صفحة جزء
[ ص: 229 ] باب صدقة التطوع قال المصنف رحمه الله تعالى : ( لا يجوز أن يتصدق بصدقة التطوع وهو محتاج إلى ما يتصدق به لنفقته أو نفقة عياله ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه { أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله عندي دينار ، فقال : أنفقه على نفسك ، قال : عندي آخر . قال : أنفقه على ولدك ، قال : عندي آخر ، قال : أنفقه على أهلك ، قال : عندي آخر : قال أنفقه على خادمك ، قال : عندي آخر ، قال : أنت أعلم به } وقال صلى الله عليه وسلم : { كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت } ولا يجوز لمن عليه دين ، وهو محتاج إلى ما يتصدق به لقضاء دينه ; لأنه حق واجب ، فلم يجز تركه بصدقة التطوع كنفقة عياله ) .


( الشرح ) حديث أبي هريرة حديث حسن رواه أبو داود والنسائي في سننهما بإسناد حسن ، ولكن وقع في المهذب في الدينار الثالث { أنفقه على أهلك } وفي سنن أبي داود { تصدق به على زوجتك أو زوجك } كذا جاء على الشك ، وهما لغتان في المرأة ، يقال لها : زوج وزوجة ، وحذف الهاء أفصح وأشهر ، وبه جاء القرآن العزيز ، ووقع في المهذب في كل الدنانير { أنفقه على كذا } وفي سنن أبي داود { تصدق به } بدل أنفقه . وأما الحديث الآخر { كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت } فرواه أبو داود بلفظه بإسناد صحيح رواه مسلم في صحيحه بمعناه { كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته } وهو من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص .

( أما الأحكام ) ففيه مسألتان ( إحداهما ) إذا كان محتاجا إلى ما معه لنفقة نفسه أو عياله ، هل يتصدق صدقة التطوع ؟ فيه ثلاثة أوجه : ( أحدها ) لا يستحب ذلك ، ولا يقال : مكروه ، وبهذا قطع الماوردي والغزالي وجماعة من الخراسانيين وتابعهم الرافعي فقال : لا يستحب له التصدق ، وربما قيل يكره ، وقال الماوردي : صدقة التطوع قبل أداء الواجبات من الزكوات والكفارات ، وقيل : الإنفاق على من [ ص: 230 ] تجب نفقتهم من الأقارب والزوجات غير مستحبة ولا مختارة . هذا لفظه .

( والثاني ) يكره ذلك ، وبه قطع المتولي .

( والثالث ) وهو الأصح لا يجوز ، وبه قطع المصنف هنا وفي التنبيه وشيخه القاضي أبو الطيب والدارمي وابن الصباغ والبغوي وصاحب البيان وآخرون ، وظاهر نص الشافعي رضي الله عنه إشارة إلى الوجه الأول لأنه قال في مختصر المزني : أحب أن يبدأ بنفسه ثم بمن يعول ; لأن نفقة من يعول فرض ، والفرض أولى به من النفل ، ثم بقرابته ، ثم من شاء ، هذا نصه رضي الله عنه ( فإن قيل ) : يرد على المصنف وموافقيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه " أن رجلا من الأنصار بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : نومي الصبيان ، وأطفئ السراج ، وقدمي للضيف ما عندك " فنزلت هذه الآية { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } هذا حديث صحيح رواه الترمذي بهذا اللفظ ، وهو في صحيحي البخاري ومسلم أبسط من هذا ( فالجواب ) من وجهين : ( أحدهما ) أن هذا ليس من باب صدقة التطوع ، إنما هو ضيافة ، والضيافة لا يشترط فيها الفضل عن عياله ونفسه لتأكدها ، وكثرة الحث عليها ، حتى إن جماعة من العلماء أوجبوها . ( والثاني ) أنه محمول على أن الصبيان لم يكونوا محتاجين حينئذ ، بل كانوا قد أكلوا حاجتهم ، ( وأما ) الرجل وامرأته فتبرعا بحقهما ، وكانا صابرين فرحين بذلك ، ولهذا جاء في الآية والحديث الثناء عليهما .

( فإن قيل ) : قوله : نومي صبيانك ، وغير هذا اللفظ مما جاء في الحديث يدل على أن الصبيان كانوا جياعا ، ( فالجواب ) أن الصبيان لا يتركون الأكل عند حضور الطعام ، ولو كانوا شباعا ، فخاف إن بقوا مستيقظين أن يطلبوا الأكل عند حضور الطعام على العادة فينكدوا عليهما ، وعلى الضيف لقلة الطعام . والله تعالى أعلم .

( المسألة الثانية ) إذا أراد صدقة التطوع وعليه دين ، فقد أطلق المصنف وشيخه أبو الطيب وابن الصباغ والبغوي وآخرون ، [ ص: 231 ] أنه لا تجوز صدقة التطوع لمن هو محتاج إلى ما يتصدق به لقضاء دينه ، وقال المتولي وآخرون : يكره ، وقال الماوردي والغزالي وآخرون : لا يستحب ، وقال الرافعي : لا يستحب ، وربما قيل : يكره هذا كلامه ، والمختار أنه إن غلب على ظنه حصول الوفاء من جهة أخرى فلا بأس بالصدقة وقد تستحب ، وإلا فلا تحل ، وعلى هذا التفصيل يحمل كلام الأصحاب المطلق ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية