; لأنه أحوط في صرفه في الكتابة . هكذا أطلقه الشافعي والجمهور وقال الشيخ نصر المقدسي في تهذيبه : إن كان هذا الذي يدفعه يستوعب جميع ما على المكاتب لكثرته أو لكونه النجم الأخير بحيث يحصل العتق به . فالدفع إلى السيد بإذن المكاتب أفضل كما قاله الأصحاب . وإن كان دونه فالدفع إلى المكاتب أفضل ; لأنه ينميه بالتجارة فيه فيكون أقرب إلى العتق . والمذهب الأول .

( فرع ) لا يجوز للسيد دفع زكاته إلى مكاتبه هذا هو [ ص: 190 ] المذهب وبه قطع الجمهور . وقال أبو علي بن خيران : يجوز كالأجنبي . وهذا ضعيف ; لأنه في معنى نفسه وعبده القن .

( فرع ) لو كان المكاتب كافرا وسيده مسلما لم يعط من الزكاة ، كما ذكره المصنف في آخر الباب والأصحاب . ولو كان المكاتب مسلما والسيد كافرا جاز الدفع إلى المكاتب . صرح به الدارمي وغيره .

( فرع ) لو كان المكاتب مكتسبا فهو كغير المكتسب ، فيعطى حيث يعطى غيره ، هذا هو المذهب ، وبه قطع الدارمي وآخرون ، وهو مقتضى إطلاق الأصحاب ، وشذ القاضي ابن كج فقال في كتابه التجريد : لا يعطى إذا كان له كسب يؤدي منه ، ولعله أراد إذا استحق الكسب وصار حاملا مالا عتيدا ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية