صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى ( وأما الطهارة عن الحدث من الوضوء والغسل والتيمم فلا يصح شيء منها إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم : { إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } " ولأنها عبادة محضة طريقها الأفعال فلم تصح من غير نية كالصلاة ) .


( الشرح ) هذا الحديث متفق على صحته ، رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو حديث عظيم ، أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام بل هو أعظمهما ، وهي أربعون حديثا . قد جمعتها في جزء ، قال الشافعي - رحمه الله - : يدخل في هذا الحديث ثلث العلم ، وقال أيضا : يدخل في سبعين بابا من الفقه . وقال غيره نحو هذه العبارة . وكان السلف يستحبون أن يبدأ كل تصنيف بهذا الحديث لكونه منبها على تصحيح النية . قال العلماء : والمراد بالحديث لا يكون العمل شرعيا يتعلق به ثواب وعقاب إلا بالنية ، ولفظة ( إنما ) للحصر تثبت المذكور وتنفي ما سواه ، قال الخطابي : وأفاد قوله صلى الله عليه وسلم : " { وإنما لكل امرئ ما نوى } " فائدة لم تحصل بقوله : " { إنما الأعمال بالنيات } " وهي أن تعيين العبادة المنوية شرط لصحتها والله أعلم . [ ص: 355 ] وأما قول المصنف : ولأنها عبادة محضة . فالمحضة الخالصة التي ليس فيها شوب بشيء آخر ، واختلف العلماء في حد العبادة فقال الأكثرون العبادة الطاعة لله تعالى ، والطاعة موافقة الأمر ، وكذا نقل هذا عن المصنف . وذكر المصنف في كتابه في الحدود الكلامية والفقهية خلافا في العبادة فقال : العبادة والتعبد والنسك بمعنى وهو الخضوع والتذلل ، فحد العبادة ما تعبدنا به على وجه القربة والطاعة . قال : وقيل العبادة طاعة الله تعالى . وقيل ما كان قربة لله تعالى وامتثالا لأمره . قال : وهذان الحدان فاسدان ; لأنه قد يكون الشيء طاعة وليس بعبادة ولا قربة وهو النظر والاستدلال إلى معرفة الله تعالى في ابتداء الأمر . وقال إمام الحرمين في كتابه الأساليب في مسائل الخلاف هنا : العبادة التذلل والخضوع بالتقرب إلى المعبود بفعل ما أمر . وقال المتولي في كتابه في الكلام : العبادة فعل يكلفه الله تعالى عباده مخالفا لما يميل إليه الطبع على سبيل الابتلاء ، وقال الماوردي في الحاوي : العبادة ما ورد التعبد به قربة لله تعالى . وقيل أقوال أخر وفيما ذكرناه كفاية . وأما قول المصنف : ولأنها عبادة محضة ، فاحترز بالعبادة عن الأكل والنوم ونحوهما . وبالمحضة عن العدة . وقوله : طريقها الأفعال : قال صاحب البيان والقلعي وغيرهما : هو احتراز من الأذان والخطبة ، وقيل : احتراز من إزالة النجاسة ، فإن طريقها المتروك .

( وأما حكم المسألة ) فهو أن النية شرط في صحة الوضوء والغسل والتيمم بلا خلاف عندنا .

( فرع ) قد ذكرنا أن النية شرط في صحة الوضوء والغسل والتيمم وهذا مذهبنا ، وبه قال الزهري وربيعة شيخ مالك ومالك والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وداود ، قال صاحب الحاوي : وهو قول جمهور أهل الحجاز ، قال الشيخ أبو حامد وغيره : ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وذهبت طائفة إلى أنه يصح الوضوء والغسل والتيمم بلا نية ، حكاه ابن المنذر عن الأوزاعي والحسن بن صالح ، وحكاه أصحابنا عنهما وعن زفر ، وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري : يصح الوضوء والغسل بلا نية ، ولا يصح التيمم إلا بالنية ، وهي رواية عن الأوزاعي . [ ص: 356 ] واحتج لهؤلاء بقول الله تعالى : ( { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } ) الآية ، وبقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة رضي الله عنها : " { إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضي عليك الماء فإذا أنت قد طهرت } " وبأحاديث كثيرة في الأمر بالغسل من غير ذكر للنية ولو وجبت لذكرت ، ولأنها طهارة بمائع فلم تجب لها نية كإزالة النجاسة ، ولأنه شرط للصلاة لا على طريق البدل فلم يجب له نية كستر العورة .

واحترزوا عن التيمم لأنه بدل ولأن الذمية التي انقطع حيضها يحل لزوجها المسلم وطؤها بالإجماع إذا اغتسلت ، ولو وجبت النية لم تحل لأنها لم تصح منها ، واحتج أصحابنا بقول الله تعالى : ( { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } ) والإخلاص عمل القلب وهو النية والأمر به يقتضي الوجوب ، قال الشيخ أبو حامد واحتج أصحابنا بقول الله تعالى : ( { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } ) لأن معناه فاغسلوا وجوهكم للصلاة ، وهذا معنى النية ، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : " { إنما الأعمال بالنيات } " لأن لفظة إنما للحصر . وليس المراد صورة العمل فإنها توجد بلا نية ، وإنما المراد أن حكم العمل لا يثبت إلا بالنية . ودليل آخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " { وإنما لكل امرئ ما نوى } " وهذا لم ينو الوضوء فلا يكون له ، ومن القياس أقيسة : أحدها قياس الشافعي رحمه الله وهو أنها طهارة من حدث تستباح بها الصلاة فلم تصح بلا نية كالتيمم ، وقولنا : " من حدث " احتراز من إزالة النجاسة ، وقولنا : " تستباح بها الصلاة " احتراز من غسل الذمية من الحيض .

فإن قالوا : التيمم لا يسمى طهارة ، فالجواب أنه ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } وفي رواية في صحيح مسلم : ( وتربتها طهورا ) وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال : { الصعيد الطيب وضوء المسلم } وما كان وضوءا كان طهورا وحصلت به الطهارة . فإن قيل : التيمم فرع للوضوء ولا يجوز أن يؤخذ حكم الأصل من [ ص: 357 ] الفرع . فالجواب أنه ليس فرعا له لأن الفرع ما كان مأخوذا من الشيء ، والتيمم ليس مأخوذا من الوضوء بل بدل عنه . فلا يمتنع أخذ حكم المبدل من حكم بدله ، ولأنه إذا افتقر التيمم إلى النية مع أنه خفيف إذ هو في بعض أعضاء الوضوء فالوضوء أولى . فإن قيل : التيمم يكون تارة بسبب الحدث وتارة بسبب الجنابة فوجبت فيه النية ليتميز ، فالجواب من وجهين : ( أحدهما ) أن التمييز غير معتبر ولا مؤثر بدليل أنه لو كان جنبا فغلط وظن أنه محدث فتيمم عن الحدث أو كان محدثا فظن أنه جنب فتيمم للجنابة - صح بالإجماع .

( الثاني ) أن الوضوء أيضا يكون تارة عن البول وتارة عن النوم ، فإن قالوا : وإن اختلفت أسبابه فالواجب شيء واحد ، قلنا : وكذا التيمم وإن اختلفت أسبابه فالواجب مسح الوجه واليدين . فإن قيل : التيمم بدل وشأن البدل أن يكون أضعف من المبدل فافتقر إلى نية ككنايات الطلاق . فالجواب أن ما ذكروه منتقض بمسح الخف فإنه بدل ولا يفتقر عندهم إلى النية ، وإنما افتقرت كناية الطلاق إلى النية لأنها تحتمل الطلاق وغيره احتمالا واحدا ، والصريح ظاهر في الطلاق . وأما الوضوء والتيمم فمستويان ، بل التيمم أظهر في إرادة القربة ; لأنه لا يكون عادة بخلاف صورة الوضوء ، فإذا افتقر التيمم المختص بالعبادة إلى النية فالوضوء المشترك بينها وبين العادة أولى . فإن قيل : التيمم نص فيه على القصد وهو النية بخلاف الوضوء . فالجواب أن المراد قصد الصعيد ، وذلك غير النية .

قياس آخر : عبادة ذات أركان فوجبت فيها النية كالصلاة . فإن قالوا : الوضوء ليس عبادة ، قلنا : لا نسمع هذا ; لأن العبادة الطاعة ، أو ما ورد التعبد به قربة إلى الله تعالى ، وهذا موجود في الوضوء . وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { الطهور شطر الإيمان } " فكيف يكون شطر الإيمان ولا يكون عبادة ؟ والأحاديث في فضل الوضوء وسقوط الخطايا به كثيرة مشهورة في الصحيح قد جمعتها في جامع السنة ، وكل هذا مصرح بأن الوضوء عبادة . فإن قالوا : المراد بالوضوء الذي يترتب عليه [ ص: 358 ] هذا الفضل الوضوء الذي فيه نية ، ولا يلزم من ذلك أن ما لا نية فيه ليس بوضوء . فالجواب أن الوضوء في هذه الأحاديث هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم : " { لا يقبل الله صلاة بغير طهور } " وذكر الأصحاب أقيسة كثيرة حذفتها كراهة للإطالة . وأما الجواب عن احتجاجهم بالآية والأحاديث فمن أوجه : ( أحدها ) : جواب عن جميعها وهو أنها مطلقة مصرحة ببيان ما يجب غسله غير متعرضة للنية ، وقد ثبت وجوب النية بالآية والحديث والأقيسة المذكورات .

( والثاني ) : جواب عن الآية أن دلالتها لمذهبنا إن لم تكن راجحة فمعارضة لدلالتهم .

( الثالث ) : عن حديث أم سلمة أن السؤال عن نقض الضفائر فقط ، هل هو واجب أم لا ؟ . وليس فيه تعرض للنية . وقد عرف وجوب النية من قواعد الكتاب والسنة كما ذكرنا . وأما الجواب عن قياسهم على إزالة النجاسة أنها من باب المتروك فلم تفتقر إلى نية ، كترك الزنا وتقدم في أول الباب تقريره والاعتراض عليه وجوابه . وأما الجواب عن قياسهم على ستر العورة فهو أن ستر العورة وإن كان شرطا إلا أنه ليس عبادة محضة ، بل المراد منه الصيانة عن العيون ، ولهذا يجب ستر عورة من ليس مكلفا ولا من أهل الصلاة والعبادة كمجنون وصبي لا يميز فإنه يجب على وليه ستر عورته . وأما الجواب عن طهارة الذمية فهو أنها لا تصح طهارتها في حق الله تعالى وليس لها أن تصلي بتلك الطهارة إذا أسلمت ، هذا نص الشافعي - رحمه الله - وهو المذهب الصحيح ، وإنما يصح في حق الزوج للوطء للضرورة إذ لو لم نقل به لتعذر الوطء ونكاح الكتابية ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية