صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وسهم في سبيل الله ، وهم الغزاة [ الذين ] إذا نشطوا غزوا ، فأما من كان مرتبا في ديوان السلطان من جيوش المسلمين فإنهم لا يعطون من الصدقة بسهم الغزاة ; لأنهم يأخذون أرزاقهم وكفايتهم من الفيء ، ويعطى الغازي مع الفقر والغنى ، للخبر الذي ذكرناه في الغارم ويعطى ما يستعين به على الغزو من نفقة الطريق وما يشتري به السلاح والفرس إن كان فارسا ، وما يعطى السائس وحمولة تحمله إن كان راجلا والمسافة مما تقصر فيها الصلاة ، فإن أخذ ولم يغز استرجع منه ) .


( الشرح ) قوله ( نشطوا ) بفتح النون وكسر الشين ( والديوان ) بكسر الدال على الفصيح المشهور . وحكي فتحها وأنكره الأصمعي والأكثرون ، وهو فارسي معرب . وقيل : عربي وهو غريب .

( والحمولة ) بفتح الحاء ، وهي الدابة التي يحمل عليها من بعير أو بغل أو حمار . ومذهبنا أن سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة يصرف إلى الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان بل يغزون متطوعين ، وبه قال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى وقال أحمد رحمه الله تعالى في أصح الروايتين عنه : يجوز صرفه إلى مريد الحج ، وروى مثله عن ابن عمر رضي الله عنه . واستدل له بحديث أم معقل الصحابية رضي الله عنها قالت : { لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله ، وأصابنا مرض فهلك أبو معقل ، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من حجه جئته فقال : يا أم معقل ما منعك أن تخرجي معنا ؟ قالت : فقلت : لقد تهيأنا فهلك أبو معقل [ ص: 199 ] وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه ، فأوصى به أبو معقل في سبيل الله ، قال : فهلا خرجت عليه ؟ فإن الحج في سبيل الله } . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال " { أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج فقالت امرأة لزوجها : أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندي ما أحجك عليه ، فقالت أحجني على جملك فلان ، قال ذلك حبيسي في سبيل الله عز وجل ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله وإنها سألتني الحج معك ، قالت : أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : ما عندي ما أحجك عليه ، فقالت : أحجني على جملك فلان ، فقلت : ذلك حبيسي في سبيل الله ، فقال : أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله قال وإنها أمرتني أن أسألك ما يعدل حجة معك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقرئها السلام ورحمة الله وبركاته وأخبرها أنها تعدل حجة معي يعني عمرة في رمضان } رواهما أبو داود في سننه في أواخر كتاب الحج في باب العمرة والثاني إسناده صحيح وأما الأول حديث أم معقل فهو من رواية محمد بن إسحاق وقال فيه ( عن ) وهو مدلس والمدلس إذا قال : ( عن ) لا يحتج به بالاتفاق .

[ ص: 200 ] واحتج أصحابنا بأن المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل الله تعالى هو الغزو ، وأكثر ما جاء في القرآن العزيز كذلك . واحتج الأصحاب أيضا بحديث أبي سعيد السابق في فصل الغارمين { لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة } فذكر منهم الغازي ، وليس في الأصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة إلا الذين نعطيهم من سهم سبيل الله تعالى .

وأما الحديثان اللذان احتجوا بهما ( فالأول ) ضعيف كما سبق ( والجواب ) عن الثاني أن الحج يسمى سبيل الله ، ولكن الآية محمولة على الغزو لما ذكرناه . قال المصنف والأصحاب رحمهم الله تعالى : وأما الغزاة المرتبون في ديوان السلطان ولهم فيه حق فلا يعطون من الزكاة بسبب الغزو بلا خلاف ، وإن كان فيهم وصف آخر يستحقون به أعطوا به ، بأن يكون غارما أو ابن سبيل ، قال أصحابنا : فإن أراد رجل من المرتزقة المرتبين في الديوان أن يصير من أهل الزكوات المتطوعين بالغزو ويترك سهمه من الديوان جعل من أهل الصدقات ، وكذا لو أراد واحد من أهل الصدقات أن يصير من المرتزقة جعل منهم ، فيعطى من الفيء ولا يعطى من الصدقات ، قال أصحابنا : ولا حق لأهل الصدقات في الفيء ، ولا للأهل الفيء في الصدقات . [ ص: 201 ] فإن احتاج المسلمون إلى من يكفيهم شر الكفار ولا مال في بيت المال ، فهل يجوز إعطاء المرتزقة من الزكاة من سهم سبيل الله تعالى ؟ فيه قولان مشهوران في طريقة خراسان ( أصحهما ) لا يعطون كما لا يصرف الفيء إلى أهل الصدقات ( والثاني ) يعطون ; لأنهم غزاة ، قال أصحابنا : فعلى الأول يجب على أغنياء المسلمين إعانتهم . قال المصنف والأصحاب : ويعطى الغازي مع الفقر والغنى ; للحديث السابق ولأن فيه مصلحة للمسلمين .

قال أصحابنا : ويعطى ما يستعين به على الغزو فيعطى نفقته وكسوته مدة الذهاب والرجوع والمقام في الثغر ، وإن طال ، وهل يعطى جميع المؤنة أم ما زاد بسبب السفر ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) الجميع ، وهو مقتضى كلام الجمهور ، ويجريان في ابن السبيل ، ويعطى ما يشتري به الفرس إن كان يقاتل فارسا ، وما يشتري به السلاح وآلات القتال ، ويصير ذلك ملكا للغازي ، ويجوز أن يستأجر له الفرس والسلاح من مال الزكاة ، ويختلف الحال بكثرة المال وقلته ، فإن كان يقاتل راجلا لم يعط للفرس شيئا ، ويعطى ما يحمل عليه الزاد ويركبه في الطريق إن كان ضعيفا أو كان السفر مسافة القصر . قال أصحابنا : ويسلم الإمام إلى الغازي ثمن الفرس والسلاح والآلات : ثم الغازي يشتريها . قال القاضي أبو الطيب والأصحاب : فلو استأذنه الإمام في شراها له بمال الزكاة فأذن جاز ، فلو أراد الإمام أن يشتري ذلك بمال الزكاة ويسلمه إلى الغازي بغير إذنه هل يجوز ؟ فيه وجهان .

( أحدهما ) لا يجوز ، بل يتعين تسليم مال الزكاة إلى الغازي أو إذنه وبه قطع جماعة من العراقيين ، وهو ظاهر عبارة آخرين منهم ( وأصحهما ) يجوز ، وهو الذي صححه الخراسانيون وتابعهم الرافعي على تصحيحه ، وقطع به جماعة منهم ، قال الخراسانيون : الإمام بالخيار إن شاء سلم الفرس والسلاح والآلات إلى الغازي أو ثمن ذلك تمليكا له فيملكه ، وإن شاء استأجر ذلك له ، وإن شاء اشترى من سهم سبيل الله سبحانه وتعالى أفراسا وآلات الحرب وجعلها وقفا في سبيل الله ، ويعطيهم عند الحاجة ما يحتاجون إليه ثم يردونه إذا انقضت حاجتهم وتختلف المصلحة في ذلك بحسب قلة المال وكثرته .

( وأما ) نفقة عيال الغازي فقال الرافعي في بعض شروح المفتاح : [ ص: 202 ] أنه يعطى نفقته ونفقة عياله ذهابا ومقاما ورجوعا ، قال : وسكت المعظم عن نفقة العيال ، ولكن إعطاؤه إياها ليس بعيدا كما ينظر في استطاعة الحج إلى نفقة العيال ، فيعتبر غناه لعياله كنفسه ، والله تعالى أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : إنما يعطى الغازي من الزكاة إذا حضر وقت الخروج ليهيئ به أسباب سفره ، فإن أخذ ولم يخرج إلى الغزو استرجع منه ، كذا قاله المصنف والأصحاب ، واتفقوا عليه ، وقد سبق في فصل المكاتب بيان كم يمهل في الخروج . قال أصحابنا : وكذا لو مات في الطريق أو امتنع الغزو بسبب آخر استرد ما بقي معه ، ذكره البغوي وآخرون ولو غزا ورجع وبقي معه شيء من النفقة فإن لم يقتر على نفسه . وكان الباقي قدرا صالحا استرد منه . لأنا تبينا أن المدفوع إليه كان زائدا . وإن لم يقتر على نفسه وكان الفاضل يسيرا لم يسترجع منه ، كذا نقله الرافعي قال : وهذا لا خلاف فيه . قال : وفي مثله في ابن السبيل يسترد على الصحيح المشهور . وفيه وجه ضعيف أنه لا يسترد أيضا ونسبه بعضهم إلى النص والفرق على الصحيح أنا دفعنها إلى الغازي لحاجتنا وقد فعل . ودفعنا إلى ابن السبيل لحاجته وقد زالت .

( أما ) إذا قتر الغازي على نفسه وفضل شيء بحيث لو لم يقتر لم يفضل لم يسترد بلا خلاف . لأنا دفعنا إليه كفايته فلم نرجع عليه بما قتر كالفقير إذا أعطيناه كفايته فقتر وفضل فضل عنده لا يسترجع منه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية