صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى ( والأفضل أن ينوي من أول الوضوء إلى أن يفرغ منه ليكون مستديما للنية ، فإن نوى غسل الوجه ، ثم عزبت نيته أجزأه ; لأنه أول فرض ، فإذا نوى عنده اشتملت النية على جميع الفروض ، وإن عزبت نيته عند المضمضة قبل أن يغسل شيئا من وجهه ففيه وجهان ( أحدهما ) : يجزيه ; لأنه فعل راتب في الوضوء لم يتقدمه فرض ، فإذا عزبت النية عنده أجزأه كغسل الوجه .

( والثاني ) لا يجزيه وهو الأصح لأنه عزبت نيته قبل الفرض ، فأشبه إذا عزبت عند غسل الكف ، وما قاله الأول يبطل بغسل الكف ، فإنه فعل راتب في الوضوء لم يتقدمه فرض ، ثم إذا عزبت النية عنده لم يجزه ) .


( الشرح ) في هذه القطعة مسائل : ( إحداها ) الأفضل أن ينوي من أول الوضوء ويستديم إحضار النية حتى يفرغ من الوضوء وهذا الاستحباب متفق عليه ، وأول الوضوء التسمية قال القاضي أبو الطيب والمتولي : يستحب استصحاب نية الوضوء كما يستحب في الصلاة أن يستديم نيتها من افتتاحها إلى التسليم منها ، وهذا الذي قالاه تصريح بالتسوية بين الصلاة والوضوء في استحباب النية فيهما إلى الفراغ منهما ، وإنما ذكرت هذا لأني رأيت كثيرا توهم أن ذلك لا يستحب في الصلاة لكون الجمهور لم يتعرضوا له ، وهذا [ ص: 361 ] وهم فاسد . وذكر الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه الوجيز الذي صنفه في العبادات أن الأكمل أن ينوي مرتين ، مرة عند ابتداء وضوئه ومرة عند غسل وجهه ، ونقل الروياني هذا عن القفال واستحسنه والله أعلم .

المسألة الثانية : إذا نوى عند ابتداء غسل الوجه ولم ينو قبله ولا بعده صح وضوءه بلا خلاف ، ولو غسل نصف وجهه بلا نية ثم نوى مع غسل باقيه لم يصح ما غسله منه بلا نية بلا خلاف لخلو بعض الفرض عن النية ، فيعيد غسل ذلك النصف قبل شروعه في غسل اليدين . وقول المصنف : ( نوى عند غسل الوجه ) يعني عند أوله صح الوضوء بنية عند غسل الوجه ، فهل يثاب على السنن السابقة للوجه التي لم تصادف نية وهي : التسمية ، والسواك وغسل الكفين ، والمضمضة ، والاستنشاق ؟ فيه طريقان : ( أحدهما ) : وبه قطع الجمهور : لا يثاب عليها ولا تحسب من طهارته لأنه عمل بلا نية فلم يصح كغيره ، ممن قطع بهذا القاضي حسين وإمام الحرمين والغزالي في البسيط والمتولي والبغوي في كتابيه التهذيب وشرح السنة وصاحب العدة وآخرون . والطريق الثاني ذكره صاحب الحاوي أنه على الوجهين ( أحدهما ) : هذا ( والثاني ) : يثاب ويعتد به من طهارته لأنه من جملة طهارة منوية ، وذكر إمام الحرمين هذا احتمالا لنفسه وخرجه ممن نوى صوم التطوع ضحوة فإنه يحسب ثواب صومه من أول النهار على أصح الوجهين قال : والمحفوظ في الوضوء أن النية لا تنعطف ، وفرقوا بينه وبين الصوم بفرقين : ( أحدهما ) : أن الصوم خصلة واحدة فإذا صح بعضها صح كلها ، والوضوء أركان متغايرة ، فالانعطاف فيها أبعد .

( والثاني ) : أنه لا ارتباط لصحة الوضوء بالمضمضة فإنه يصح بدونها بخلاف إمساك بقية النهار والله أعلم .

المسألة الثالثة : إذا نوى عند غسل الكف أو المضمضة أو الاستنشاق وعزبت نيته قبل غسل شيء من الوجه ففيه ثلاثة أوجه مشهورة للخراسانيين ، وذكرها من العراقيين الماوردي وغيره : ( أحدها ) : يجزيه ويصح وضوءه قاله أبو حفص بن الوكيل .

( والثاني ) : لا يجزيه قاله أبو العباس بن سريج .

( والثالث ) : إن عزبت عند الكف لا يجزيه وإن عزبت عند المضمضة أو [ ص: 362 ] الاستنشاق يجزيه ودليلها ما ذكره المصنف . واتفق الجمهور على أن الأصح أنه لا يصح وضوءه وقطع به جماعة من أصحاب المختصرات ، وشذ عنهم الفوراني فصحح الصحة . ولو نوى عند التسمية أو الاستنجاء ثم عزبت نيته قبل غسل الكف قطع الجمهور بأنه لا يجزيه . وحكى الفوراني وصاحبا العدة والبيان فيه وجها أنه يجزيه وليس بشيء . وهذا الذي ذكرناه من الخلاف في المضمضة والاستنشاق هو فيما إذا لم ينغسل معهما شيء من الوجه بأن تمضمض من أنبوبة إبريق ونحوه ، وأما إذا انغسل معهما شيء من الوجه كبعض الشفة ونحوها كما هو الغالب ففيه طريقان قطع جمهور العراقيين بأنه يصح وضوءه ، ممن صرح به الشيخ أبو حامد وأصحابه الثلاثة القاضي أبو الطيب في تعليقه والماوردي والمحاملي في كتابيه المجموع والتجريد والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم ، وحكى صاحبا التتمة والعدة وغيرهما وجهين : ( أحدهما ) : هذا ( والثاني ) : أنه كما لو لم يغسل شيئا من الوجه فيكون فيه الخلاف السابق . وقال صاحب البيان : إن غسل ذلك الجزء بنية الوجه أجزأه قطعا ، وإلا ففيه الوجهان كما قال صاحبا التتمة والعدة ، وانفرد البغوي فقال : الصحيح أنه لا يجزيه وإن انغسل شيء من الوجه لأنه لم يغسله عن الوجه بدليل أنه لا يجزيه عن الوجه بل يجب غسله ثانيا ، وهذا قوي ولكن خالفه صاحب التتمة فقال : يجزيه غسل ذلك المغسول من الوجه ولا تجب إعادته إذا صححنا النية وإن كان نوى به السنة قال : وهذا على طريقة من يقول : يتأدى الفرض بنية النفل وهذه القاعدة فيها خلاف وتفصيل سنذكره إن شاء الله تعالى في باب سجود السهو حيث ذكرها المصنف والأصحاب ، وأشار الغزالي في البسيط إلى نحو هذا الذي في التتمة والله أعلم .

( فرع ) قول المصنف : لأنه فعل راتب في الوضوء لم يتقدمه فرض . احترز بقوله : ( فعل ) عن التسمية ، وبقوله : ( راتب في الوضوء ) من الاستنجاء ، وبقوله : ( لم يتقدمه فرض ) من غسل الذراعين ، وقوله : ( نوى عند غسل الوجه ) يقال عند وعند وعند بكسر العين وفتحها وضمها [ ص: 363 ] ثلاث لغات حكاهن ابن السكيت وغيره أشهرهن الكسر ، وبها جاء القرآن ، وقوله : " عزبت " أي ذهبت وهو بفتح الزاي والمضارع يعزب بضم الزاي وكسرها لغتان مشهورتان والمصدر عزوب والله أعلم .

( فرع ) وقت نية الغسل عند إفاضة الماء على أول جزء من البدن ولا يضر عزوبها بعده ، ويستحب استصحابها إلى الفراغ كالوضوء ، فإن غسل بعض البدن بلا نية ثم نوى أجزأه ما غسل بعد النية ويجب إعادة ما غسله قبلها . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية